إلى أي مدى يمكن أن يُعتبر الإنسان شريراً بدون قصد؟ قد يبدو من غير الأخلاقي ومن غير المُنصف أن يتم تحوير مفهوم الشر إلى بُعد أعمق، ما ورائي، إيديولوجيّ، أو حتى فلسفيّ لتبرير أي فعل خارج عن نطاق المنطق والهيمنة الإنسانيّة. حنّة أرندت*، الفيلسوفة السياسية والاجتماعيّة، قد جلبت فكرة الشر الغير مُجّهز بضرورة مسبقة أو دافع داخلي إلى بؤرة النزاع العقلي ما بين الخير والشر، جلبته مجدداً بدراستها للفعل الشرير المنفصل عن الواقع، الفعل الطبيعي بشكل مرعب، والمجرّد من أي وحشية ظاهرة إلى بقعة الضوء. حنّة أعادت تعريف الشر من خلال أدولف أيخمان**، الشخص الأكثر اعتياديّة ذو الوحشيّة الغير اعتياديّة؛ ليصبح سؤال “هل يمكن للمرء أن يرتكب الشر بدون أن يكون بالضرورة شريراً؟ ” أقل استنكار للعقل الإنساني المتغطرس.
قد يبدو تجريد الإنسان من المسؤولية تجاه أفعاله؛ غياب “الأنا” الواضحة الشريرة التي تتحكم مقابل
الموضوع الآخر؛ المنفصل عن الذات الواعية، مجرد تبرير خائن، يُبعد أي دافع أو نيّة خبيثة عن الواقع. وإن الأدلوجة*** التي تشكلت من خلال دراسة حنّة لأيخمان، وبشكل أكثر دقة، دراستها لأفعال أيخمان بصورة مجردة وغير متطابقة عنه، منفصلة عن ذاتيته وعن “إدراكه” الواعي المسؤول، هي أيدلوجيا مزدوجة تحمل طابع وصفي ونقدي، بين المعرفة المُسبقة الإيديولوجية والفعل اللاإرادي. وبشكل أكثر تفصيلاً، تلك الإيديولوجيا تفصل الفعل عن الفاعل؛ تدرس الفعل كخيار غير مرتبط بدوافع وجوديّة مُسبقة، بينما الفاعل موجود بشكل نمطي اعتيادي على صورة إنسان؛ أي إنسان. المستوى التي وقفت عنده أدلوجة أرندت هي حقيقة مطابقة للواقع، وتجيب على سؤال جوهري: ما هي الأسباب التي جعلت الفكر الإنساني في كل أدواره يرى الأشياء طبقاً لدعواه هو لا طبقاً لذاتها هي (أي الأشياء)؟ وبالتالي فهي تطرح فرضية عبثية الفعل. لقد وجدت أرندت في أيخمان الإنسان الضالّ الباحث عن المعنى في عالم بلا معنى، والذي شكّل أو بلور فكرة عدم اكتراثه، وأفعاله عن الواقع.
فالقيمة الحقيقية للشر، بالأحرى المعنى الراديكالي للشر، متصل بعدة أبعاد دينية و سيكولوجية؛ الخوف من العقوبة الإلهية جراء أي فعل خارج عن شرعية الرب قد يبدو الحافز الأساسي للكثيرين، فالشرائع والتعاليم الدينية نهت تماماً عن أي نوع من المعاصي أو الأفعال التي تسبب أي شكل من أشكال الشرور، لكنها – ومن زاوية فلسفية أخرى – لم تبالي بأي مستوى أعمق او خفيّ ضمن مفهوم الشر الداخلي أو حتى العبثي للإنسان. وعلى الرغم من ذلك لا نجد أي رادع ديني يمنع حدوث أي وحشية في العالم. لقد بلورت أرندت رؤياها في أيخمان كشخص بيروقراطي غير مرتبط بمخاوف دينية، بحيث يتأصل بداخله الشر العبثي المنفي من دائرة الاستحقاق، وجدت به مثال عن ذلك المستوى من الشرور، والذي يبدو للبعض وحشي، كوحشية حقيقة السؤال التالي: ألسنا جميعا نمتلك هذا الحيز الموسوم بتفاهة الشر؟ جميعنا نملك هذا الجانب من الشخصية المدمّرة التي وصفها فالتر بنيامين****، بحيث إزالة كل شيء لنا وللمدمر تعني اختزالاً تاماً، بل حتى اجتثاثاً لظروفه الخاصة، وللناس المشاهدين على فاعليته. وهنا نجد أيخمان أيضاً مُمثل للصورة الحقيقة لتلك الشخصية، لكن ما يسهم أكثر من أي شيء آخر في تشكيل هذه الصورة العقلانيّة المتسقة (الأبولونيّة) للمدمر هو إدراك المدى الهائل الذي يبسط به العالم عند اختبار استحقاقه للتدمير والشر. أرندت أثبتت وأعادت فكرة ومفهوم الشر العبثي للأنا الخاصة للفاعل في مواجهة الفعل الخارجي ]الموضوع[ الذي يُرغم على الظهور باللجوء إلى عمل معين مُدمّر.
إن هذا الجانب من الشر الفطريّ المُستبعد من كامل الفلسفة الغربية هو ما أدلجته أرندت وحورته لشر عبثي؛ أي شكلته ضمن إيديولوجيا لها حيثياتها وأبعادها من حيث ارتباطها بالأخلاق والدين والرغبة، رغبة الأنا. في كتاب أصول حكم الحزب الواحدThe Origins of Totalitarianism(1951)، والذي نُشر قبل محاكمة أيخمان، تقول أرندت:
’’إنه لمتأصل في كامل تقليد فلسفتنا ]الغربية[ عدم قدرتنا على تخيل شر فطريّ،…‘‘
يدور الفكر الغربي بأكمله في نطاق تعارض الموضوع والذات، حاولت أرندت تجاوز تلك المعارضة بفصل الفاعل عن الفعل، في حيز يدور بشكل أساسي من تشابك مفهوم تفاهة الشر مع الأخلاق بإيديولوجيا ثورية عن الفكر الغربي عامةً، والفكر الألماني الأدلوجي المحدد بشكل خاص. إن القيم الأخلاقية الأوروبيّة، ورغم اختلافها الظاهر والصراع الدائر بينها، ترجع في الواقع إلى ينبوع واحد، كل ايدلوجية فكرية تتحدر من سابقتها وتتمها، هذه الثقافة هي ثقافة المستضعفين والتي أعتقد بأن أرندت استندت عليها بتفكيكها مفهوم الشر. من الواضح إذاً أننا لا ندرك الأعمال إلا إذا كشفنا عن الأخلاق التي كانت باعثاً لها، والمتأصلة بها، والأهم من ذلك المتجذّرة بنا. لقد جرّدت أرندت أيخمان من جميع قيم الأخلاق المتبلورة حول أي كائن بشري، بحيث تصبح قيم الخير والشر والعدل والضمير المسؤول فاقدة لأي معنى، بل تصبح مصدر للشك والتساؤل حول الماهيّة الحقيقيّة لها. وبالتالي فإن أيخمان يُمثّل تلك النزعة الثورية لأرندت بصياغتها للصورة النمطية للشر الفطري باعتبارها أن الإنسان حيوان قبل كل شيء، وليس عقلاً يتحكم في جسم، بل هو جسم يستعمل العقل كأداة طيّعة للوصول إلى أهداف غريزيّة. ويجب أن نتذكر بأن الخطورة الحقيقية هي بأيخمان وجميع أشباهه، هؤلاء لم يولدوا وحوشاً أبداً: إنهم ببساطة أشخاص اعتياديين. يمكن المتابعة والقول أن الوحوش موجودة، لكن الأخطر فعلاً في الوجود هو أولئك الأشخاص أمثال أيخمان، أصحاب الإيمان الأعمى بالعقيدة والمقدسات.*****
وعلى الرغم من أن أرندت كانت قد تبنت فكرة الشر الفطري “الشر الجذري”، والخطيئة الأصلية التي ارتكبها الإنسان في البدء، إلا أنها رفضت تطبيق الفكرة ذاتها على أيخمان، بل ركزت على شخصه. متصورةً أن شره أتفه منه، شر سطحي هامشيّ يُلحَ بالإنسان في ظروف معينة ونتيجة لأحداث محددة، في مجتمع متأطر فيه مفهوم الإقصاء/التهميش مع نزعة متطرفة تجاه الآخر الأدنى وإزاحته من السياق العام، في تداخل واضح وارتباط قوي بين مفهومي الإقصاء والشر على التوازي. نحن نواجه تفاهة الشر في كل يوم، نواجه الإقصاء ونمارسه في كل يوم، مجتمعنا يرضخ لفكرة الانتقاء الطبيعي للأصلح، لكن الفرق الوحيد هنا هو بأن صانع القرار هو للأقوى الذي يملك الوسائل لتهميش الآخر، ما الذي شهده العالم من تغيير منذ محاكمة أيخمان؟ التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة جديدة تماماً كما كتب فيكو******، لقد ازداد العنف ضد الفئات المستضعفة، تُقمع النساء وتُغتصب، ويتم استبعاد الأشخاص ذو البشرة السوداء، والمعاقون جسدياً، والأشخاص ذو التوجه الجنسي المختلف (مثليين ومثليات، والمتحولون جنسياً) من زوايا تعزز النظر إليهم بكراهية وشر، لا أرى أي اختلاف في عالمنا منذ عصر أرندت وأيخمان إلى عصرنا الحالي، ما تغير فعلاً هو الفئات التي تُمارس الشر والتي يُمارس عليها الشر. بماذا يختلف أيخمان عن الفئات القمعية الحالية؟ لا شيء. يُجبرنا العالم على فعل ذلك ضمن حياة عبثية تفقد كل المعاني، من دون هدف معين، من خلال الدافع المشترك بيننا جميعا لاحتقار الغريب، الآخر الأضعف. هذا ببساطة ما يجعلنا جميعاً منصهرين في بوتقة واحدة، هي بوتقة تفاهة الشر.
قد تبدو فكرة الوجود مرعبة ومخيفة في وسط هذا الكم من الإيديولوجيات المتنازعة على إقصاء الآخر، الذي يشكل بذاته الدافع الأساسي لأدلجة تفاهة الشر بداخلنا، وهي تسخير للهوية التي نبني عليها ذواتنا، وبالتالي فإن شرنا غالبا ما يتشكل مرتبطاً بالآخر وللآخر. أعتقد – بعيدا عن نقاط الاختلاف التي أثارتها أطروحة أرندت – بأنها ثًورت قناعة الإنسان بذاته أولاً و بالآخر ثانياً، وعلى الرغم من “إدراكها ” لوحشية الانصياع الأعمى الممثل بأيخمان، بحيث يبدو مكان العدالة فارغاً متروكاً للإيديولوجيا الأقوى القادمة، في ظل ترنحنا بين هنا وهناك، وضياع أفكارنا مع سؤال ماذا يعني فعلاً بتفاهة الشر؟
ملاحظات:
*حنّة أرندت: مفكرة ألمانية-أميركية ومنظّرة سياسية، تُعد أطروحتها حول تفاهة الشر بمثابة مجموعة من الآراء التي كونتها أرندت بتغطيتها لمحاكمة أيخمان عام 1961.
**أدولف أيخمان: ، العميل النازيّ المسؤول عن تنظيم نقل الملايين من اليهود وغيرهم إلى العديد من مخيمات الاعتقال كدعم لقرار المجزرة النازية بحق اليهود.
***الأدلجة: أو الأيدلوجيا، مجموعة القيم والأخلاق والأهداف التي تحملها منظومة فكريّة معينة، أيدلوجية عصر من العصور هي إذن الأفق الذهني الذي كلن يحدّ فكر إنسان ذلك العصر.
****فالتر بنيامين: فيلسوف ومفكر ألماني، تمركزت فلسلفته بشكل أساسي حول العنف والمثالية الألمانية، اعتُبر أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية.
*****أُعيدت صياغة الفكرة من مقتطف من كتاب كارل بوبر، دفاعاً عن المجتمع الحر
******جامبا تيستا فيكو: فيلسوف إيطالي ومؤرخ إيطالي تُعتبر فلسفته عن التاريخ مبحث هام من المباحث الفلسفية، تتمحور حول فكرة أن الإنسان صانع لتاريخه، التاريخ الذي يعيد نفسه دوماً من نقطة جديدة.

آية شبار
آية محررة مع الميتامورفوسيس من سوريا. درست الميكاترونك وتكتب عن الفلسفة والرسمة لها. فايسبوك
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.