التصنيفات
فلسفة

فوكو الحقيقي

انتقلت القضايا الأهم عند ميشيل فوكو من الهامش لتصبح شواغل رئيسية في الحياة السياسية. لكن ما هو فكر فوكو في الواقع؟

يبدو فجأة أن الجميع لديهم الكثير لقوله عن ميشيل فوكو. والكثير من ذلك ليس جميلًا. بعد استمتاعه بعقود طويلة كنقطة مرجعية لمواضيع واسعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقع الفيلسوف الفرنسي تحت إعادة التقييم من قبل اليمين واليسار.

لطالما ألقى اليمين باللوم على فوكو في توفير المبررات لمجموعة من أمراض اليسار. حتى أن بعض المحافظين جعلوا من فوكو كبش فداء لمدى واسع من الأمراض تتراوح من العدمية المتهورة إلى إيقاظ الشمولية. لكن يظهر احترام جديد غريب لفوكو في بعض الدوائر اليمينية. استمتع المحافظون بفكرة أن عداء فوكو للمحاصصة الطائفية يمكن أن يجعله درعًا مفيدًا ضد “محاربي العدالة الاجتماعية”. تم تعزيز هذا الافتراض خلال وباء كوفيد-19، حيث قدم نقد فوكو “للسياسة الحيوية” -وهو مصطلحه للأهمية السياسية الذي تفترضه الصحة العامة والمسائل الطبية في العصر الحديث- سلاحًا مفيدًا لمهاجمة الولاء الليبرالي للخبرة العلمية.

مع ارتفاع مكانة فوكو في اليمين، هوت في اليسار. قبل عقد من الزمان، ركز الاهتمام اليساري على ما إذا كانت مناقشات فوكو عن الليبرالية-الجديدة في السبعينيات تشير إلى أن التزاماته الفلسفية تنسجم مع إيديولوجية السوق الحرة الناشئة: معادية للدولة، ومعارضة للسلطة التأديبية، ومتسامحة مع السلوكيات التي كانت تعتبر غير أخلاقية في السابق. (لقد ساهمتُ في هذا النقاش للحقيقة). مؤخرًا، تحول النقد اليساري، مثل نظيره المحافظ، إلى السياسة الثقافية. وهكذا يؤكد المُنظران الاجتماعيان ميتشل دين ودانيال زامورا أن تسييس فوكو للذات ألهم السلوكيات المذهبية لـ “ثقافة اليقظة-woke culture”، التي تسعى للتغلب على العلل المجتمعية من خلال جعل إصلاح الذات هو المشروع الإداري النهائي. في الوقت نفسه، تعرضت مكانة فوكو لضربة مدمرة في أعقاب الادعاءات الأخيرة بأنه دفع لصبيان دون السن القانونية مقابل ممارسة الجنس أثناء إقامته في تونس خلال الستينيات. جلبت هذه الاتهامات انتباهًا جديدًا إلى مقاطع في كتاباته حيث تساءل -مثل بعض المتطرفين الآخرين في عصره- عن الحاجة لتحديد سِنّ قانوني للموافقة على الجنس.

ما الذي يجري هنا؟ لماذا يبدو فوكو الآن بعد أربعين عامًا تقريبًا من وفاته بأنه معاصر لنا؟ لماذا ينقلب اليساريون عليه؟ ولماذا يتبناه بعض المحافظين؟

أولاً، الجدل الحالي حول التداعيات السياسية لفكر فوكو هو أحد أعراض سياساتنا المترددة، والتي يصنف الشعبويون أنفسهم فيها على أنهم متطرفون مُعادون للثقافة. ثانيًا، يعتمد خطابنا العام، سريع الاشتعال، بشكل متزايد على الأفكار التي كانت محصورة بالأكاديميات أو الدوائر الفكرية الحصرية. وهذا ينطبق بالتأكيد على التصورات التقدمية -امتياز البيض، ونظرية النوع الاجتماعي، والنظرية النقدية للعرق- ولكنه أيضًا يؤثر على اليمين، كما يتضح من زيادة إلمام المحافظين الشباب بشرائع الفكر القومي وحتى الفاشستي. بينما تتسرب الثقافة الأكاديمية إلى الجدل السياسي، فليس من المستغرب أن يتم إدخال مفكر من مكانة فوكو في هذا المزيج.

ثالثًا، وهو الأهم، أصبح أوائل القرن الحادي والعشرين فوكولديًا- Foucauldian. خذ في الاعتبار الموضوعات التي رادها فوكو كأهداف للتأمل الفلسفي: المرض العقلي، والصحة العامة، والهويات الجنسية والتحول جنسيًا، والتطبيع، والمثلية، والمراقبة، والذاتية. اقتصرت هذه القضايا سابقًا على هوامش الفكر السياسي، فيما أصبحت اليوم شاغل رئيسي بجذور مهمة في الحياة اليومية في العالم الغربي وما بعده.

تكمن المشكلة في أنه أصبح من السهل جدًا خلط الموضوعات الفوكولدية مع أفكار فوكو. وغالبًا ما يتم التغاضي عن ينابيع فلسفاته الأعمق في كل نقاش يأتي بسيرته. وبالتالي، يبدو فوكو مرةً معاصرًا للغاية ومرة -باستخدام مصطلح يفضله فيلسوفه المفضل، فريدريك نيتشه- “في غير أوانه” بشكل غريب (أي غير عصري أو غير مناسب).

إن سمعة فوكو مغطاة بتراكمات كثيفة من التفسيرات الجدلية والملائمات الحزبية. قبل قرن من الزمان، وجدت نظريات ماركس نفسها في وضع مماثل، حيث أصبح تفسيرها نقطة خلاف في الحركة الاشتراكية الناشئة. في أعقاب الثورة البلشفية، شعر الفيلسوف المجري جورج لوكاش بأنه مضطر لأن يسأل: “ما هي الماركسية الأرثوذكسية؟” قد يبدو الأمر غريبًا، لكن سؤالًا مشابهًا يجب طرحه حول فوكو. ما هي الفوكوية الأرثوذكسية؟ ما الذي عَلمهُ فوكو حقيقةً؟


كان فوكو مفكرًا متحمسًا تغيرت اهتماماته كثيرًا خلال حياته المهنية التي استمرت ثلاثين عامًا. على الرغم من آراءه المتنوعة، يجب ألا ننسى أنه كان في الجوهر فيلسوفًا- وليس مؤرخًا (على الرغم من الطابع التاريخي لفكره) أو إيديولوجيًا أو معلقًا سياسيًا.

بدأ أرسطو كتابه الميتافيزيقيا بتأكيد: “كل البشر بطبيعتهم يرغبون في المعرفة”. أولاً وقبل كل شيء، سعى فوكو إلى استكشاف هذه الدعوة- ليس كحقيقة بديهية ولكن كفكرة تُجعل غريبة ومدهشة. إن تحقيق فوكو ليس هو المشكلة التقليدية لنظرية المعرفة (“ما هي المعرفة؟”) ولكنه سؤال ثقافي: “لماذا نـُثمن المعرفة؟” في مقالته “عن الحقيقة والكذب بمعنى أخلاقي زائد”، كتب نيتشه: “في زاوية ما من الكون، يتدفق ويتألق عدد لا يحصى من الأنظمة الشمسية، كان هناك ذات يوم نجم ابتكرت فيه الحيوانات الذكية المعرفة. كانت تلك أهم وأكذب دقيقة في “تاريخ العالم” – لكنها دقيقة واحدة مع ذلك”. هذه الكلمات تجسد روح -إن لم يكن نبرة- مسعى فوكو. لماذا يلون عطشنا للمعرفة الكثير من الأنشطة البشرية؟ ماذا يعني العيش دون أن تطاردنا إرادة المعرفة؟

يكمن أصل استجواب فوكو في انخراطه المبكر فيما يعرف بالمثالية الألمانية. أكد مفكرو هذا التقليد، بدءً من إيمانويل كانط في أواخر القرن الثامن عشر، على الطريقة التي يشكل بها الوعي العالم. قال كانط إنه إذا كان بإمكانك رؤية منظر طبيعي، فذلك لأن وعيك مرتبط بمفهوم المكان والزمان، وأيضًا بالفئات المنطقية مثل الوحدة والتعددية. تَصارع المثاليون اللاحقون، وأشهرهم جي دبليو إف.هيجل، مع العلاقة بين “الذات” (أي الوعي) و “الأشياء” (الواقع الخارجي). في حين أن بعض المثاليين في المدارس الفلسفية الأخرى قدموا ادعاءات مبالغ بها عن الذات، واختزلوا الواقع الموضوعي إلى نسج من خيال الذات، كان تركيز الاهتمام لدى المثاليين الألمان على فهم ما يجعل الأشياء قابلة للفهم في الوعي- كيف يمكننا معرفة عالمنا.

زودت المثالية الألمانية فوكو بمفرداته الفلسفية الأساسية. وتكمن أصالته في نقله لإطار المثالية الألمانية إلى مسائل تاريخية وثقافية. في “الجنون والحضارة”، أظهر فوكو أن المرض العقلي ظهر كشيء فقط مع تطور شكل من الذاتية المتجذر في العلوم التجريبية. في “ولادة العيادة”، فحص نوع الموضوع المطلوب لظهور الطب الحديث- على وجه التحديد، موضوع قادر على فهم المرض باعتباره متأصلاً في الأجساد الفانية. وفقًا لفوكو، فإن كلاً من الذات والأشياء -الوعي والواقع الخارجي- يُشكلهما التاريخ. على الرغم من أنه غالبًا ما كان مخطئًا باعتباره نسبيًا، إلا أنه لم يزعم أبدًا أن الحقيقة تختلف من منظور لآخر. كانت وجهة نظره أن ما يُعتبر حقيقيًا يتغير بمرور الوقت- على الرغم من أنه في أي لحظة، يمكن للحقيقة أن تتخذ طابعًا ثابتًا ومنيعًا. بطريقته الخاصة، كان فوكو آخر مثالي ألماني.

اشترك فوكو أيضًا في سرد ​​تاريخي متميز كان فيه ظهور ما أسماه “الإنسانية” (أو، بمصطلحات أكثر تقنية، الأنثروبولوجيا الفلسفية) نقطة تحول حاسمة في التاريخ الحديث- وإشكالية عميقة. قراءة متسرعة إلى حد ما لفوكو تقود الكثيرين إلى استنتاج أنه، من خلال هذه الرواية، شجب الادعاءات الكاذبة للعالمية التي قُدمت باسم الإنسانية (على سبيل المثال، الطريقة التي تدمج بها “الإنسانية” الافتراضات العرقية أو الجندرية) أو أنه يقترح أن النزعة الإنسانية كانت حوار تحرري مخادع يتبنى بشكل ماكر نماذج السلطة الضارة. ربما وافق فوكو على هذه الادعاءات، لكنها لم تكن أسبابًا لمناهضته الفلسفية للإنسانية. في كتبه من الستينيات، تبدأ تواريخ فوكو دائمًا بنماذج متجذرة في نظرة دينية للعالم (في العصور الوسطى، على سبيل المثال، أو عصر النهضة) وتتوج بنظرة علمية حديثة، حيث المعرفة مقيدة بحدود الفهم البشري. على عكس الرأي القائل بأن فوكو هو مفكر “الفجوات” (الرأي الذي شجعه فوكو، كما لو كان يغطي عثراته)، فإن هذه الروايات غالبًا ما تكون غائية بوضوح. يتبعون بالفعل المخطط التاريخي الذي شاعه أوغست كونت، نبي الوضعية في القرن التاسع عشر: نبدأ بالمعرفة اللاهوتية (الواقع كخليقة الرب)، ننتقل إلى الميتافيزيقيا (حيث يرتبط الواقع بعالم غير ملموس من الكيانات العقلانية)، ونصل في النهاية إلى المعرفة الإيجابية أو العلمية (الواقع كحقائق يدركها العقل البشري). من أجل هذا التصوير، سخر فوكو رؤى مارتن هايدجر، وتحديداً ادعائه بأن المعرفة العلمية مرهونة بمفهوم البشر على أنهم “ذوات” قدراتها على الفهم محدودة بشكل جوهري. يمكن لمخلوق محدود (وليس خالقًا غير محدود) فقط أن يدرك العالم كذات- أي وعي بآفاق محدودة بالضرورة.

ما أثار اهتمام فوكو هو أن هذا التواضع المعرفي الظاهر أدى إلى توسع هائل في السلطة الثقافية للمعرفة: لم تكن المعرفة أبدًا بنفس الأهمية كما عندما ندب البشر حدودهم الفكرية المتأصلة. وهكذا أصبحت التجارب التي كان يُنظر إليها سابقًا على أنها خارج نطاق المعرفة موضوعاتٍ للفهم العلمي- ظواهر خاضعة لمحدودية الإنسان بدلاً من سماتٍ لكون متعالي. أصبح الجنون مرضًا عقليًا، وأدى الموت إلى توسع المعرفة الطبية، وتم استيعاب اللغة على أنها شبكة لا يستطيع مَخرها إلا المخلوق الذي نسجها. وللمفارقة، فإن المشروع البعيد المنال المتمثل في ترسيخ المعرفة في محدودية الإنسان قد وسع تلك اللحظة “الأكذب” في تاريخ العالم إلى ما بعد الدقيقة المخصصة لها.

أراد فوكو التخلص من إدمان ثقافته على المعرفة. يتألق هذا الهدف بشكل أكثر وضوحًا في تاريخه الجنسي. على الرغم من اعتقاده أن الجنس هو بناء اجتماعي، إلا أن رؤيته الأساسية كانت أن النشاط الجنسي الحديث قد أبرم “ميثاق فاوستي” مع الحقيقة. أكثر ما نحبه في الجنس هو فهمه– التحدث عن الرغبة، وتحليلها، وتشريحها، واستكشافها. إن تأكيد فوكو على أن الغرب قد تبنى “علمًا جنسيًا” في حين أن الشرق هذب “فنًا شهوانيًا” يشير -على الرغم من، وربما بسبب، استشراقه الفظ- إلى مخاوفه العميقة بشأن ما سيكون عليه الأمر عند ممارسة الجنس دون رؤيته كدليل على سر مخبأ عن أنفسنا. هذا هو أساس بيانه المُبرمج بأنه يجب علينا إعادة تعريف أنفسنا بـ “الأجساد والملذات”. تكهن فوكو بأن الجنس يمكن أن يصبح مجال خبرة متحرر من إرادة المعرفة.

جاءت تصريحاته في السياسة على نفس المنوال. يُربط عادة بتقييم سوداوي للمجتمع الحديث، حيث تنتشر السلطة، بعيدًا عن اقتصارها على الدولة والاقتصاد، عبر شبكة من المؤسسات الانضباطية- المدارس والمستشفيات والخدمات الاجتماعية والمصحات والسجون، من بين أمور أخرى. الكثيرون مطلعون على ادعاء فوكو بأن السلطة التي تمارسها مثل هذه الكيانات مشتقة من ادعاءها حيازة المعرفة المتخصصة، والتي أطلق عليها بإيجاز “سلطة/معرفة”. لكن بالنسبة لفوكو، كانت هذه الأطروحة مجرد جزء واحد من إطار عمل أوسع. أصر بلا هوادة على أنه حتى لو كانت السلطة قوة منتشرة في حياتنا الجمعية، فإنها تتجلى دائمًا في صراعات ملموسة. لقد أراد منا أن نرى ممارسات مثل التنظيم العسكري للكيانات أو العلاقة بين المعالجين والمرضى على أنها أقرب إلى القتال اليدوي- مباريات جودو، بدلاً من سيطرة فكر أورويلي. تمثل السلطة دائمًا جهدًا للتحكم في سلوك شخص ما: العثور على الممسك الصحيح، وتحديد نقاط الضعف، وخلق بواعث للإذعان.

لم يكن فوكو نيوليبراليًا، لكنه اعتقد أن الليبرالية الجديدة أثارت أسئلة مهمة. على وجه التحديد، تساءل عن قدرة دول الرفاه على اتخاذ قرارات رعاية صحية عقلانية تمامًا لملايين الأشخاص. في مقابلة أجريت معه عام 1983، قال: “خذ مثلاً غسيل الكلى: كم عدد المرضى الذين يخضعون لغسيل الكلى، وكم عدد الأشخاص الآخرين الذين يحرمون الوصول لهذه الخدمة؟ تخيل ماذا سيحدث إذا كشف المرء أسس هذه الاختيارات، التي تؤدي لنوع من عدم المساواة في المعاملة. سيتم تسليط الضوء على القواعد الفاضحة! ” لا تكمن وجهة نظر فوكو في أن العلم صحيح ولا أنه خاطئ (أو أنه فقط “مُنشأ”)، لكن أن التشفع بالعلم نادرًا ما يحسم الخلافات السياسية- ذلك أنه حتى القضايا التي يبدو أنها تستند على العلم، مثل الصحة العامة، مليئة في الواقع بالافتراضات والقضايا الغير علمية.

وهكذا، بينما كانت السلطة والمعرفة متشابكتين دائمًا عند فوكو، فقد أكد أيضًا أنه يجب على المرء أن ينزع فكرية السلطة. هذا أحد الأسباب العديدة التي جعلته مشككًا في الماركسية. بدلاً من تحدي ادعاء الماركسية بأنها علم، جادل فوكو بأن مشكلة الماركسية أنها تريد أن تكون علمًا. لم تكن وجهة نظره أن المعرفة ليس لها مكان في الصراعات السياسية ولكن السياسة دائمًا ما تكون حول السلطة بشكل غير قابل للاختزال- والاعتراف بهذه الحقيقة بصراحة أفضل من الاعتقاد بأن المعرفة بطريقة ما تطهرنا من وصمة السلطة.

غالبًا ما يُنظر لهذا الرأي على أنه ساخر، لكنني مندهش أنه لا يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه متفائل بشكل مفرط: بالنسبة لفوكو، فإن النتيجة الطبيعية اللازمة للادعاء بأن جميع العلاقات مشبعة بالسلطة هي أنها كلها أيضًا، من حيث المبدأ، قابلة للعكس. . كما فهم هيجل، لا توجد علاقات بين السيد والعبد حيث لا يعرض السادة سلطتهم للخطر، بمجرد هيمنتهم على عبيدهم. علاوة على ذلك، تتوافق استنتاجات فوكو حول السلطة مع رؤيته حول الجنس: تمامًا كما يجب تجنب استخدام الجسد والملذات في التحليلات اللانهائية للجنس، يجب علينا في السياسة أن نواصل صراعات علنية من أجل السلطة كبديل للسلطة/معرفة.

لو سئل فوكو بشكل مباشر عما إذا كان نسبيًا، لكان قد أجاب ربما: “لو فقط- لو كان من الممكن التغلب على إرادة الحقيقة”. إنه يدعونا لرؤية الحقيقة لا كنسيج للواقع، بل كقطعة أثرية ثقافية، شيء يفعله البشر. هذا لا يعني أن الحقيقة غير موجودة: يكشف العلم عن قوانين الكون المادي؛ تعين الإحصائيات الانتظام في الأعداد الكبيرة؛ يمكن للفن أن يقدم صورة للعالم أو يعبر عن المشاعر الداخلية. في الواقع، إن شكوى فوكو مع الحقيقة على وجه التحديد أنها موجودة– وموجودة بكثافة شديدة. على الرغم من أنه يمكن للمرء قراءة كتاب فوكو “اعترافات الجسد” على أنه يدين ممارسات الاعتراف، إلا أنه يُظهر أيضًا أن الاعتراف انتشر على نطاق واسع بين النساك المسيحيين الأوائل لأنه كان مثيرًا. الحقيقة ليست مفروضة علينا فقط عبر علاقات القوة، بل تثيرنا.

أشار صديق فوكو بول فاين ذات مرة أنه بينما اهتم هايدجر بالأساس الوجودي للحقيقة، ولودفيج فيتجنشتاين بمعنى الحقيقة، كان سؤال فوكو هو لماذا الحقيقة غير حقيقية لهذا الحد. لا شك أن هذا يشير إلى إدراك فوكو أن الحقيقة ملوثة بالسلطة وأن معاييرها تتغير بمرور الوقت. لكن ركائز هذا الادعاء أكبر. يطلب فوكو أن نشكك في القيمة التي نعطيها للحقيقة- فيما إذا كانت الحقيقة تسمح لنا بأن نعيش الحياة التي نرغب في أن نعيشها.


وهو ما يعيدنا إلى الحاضر. نحن جميعًا، من عدة نواحٍ، فوكوئيون الآن- في الطرق التي نفكر بها حول الجنس، والتطبيع، وعلم النفس، والحبس، والمراقبة. لكن نادرًا ما بدت السياسة وكأنها مُسممة بالحقيقة كما هي اليوم، على جانبي الطيف. بقدر ما قد يكون هجومًا على الحساسيات الليبرالية، فإن نظريات المؤامرة اليمينية مثل QAnon و “Stop the Steal” تشارك جميعها في سياسة الحقيقة. هذا لا يعني أن ادعاءاتهم معقولة، بل يعني أن تطلعاتهم إلى الفعالية مبنية على “الحق”. (التحول من التفكير من منظور أولي إلى الاعتراف باللاحق هو، بمعنى ما، جوهر النقد الفوكوئي). وفي سياق أكاديمي أكثر، يضع جوردان بيترسون أيضًا الحقيقة في قلب الجدل السياسي عندما يتهم بأن محاربي العدالة الاجتماعية –اللقب المستوحى مما يسميه بعبث: فوكوئي “ما بعد حداثي”- بتجاهل عمدًا العدالة القاسية للتسلسلات الهرمية الطبيعية التي حددها العلم التطوري.

هذه الرغبة في معرفة الحقيقة ليست مقصورة بأي حال من الأحوال على اليمين. إذا تطعلنا نحن الذين على اليسار إلى فهم أوسع للصحة العقلية، وإذا كنا نقدر هويات المتحولين جنسيًا، وإذا قمنا بتعزيز المؤسسات التي تتبنى التنوع، فذلك عمومًا لأنها تبدو لنا على أنها صحيحة، كما هو مبرر بما نعرفه. حتى المجازات الخلفية لمصطلح “اليقظة” غارقة في مفاهيم الحقيقة- دفعة من المسيحية الجديدة ممزوجة مع اعتراف التنوير بالعالم كما هو. لا يسعى مفهوم التاريخ الذي دافع عنه الكثير من اليساريين في السنوات الأخيرة إلى استكشاف روايات بديلة فحسب، بل يسعى لفهم الماضي الأمريكي -والأهم، العبودية- بالشكل “الحق”. يستند الشعار الليبرالي خلال الوباء: “صدِق العلم” أيضًا إلى وجهة نظر مفادها أن الحقيقة يجب أن تكون قادرة على تسوية الخلافات السياسية الرئيسية بشكل حاسم. من اللافت للنظر أن اليسار المعاصر يعتمد على جميع أشكال الحقيقة تقريبًا -المسيحية والمستنيرة والعلمية- التي نظر فوكو عليها بعينه الناقدة.

أتخيل مع ذلك، إلى الحد الذي يمكن للمرء فيه التكهن بمثل هذه الأشياء، أن فوكو كان سيدعم مبادرات مثل مشروع 1619 وسيعتبرها متوافقة مع هرميته للسلطة، ناهيك عن سياساته التحررية. كان، كما هو معروف بشكل عام، واعٍ تمامًا لكيفية استبعاد السرد التاريخي لأفراد معينين، وقد أدرك قوة رواية التاريخ من وجهة نظر المجموعات المهمشة.

لكن مشروع فوكو الأعمق المتمثل في تخليصنا من إدماننا على الحقيقة غريبٌ عن حاضرنا بقدر ما كان غريباً في زمانه. فيما تبدو فكرة “قول الحقيقة للسلطة” أكثر صلة من أي وقت مضى، وتتمتع بحس فوكولدي ممتع. في الواقع، يكون درس فوكو أكثر دقة (وإن كان حشوًا إلى حد ما) عند صياغته بـ: “محاربة القوة بالقوة”. كما يدرك منظمو الجمعيات والنقابات، فإن المعرفة لا تأخذك بعيدًا: مهمة التنظيم هي مواجهة السلطة حيث تتجلى، مثل أنظمة مكان العمل أو الإسكان، والحد من آثارها من خلال الاستفادة الاستراتيجية من القوة الجماعية. كما لاحظ الفوكولدي المشفر Saul Alinsky ذات مرة: “لا يمكن لأحد أن يتفاوض من دون القوة لفرض التفاوض”. إذا كانت السياسة تتعلق جوهريًا بالسلطة، فما فائض القيمة الذي نحصل عليه من الادعاء أيضًا بأننا على حق؟

يصعب طرح هذه الأسئلة اليوم كما في أي وقت. وهكذا، بينما نواصل الجدال حول فوكو شبه خيالي، يبقى الفيلسوف الحقيقي غير ملائم لأواننا أكثر من أي وقت مضى.

كتبها

Michael C. Behrent

أستاذ التاريخ في جامعة الأبلاش. وهو محرر مشارك لكتاب “فوكو والنيوليبرالية” ويعمل على تأليف كتاب عن فوكو الشاب.

ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مجلة Dissent وقد ترجمت ونشرت هنا بترخيص منهم.

ترجمها: رافاييل لايساندر