أو استعباد النساء
أوائل ستينات القرن الماضي كتبت بيتي فريدان كتابها الرائد في الحركة النسوية: اللغز الأنثوي والذي يتحدث عن الاكتئاب وعدم الرضا الذي واجهته الزوجات الأمريكيات رغم توفر جميع مقومات الحياة ورغم البروباغندا السائدة في ذلك الوقت عن ملائكية الحياة الزوجية. تقترح بيتي فريدان أن الزوجات الأمريكيات يشعرن بعدم الرضا وتحقيق الذات لأنهن يقبعن في منازل أزواجهن دون تحقيق أي هدف في الحياة، لكن ذلك بالطبع يطرح معضلة كون الكثير والكثير من الرجال الذين يعملون ولا يبقون في المنزل يشعرون بالاكتئاب كذلك وعدم وجود معنى لحيواتهم.
لكن ما شغل تفكيري فعلا أثناء قراءة الكتاب هو إذا كان لغز أسى النساء الأمريكيات هو عدم تحقيق الذات فما هو لغز الأنثى العربية؟ فهي اليوم تذهب للجامعة -ولو كان ذلك أحيانًا للحصول على زوج كما ذكرت بيتي- وتحصل على أرقى الشهادات في مختلف التخصصات، وتعمل وتترقى في السلم الوظيفي، ولها مقاعد مخصصة في البرلمان وغيره، ولكن رغم كل ذلك يبقى هنالك لغز ما!
الكثير من النساء اللواتي يذهبن إلى العمل يعدن إلى منازلهن ليعملن أكثر والإحاطة بجميع واجبات الزوجة والأم وربة المنزل وكأن العمل فرضته الأوضاع المادية الحديثة، وفي أحيان أخرى يذهبن للجامعات المرموقة فقط ليلتزمن المنزل بعد ذلك لأن أوضاع الزوج المادية ميسورة ولا يرضا “أن يتأمر أحدهم على زوجته في العمل” ولا تتعدى الشهادة الجامعية كونها مؤهل في CV الخطبة.
إن جميع الأمور الآنفة الذكر تبدو كهبة متصدق بها من سلطة أعلى؛ هي خيارات منحت لها ولم تخترها. فهي تذهب إلى العمل لأن زوجها لا يرى غضًا في ذلك، وتذهب للجامعة لأن الوالد لا يمانع، ولكن لو أحس بأي خطأ فباستطاعته سحب هذه النعمة منها. إن هذا الأمر ومن دون مواربة أو مجاملة في استخدام الكلمات يدعى عبودية.
هذه السلطوية يمارسها الجميع من المتدينين والملحدين وحتى الذين يطالبون بحريات المرأة أنفسهم، فهي لها الحق بارتداء ما تراه مناسبًا ولكن لو ارتدت النقاب فهي إرهابية، ويحق لها التعلم والعمل ولكن لو رغبت البقاء في المنزل والاعتناء بالأطفال فهي رجعية ومغرر بها. إن هذه السلطوية نابعة من فكرة أن النساء غير قادرات على اتخاذ قرارات حكيمة بأنفسهن، وأنهن ضعيفات أمام العالم ومعرضات للوقوع في الخطيئة كجزء أساسي من طبعهن مما يفرض الحاجة لوصي وولي ليقرر عنهن، وهذا الحاكم أو السيد مهما تغير لقبه أو منزلته الاجتماعية سيكون رجلًا بالرغم من أن بعض النساء يشاركن طوعاً في استعباد نساءٍ أخريات لصالح السيد المطلق.
قد يكون استخدام مثل هذه الكلمة لوصف الوضع جارحًا وقاسيًا ولكن ماذا يمكن أن نسمي وقوع حرية الاختيار بيد الغير بأي مصطلح غير ذلك، أم يجب أن نخدع أنفسنا بوهم وتسميات بعيدة كل البعد عن الواقع مثلما كتب أحدهم كراسًا صغيرا وسطحيًا عنوانه “إنها ملكة” ومن الأمثلة التي روج لها لدعم هذا العنوان قوله: إنها ملكة سفكت من أجل عرضها الدماء وترخص لأجلها الأرواح وتنفق الأموال. لكنه لم يتساءل ماذا لو لم ترد المرأة أن يسفك بحجتها أي دم؟ عدا أنه كغيره يعلم أن أول من يُسفك دمه في قضية العرض هي المرأة دون أن يشفع لها كونها المعتدى عليها، وإن سفك الدماء هذا ليس لجلالها ولمنزلتها بل بسبب الغيرة الذكورية على ما يملك. بينما كان الأحرى به تسمية الكتاب استعباد النساء كما فعل جون ستيوارت مل قبل حاولي 150 عام.
إن هذا الاستعباد كما يقول مل بأدق العبارات ليس كأي نوع من الاستعباد بل إن “سادتهن يطالبونهن بشيء أكثر من الخدمة الفعلية، فالرجال لا يريدون طاعة النساء فحسب، بل يريدون مشاعرهن أيضًأ. فجميع الرجال، باستثناء الأكثر وحشية، لا يريدون أن تكون المرة المرتبطة بهم مجرد “عبد” أو “جارية”، بل يرغبون أن تكون عبدًا أو جارية بإرادتها ورغبتها لا عن طريق الجبر والإكراه. ومن هنا فقد استخدموا جميع الوسائل لاستعباد عقولهن”.
إن هذا الاستعباد قائم على تربية تقول بأن الرجل هو الأقوى والأقدر والأكثر فهمًا حتى لو كان طفلاً وأن رضاه من رضى الرب كما كان رضا وأحكام الملك الكاثوليكي من رضا الرب والتمرد على سلطته هو فحش وجنون، لذا فبالرغم من عدم وجود قيود حديدية أو قوانين ملكية إلا أن القيود العقلية والاجتماعية أقوى من أي نظام رق آخر.
أرجو ألا يعتبر كلامي هذا أحد التنظيرات عن حقوق المرأة. إن التنظير التحرري والعلاجات السطحية مثل مقاعد مخصصة في البرلمان والنصائح المتعاطفة والفيديوهات التشجيعية عن أمثلة لنجاح نساء في عالم الرجل تغرق المشكلة في اللاواقعية، حتى أن الحركات النسوية ودعوات تحرير المرأة صارت تواجه بضحك مُرّ وسخرية سوداء من قبل النساء العربيات، وقد وصلن حد السأم من كثرة التنظير والشفقة، والحلول المتطرفة مثل دعوات خلع الحجاب أو منع الرضاعة الطبيعية …الخ لا يمكن لأحد أن يأخذها على محمل الجد وتعالج شكل المشكلة وليس جوهرها. إن هذه الأسطر هي مجرد تعقيب وتأمل في كتاب بيتي فريدان، أما الحل فهو شكليًا أن يسترخي الرجال قليلا ويتوقفون التصرف كآلهة تقرر مسار حياة كل من حولهم، وفعليًا منهاج كامل وشامل في التربية يعلم الأطفال من صغرهم أنه لا حق لأي شخص في تقرير مصير شخص آخر ولا الاختيار عنه.