” لن يفنى العالم بسبب قنبلةٍ نوويّة كما تقول الصّحف بل بسبب الابتذال والإفراط في التّفاهة التي ستحوّل الواقع إلى نكتةٍ سخيفة “
أيّ حدٍ من الوعي والقدرة على التنبؤ تلك التي حازها “كارلوس زافون” ليقول هذا قبل عشرين سنة …
حاولْ أن تكون قابلاً للتعليب ، فالتّافهون قد أمسكوا بالسّلطة ، للأسف ليس هذا تعبيراً مجازيّاً ، إنّما لعلّه أكثر التعابير واقعيّة ، لا نستطيع إنكار قدرة السّلطة في أيّ مكان على تشكيل وعي الفرد و التأثير المباشر عليه بشتّى الطرق من إعلامٍ إلى تعليمٍ إلى ترفيه ، شئنا أم أبينا نحن نتاج السّلطة التي نخضع لها ، فلمّا كان كلّ ما حولنا يشير إلى تدنٍ بالقيم وتأصيلٍ للتّفاهة قد لا نكون منطقيين حين نتوقع وعياً أعلى ، فالسّلطة ذاتها التي كانت تعمل سابقاً على رفع وعي النّاس و زيادة رقيّهم من خلال الفن الذي تدعمه والثّقافة التي تشجّعها ، ها هي اليوم تدفعهم إلى الغرق في مستنقع التّفاهات اللامنتهي لتحكم سيطرتها عليهم .
تدرّج نشوء التّفاهة:
لم نستيقظ يوماً لنجد كلّ ما حولنا مغرقاً بالتّفاهة ، إنّما هي سياسة التدرّج ، بدأ الأمر أولاً بنسف المسلّمات ، كلّ القيم الأخلاق الأصول تُنسف اليوم بذريعة الحريّة ، حيث لا قيود ، كلّ شيءٍ مباح و بكافّة الطرق ، هكذا إلى أن صار الجواب الأعمّ تجاه أيّ معترضٍ على سلوكٍ منافٍ للفطرة والطبيعة ” لكل منّا حرية الاختيار ” حتّى وإن كان الاختيار يعارض المنطق والفطرة والقوانين والدّين.
كلّ شيء غدا بلا ضوابط مع الإصرار على الاحتفاظ بالتّسميات نفسها لتمييع القيم والأصول ، عصر اللامبادئ ، ليس عليك سوى أن تجيد التملّق في سبيل أن تحقق مصلحتك الشخصيّة وتبقى داخل اللعبة ، لم يعد العالم محكوماً من الأكفأ والأكثر ذكاء ، بل هي قوانين غير مكتوبة ، لعبةٌ عليك اتقانها لتنجح ، الأمر لا يتعلق بكفاءتك أو شهاداتك ولا حتّى إنجازاتك ، فقط من يجيد ممارسة اللعبة هو الذي يسود ، فيجري كلّ شيء من حولك كما هو مخططٌ لها ضمن بروتوكول معيّن ، ولا ضير إن تخطيت القيم والمبادئ في سبيل إتقان اللعبة .
لماذا التّفاهة ؟
صناعة التّفاهة صناعةٌ سهلةٌ ، محتواها فارغ والنّاس على اختلافهم تميل للسهولة واليسر ، إنها كمخدّر يعطّل الحواس ويجعل النّفس في حالةٍ من الغياب عن الواقع ، اللغز ليس غامضاً بل ربّما لا يقال عنه لغز ، عالم اليوم لم يعد كما السابق محكوماً بسلطةٍ دينيّة أو قيمية ولا حتّى مذهبيّة ، إنّها سلطة المادّة وحسب ، والمادّة بجلّها تتركز بأيدي قوىً بعينها لا تريد سوى زيادة أرباحها ، وإن كان على حساب القيم والقوانين ، إذاً ما الطريق الأسهل أمامها ؟
شغل العالم كلّه بمهرجين ، لا يملكون قيمةً ليعرضونها ، إنّما يقبلون أن يصبحوا هم مادة العرض ولو كان العرض يتناول أجسادهم أو حياتهم الخاصّة ، المهم بالنسبة لهم زيادة الأرباح ، لا تحتاج إلى أكثر من تصفّح ما يسمى “التريند” لترى مثلاً لوحةً فارغة تُباع بمليون دولار ، أو أعداداً ممن يستعرضون لك حياتهم الخاصّة بشتّى تفاصيلها وبتمثيّل ومثاليّة زائدة فقط ليحصلوا على مشاهدات أكثر ، و خلف كل مهرجٍ من أولئك قطيعٌ يلحق به من المعجبين ولو كان جلّ ما يفعله كذب وادّعاء ، ولا نستطيع إنكار ما يخلّفه أسلوب الحياة هذا من آثار نفسيّة ، تتمثّل بشعورٍ هائل بالذنب تجاه كمية اللاقيمة التي ينشرها ، مما يدفعه لتغطية ذلك بمساعدات خيرية أو إنسانية ليشعر أنّ له قيمة من جهة وليزيد شهرته من جهة أخرى ، وهي ظاهرةٌ قد غدت معروفة في علم النفس ،
ولا تنحصر التّفاهة في مجالٍ دون آخر ، إنّها كالطوفان الذي يأكل كلّ ما أمامه ، وسط دعم مادي وتشجيع شعبي ، للحفاظ على مستويات فكر متدنية تعجز عن التفكير بأكثر من متابعة هذا الكمّ الهائل من التّافهين ، وليس ذلك و حسب إنّما ستجد نفسك منبوذاً حين تكون خارج الركب وكأنّ النّاس كلّهم قد ضلّوا عن الحق ولحقوا ركب الباطل.
تفاهة الأدب والفن
جرب أن تقوم بأيّ استطلاعٍ للرّأي لترى الذوق العام الفاسد الذي وصلنا له ، لم يعد الفن تلك المساحة من التّعبير المرهف الذي لا تشوبه شائبة ، حتّى الفن صار صناعة ، ولنأخذ مثالاً عن الفن التجريدي الذي صنعته أمريكا بعيد الحرب الباردة ، فنٌ يدرك صانعوه أنّه فارغ ، فنٌ – بالحرفيّة – ليس أكثر من “شخابيط” ، كلّ الغاية منه صنع إرثٍ ثقافيٍ لبلدٍ لا يملك أيّ تاريخٍ مشرّف ، ولكون الثقافة جزءاً من القوميّة كان لا بدّ لهم من أن يدفعوا ليصنعوا فناً ، فاشتروا رموزاً في الأدب والثّقافة والفنون يتماشون مع النّظام الذي ينادون به وهكذا أفقدوا الفن مصداقيّته الانسانيّة ، حتّى الرّواية لم تسلم من راكبي موجة التّفاهة ، فكميّات لا تحصى من الرّوايات التي تطبع باللهجة العاميّة بمواضيع و محتوى أرخص من الورق الذي خطّت عليه .

التفاهة في الغاية
وجود الحياة قائمٌ على الصّراع ، صراعٌ بين الحق والباطل ، القيمة واللاقيمة ، والصراع في عصرنا الحالي على السلطة قائمٌ على سياسة الاستعباد ، تفّه القيم وحوّل الكائنات إلى مستهلكين لتستطيع إحكام السّيطرة عليهم ، الأمر كلّه رأسماليٌ اقتصادي لا يتعلق بشعوب عربيّة وحسب إنّما بالشباب ككل ، تحويلهم إلى مستهلكين يضمن أن لا يفكروا بشيءٍ ذي قيمة ، وأن لا يسعوا إلى بناء حضارة أو عمران ، ويعزز ذلك زمن الحريات الذي نعيشه ، كلّ ما يخطر لهم مباح ، حتّى أكثر الحقائق بساطةً هناك من يشكّك بها ، والعيش بهذا المبدأ تبعاً للرغبات والشهوات ، لا يورث سوى مزيداً من الضياع والانحدار ، وهكذا تكون حضارة اليوم قد دخلت مرحلتها الأخيرة وباتت عاجزةً سوى عن الإنتاج المادي وهو مالا يعارض نظام التّفاهة أصلاً ، فمن أين سنخرج جيلاً عظيما ً إن كانت أعظم غاياته مواكبة رموز التفاهة والتّشبّه بهم ؟
أين باب الخروج ؟
كما صناعة التفاهة تدريجيّة منظمّة ، فإنّ الخروج من هذا المأزق أيضاً يتطلّب جهداً منظّماً ممنهجاً ، ولعلّ أوّلها – من وجهة نظري – صناعة الرموز البديلة القادرة على منافسة هذا الركب من رموز التّافهين ، فمقاومة مدّ التفاهة الطاغي ليس بالأمر الهيّن إنّما يلزمه جهوداً عظيمة ، توسّع المدراك وتبني الآفاق ، لا تستطيع الخروج من هذه الدائرة المحكمة مالم تدرك مآلها ، فلتدرك أنّك على طريق الصواب عليك أن تعرف كلّ الطرق الأخرى لتثمّن قيمة طريقك ، وتعي بنفسك فتحملها على طلب معالي الأمور وليس سفاسفها.

كتبتها: ولاء متاعة
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.