التصنيفات
ثقافة

لماذا يجب أن تقرأ الكلاسيكيات

يعتقد الكثيرون أن المقصود بالكتب الكلاسيكية هي الكتب القديمة والتي قد تحمل قيمة أدبية أكثر من كونها ذات صلة بالحاضر ومشاكله. لكن هذه نظرة خاطئة جدًا. إن أحد أبرز مقومات العمل الكلاسيكي هو تحديه للزمن وصلته بكافة الأجيال كما سنرى، لذا من الأفضل في البدء توضيح ما المقصود بالأعمال الكلاسيكية.

   يعتقد الكثيرون أن المقصود بالكتب الكلاسيكية هي الكتب القديمة والتي قد تحمل قيمة أدبية أكثر من كونها ذات صلة بالحاضر ومشاكله. لكن هذه نظرة خاطئة جدًا. إن أحد أبرز مقومات العمل الكلاسيكي هو تحديه للزمن وصلته بكافة الأجيال كما سنرى، لذا من الأفضل في البدء توضيح ما المقصود بالأعمال الكلاسيكية.

نستخدم مصطلح “عمل كلاسيكي” لتلك الأعمال الرفيعة، عالية الجودة التي يعتز بها أولئك الذين قرأوها وأحبوها. وعندما يتحدث عنها الناس فإنهم في الغالب يذكرون أنهم يعيدون قراءتها لأنهم في الغالب تعرفوا عليها في المدرسة أو الجامعة لكنهم احتاجوا لقراءتها مرة أخرى في ضوء التجارب الحياتية التي تعرضوا لها.

في الواقع، القراءة في الشباب يمكن أن تكون غير مثمرة، بسبب نفاد الصبر، واللهو، وحب إنهاء أكبر عدد من الكتب بأسرع وقت، وقلة الخبرة في الحياة نفسها. يمكن أن تكون قراءة الكتب آلية، بمعنى أنها تعطي شكلا للتجارب المستقبلية، تقدم نماذج، مقارنات، مقاييس القيمة، نماذج الجمال – كل الأشياء التي تستمر في التأثير بنظرتنا للأمور حتى لو كان الكتاب الذي قرأ أيام الشباب قد نسي تقريباً أو كلياً. لكن عندما نعيد قراءة الكتاب في سن النضج، فمن المرجح أن نعيد اكتشاف هذه الثوابت، التي تعد في هذا الوقت جزءًا من آلياتنا الداخلية، ولكننا ننسى منذ أمد طويل أصولها. يمكن أن ينجح العمل الأدبي في جعلنا ننسى الأمر على هذا النحو، لكنه يترك بذوره فينا.

وبعبارة أخرى، فإن قراءة كتاب عظيم لأول مرة هيمتعة غير عادية، وإذا حصل هذا في مرحلة الشباب فإن الشباب يجلب إلى القراءة، كمافي أي تجربة أخرى، نكهة خاصة وشعور معين من الأهمية، بينما في مرحلة النضج يقدرالشخص العديد من التفاصيل والمستويات والمعاني التي ربما لمن تكن مكشوفة له. وبالتالي:

الأعمال الكلاسيكية هي الكتب التي تمارس تأثيرا خاصًا، سواء عندما ترفض أن يتم استئصالها من العقل أو عندما تمحى من طيات الذاكرة ولكنها تتموه على شكل تجارب وطرق لرؤية العالم.

ولذلك ينبغي أن يكون هناك وقت في حياة الكبار مكرسة لإعادة النظر في أهم كتب شبابنا؛ فحتى لو بقيت الكتب نفسها (رغم أنها تغيرت، في ضوء منظور تاريخي متغير)، فقد تغيرنا نحن بكل تأكيد وصرنا نرى أمورًا كانت محجوبة عنا، وسوف يكون لقاءنا بتلك الكتب جديدًا تمامًا.

وقد نقول:

  • كل إعادة قراءة للأعمال الكلاسيكية هي رحلة اكتشاف بقدر القراءة الأولى. بينما حينما تقرأ عملاً مثل الغسق أو شيفرة دافنشي مرة ثانية فإنك لن تكتشف أي شيء جديد.
  • الكلاسيكيات هي الكتب التي تنزل إلينا محملة بآثار قراءاتنا السابقة لها، والآثار التي تركتها على الثقافة أو الثقافات التي مروا بها (أو، ببساطة أكثر، على اللغة والعادات).
  • الكلاسيكي هو الكتاب الذي لم ينته من قول ما يقوله.

وأعتقد أن النقطة الأخيرة من أهم النقاط في تمييز العمل الكلاسيكي القيم من الكتب العادية. والمقصود هنا ليس توفر مجال لأجزاء أخرى وإلا لكانت لعبة العروش من أعظم الكلاسيكيات، وإنما المقصد هو أن العمل لا يتوقف عند نهايته سواءً أمحزنة أو مفرحة أو فكرة فلسفية ما وإنما يدع دائمًا مجالاً للتفكير وللقارئ ليبني أفكاره وآراءه في تواصل سلس مع أفكار الكاتب فهو يلهمك لتفكر وتستمر عوضًا عن أن يفرض عليك فكرة ضيقة ومحددة أو يعطيك نهاية مرضية كنهاية علاقة لم يكتب لها النجاح.

هذه الأمور صحيحة لكل من الأعمال الكلاسيكية القديمة والحديثة. فكما نجد الارتباط في قضايا ديستوفسكي ونستغرب من واقعية شخصيات تيلستوي فإننا نلاحظ كيف يمكن اسقاط فلسفات أرسطو على حياتنا وآراء ميكافيلي على السياسة بكل واقعية وكم هي قريبة تشريحات شكسبير النفسية من أعمال فرويد وحتى الأبحاث النفسية الحديثة.

إن قراءة عمل كلاسيكي واكتشاف مدى ارتباطه بحياتنا رغم كل الأجيال يهزنا ويفاجئنا. لهذا السبب، لا أستطيع أن أوصي بما فيه الكفاية القراءة المباشرة للنص نفسه، وترك جانبا السيرة الذاتية والتعليقات والتفسيرات والأفلام المقتبسة قدر الإمكان. يجب على المدارس والجامعات أن تساعدنا على فهم أنه لا يوجد كتاب يتحدث عن كتاب يقول أكثر من الكتاب المعني، ولكن بدلاً من ذلك ، يقومون بجعلنا نفكر بالعكس. يجعلوننا نرى أعمال هومر وشكسبير وكافكا بعيون النقاد لا بعيوننا، فيستتر الكتاب خلف ضباب كثيف من التحليل اللغوي والهيكلي فيختفي ألقه وتضمحل العلاقة الشخصية التي يجب أن تنشأ بين الكتاب وقارئه ويصبح رأينا في العمل هو رأي الناقد أو المعلم لا رأينا ولا احساسنا ولا تجربتنا. قد نستنتج إذًا أن:

الأعمال الكلاسيكية لا تعلمنا بالضرورة أي شيء لم نعرفه من قبل. في الكتب الكلاسيكية نكتشف في بعض الأحيان شيئًا عرفناه دائمًا (أو اعتقدنا أننا نعرفه) ، ولكن دون أن نعرف أن هذا المؤلف قاله أولاً ، أو على الأقل يرتبط به بطريقة خاصة. وهذه أيضًا مفاجأة تعطي الكثير من المتعة.

المؤلف الكلاسيكي هو المؤلف الذي لا يمكن أن تشعر به غير مبال، ويساعدك على التعرف على نفسك ورؤية العالم حتى وإن كان مختلفاً معك أو ضدك تمامًا.

ويبقى هنا الإجابة عن أسئلة دائمًا ما تتكرر عند الحديث عن الكلاسيكيات. أسئلة مثل: لماذا تقرأ الكلاسيكيات بدلاً من التركيز على الكتب التي تمكننا من فهم عصرنا، كتب تأخذ بالاعتبار الأحداث الجارية والتكنولوجيا وطباع هذا العصر؟ أو أين سنجد الوقت وراحة البال في قراءة الكلاسيكيات التي تحتاج لمجهود أكبر لفهم لغتها ومزحها المبني على عصر آخر؟

يمكننا بالطبع أن نتخيل شخصًا متفرغًا بالكامل لقراءة ملاحم هومر وأشعار أوفيد وفرجيل ومسرحيات شكسبير وروايات تيلستوي وديستوفسكي وتواريخ هيرودوتوس وفلسفات كبار المفكرين. لكن هذا الشخص المحظوظ سيضطر إلى الامتناع عن قراءة الصحف ومشاهدة الأخبار، ولن يقترب أبداً من آخر رواية أو تحقيق اجتماعي. ولكن علينا أن نرى إلى أي مدى ستكون هذه الصرامة مبررة أو مربحة. قد تكون آخر الأخبار مبتذلة أو مؤلمة، لكنها مع ذلك تظل نقطة يمكن فيها الوقوف والنظر إلى الخلف وإلى الأمام. لتكون قادراً على قراءة الكلاسيكيات عليك أن تعرف “من أين” تقرأها؛ وإلا فسيتم فقد الكتاب والقارئ. هذا، إذن، هو السبب في أن أكبر “غلة” من قراءة الكلاسيكيات سيتم الحصول عليها من قبل شخص يعرف كيف يتناوب عليها مع الجرعة المناسبة من الشؤون الجارية. وهذا لا يعني بالضرورة وجود حالة من الهدوء الداخلي الهادئ، وإنما قدرة تنظيم الأمور وضبطها.

ربما يكون الشيء المثالي هو الاستماع إلى الأحداث الحالية كما نفعل عند الانصات خارج النافذة التي تخبرنا عن الاختناقات المرورية والتغيرات المفاجئة في الطقس، بينما نستمع إلى صوت الموسيقى الكلاسيكية التي تبدو واضحة داخل الغرفة. لكن ما يحدث بالنسبة لمعظم الناس هو العكس؛ إذا ما ينظر إلى الوجود الكلاسيكي على أنه مجرد قعقعة بعيدة خارج غرفة تغرقها التوافه. إذا دعونا نضيف بالتالي:

الكلاسيكي هو العمل الذي يحول مخاوف اللحظة إلى ضوضاء خلفية، بالرغم من أن هذا الضجيج في الخلفية لا يمكننا الاستغناء عنه، فهي تحوله إلى ضجيج أقل تأثيرًا على حياتنا حتى وإن لمن تنهيه. أما عندما تكون هذه المخاوف هي المسيطرة على الوضع فيتحول العمل الكلاسيكي إلى صوت ملاك يهمس في إذننا في الخلفية.

تبقى حقيقة أن قراءة الكلاسيكيات تصطدم معإيقاع حياتنا، الذي لم يعد يوفر فترات طويلة من الزمن أو رحابة الترفيه الإنساني.فالعصر السائد يدفع باتجاه السرعة والكثرة، لذا من المهم أن نفهم أهمية التأثيرعلى العدد. ولا بأس في الاطلاع السريع على عدد كبير من الكتب لإرضاء الفضول ولكنعلينا جميعا أن نخترع مكتباتنا المثالية الكلاسيكية التي يمكننا العودة إليها، الكلاسيكيات تساعدنا على فهم من نحن وأين نحن.