إن ظهور التفكير الفلسفي حمل معه أسئلة لمست مفهوم الكينونة Existence أو كما يصطلح عليه لدى فلاسفة اليونان اللذين جعلوا من السؤال منبع الحكمة Sagesse بطرحهم الإشكال الآتي: لماذا تتغير الأشياء في الطبيعة؟ ما أصل الطبيعة؟ ما معنى الكينونة، أي هل لهذه الأخيرة معنى؟ من هنا ظهرت أسئلة تمس الجانب الوجودي لاستيعاب الحكمة من الوجود لتشكل في الأخير مفهوم معين مازلنا نسمعه إلى حد اليوم وهو مفهوم ‘الفلسفة’، ما يهم هنا ليس له علاقة صلة بتاريخ الفلسفة (فهو سيناقش على شكل مقالة خاصة بمثابة مقالة خاصة)، الذي يهم هنا فقط له علاقة بالسؤال السالف الذي يحتم علينا كقراء معالجته فلسفيًا حتى تبدوا لنا مفهوم الكينونة يزيل الستار ليشكل مفهوما ساطعًا حين نستوعب مفهوم المعنى.
إذًا، أي رابطة مكرسة بين الكينونة والمعنى؟ ما الذي يشكل الأخر من حيث الأسبقية؟ فالسؤال عن المعنى طرحه أغلب الفلاسفة في إطار المذاهب الفلسفية، بالخصوص المذهبين المتجليين في المذهب العبثي و المذهب الوجودي، فالأول لا ينفي المعنى فقط يلمح بأن المعنى في حالة من العدمية حتى ولو كنا في طريق إليه في إطار الوجود، والثاني حاول ما أمكن الوصول إليه كغاية؛ الأول مهما حاولت الذات الوصول إليه تعود إلى نفس الموضع المنتقل منه، وهذا ما جعل ألبير كامو يؤلف رائعته تحت عنوان “أسطورة سيزيف ‘Mythe de Sisyphe’ التي تحمل دلالة عميقة عن المعنى في علاقته مع العالم الخارجي، والمذهب الثاني يبدأ من الذات ثم إلى العالم الخارجي.
هل استطاعت هذه المذاهب توضيح الرؤية لمفهوم المعنى؟ وهذا ما دفعني إلى توضيحه مادام أن المعنى له صلة بالعالم الخارجي أي بالكينونة وبالتالي بالذات؛ بمجرد النظر إلى كلمة معينة داخل كتاب معين تحاول الذات استيعاب ما تخفيه السطور من شيء، أي ترغب في البحث عن المعنى الذي تحمله تلك الكلمة، بمعنى لدينا شيء موجود يطغى عليه طابع من الوجود الغير المرئي ألا وهو معنى للكلمة داخل كتاب، وهذا ينطبق لمفهوم الكينونة الذي لا يرى غير مادي بل محسوس، فالذات هي التي تدرك ذلك الشعور الذي يراودها حين تنظم إلى شيء نطلق عليه اسم لقب “الكينونة”.
هناك من ترى الشيء من الوجود كلا شيء بحد ذاته والأخرى كشيء من جهة أخرى، فالنفي هنا لا يشكل الاختلاف مادام أن الشيء موجود فقط؛ الذات هي التي تنفيه ( ينتقل من الشيء إلى اللاشيء)، ومن هنا يبدو لنا مدى وجود صلة رابطة بين الشيء واللاشيء، أي بين الوجود كمعنى و من الوجود كلا شيء بدون معنى، والأمر راجع إلى نظرة الذات تجاه الكينونة، إذن إلى أي حد سنعتبر طريقة النظر مؤيدة لهذه الزاوية التي أتصورها ؟
وإذا نظرنا إلى أحد أبناء العصور الألمانية داخل أسوار جامعة فيينا، “فيكتور فرانكل” برائعته المنشورة تحت عنوان ” الإنسان يبحث عن المعنى ” L’Être Détecte Un Sens ” ؛ سنجد توافق بين الكينونة و الذات بكون زاويته جعلتنا ننظر إلى تأثير العالم الخارجي للذات من حيث إعطاء مفهوم المعاناة كملجأ أو كوسيلة للوصول إلى مفهوم المعنى التي تغير نظرة الذات تجاه المحيط أو الكينونة بصفة عامة من جهة، وتجاه ذاتها من جهة أخرى مادام أنه لا يمكن الفصل بين هذين المفهومين بعضهما البعض بكون إذا تكلمنا عن المعاناة، بشكل مباشر سنرجعها إلى المحيط أي هناك وجود شيء تنبثق منه، بمعنى لماذا تشعر الذات بذلك الإحساس في نطاق المعاناة ؟!
وهذا ما يرغب المفكر السابق مناقشته في رائعته، ومنه الشيء كأصل كمنطلق ثم تقرر الذات برغبتها بأن يصبح ذلك الشيء كشيء موجود منتمي إلى الوجود من حيث وجود معنى من جهة أو لا شيء بدون معنى، لكن هنا لابد من استحضار محتوى تحتويه ذاك الشيء الذي ينبثق من محتوى النظرة التي تنظر من خلالها الذات تجاه ذاك الشيء ضمن الكينونة، وحينما نستطيع تحديد ذلك سيمكننا من الوصول إلى الغاية، بالرجوع إلى ما نسميه اليوم بالأدب الحديث من خلال رواية أليين غوب غغويي A.R.GRILLET تحت عنوان ” الغيرة ” La Jalousie (بدون التعمق فيها كإشارة)؛ أن نظرة الشخص الذي يشعر بالغيرة تغير نظرته إلى الأشياء سواء كان يخص ذاته من جهة أو تجاه الكينونة من جهة أخرى، بمعنى هنا استعانة بمفهوم الغيرة كوسيلة تمكنه من الوصول إلى المعنى الذي تحمله تلك الأشياء المحاطة به ذاتيا كذات و كفرد من المحيط.
ما يمكن قوله هنا بصفة عامة، أن النقصان يجعل الذات تحاول البحث عن الذي يكمل ذاك النقصان، لا أريد أو لا أرغب من الذات أن أطرح عليها وسيلة محددة كما فعلت الأغلبية من النخب الفكرية بتصوراتهم الملموسة لدينا كقراء، مادام أن الذات التي تنتمي إلى محيط معين وله ظروف ترتبط مع الذات التي تنتمي إليه، فمن أعطى لقيمة الفكر كما فعلت المذاهب العقلانية من ديكارت … إلخ، فقط محيطها يعرف عدمية التأمل من طرف الذات، ومن أعطى القيمة للمادة، كل ما هو مادي، جعلته الظروف القاسية ينتقل منها إلى الثروة فيعتقد أنه عثر على المعنى للكينونة، وهذا بحذ ذاته المعضلة التي وقعت فيها الفلسفة من طرف الفلاسفة اللذين يصرون على تطبيق نظرياتهم في أي حقبة؛ أي أن كل نخبة فكرية ماهي إلا ابنة عصرها وفقط لذلك تجد الذات تأخذ فكرة من فيلسوف معين أو مفكر المنتمي إلى أي حقبة معينة لتستوعب أي مفهوم مهما كان من ذاك المفكر، وهذا بحذ ذاته أحد العوامل التي جعلتنا لا نستوعب بعض المفاهيم كمفهوم المعنى مثلاً الذي يرتبط بشكل كبير بالذات.
حين نشترط لذات معينة بأن المعنى موجود حين تتسمين بهذا وذاك (الوسيلة) وعلى كل ذات فعل تحقيق نفس الشروط لكي تحصل على المعنى لكينونتها، سيؤدي ذلك إلى موت الأفكار وبالتالي موت التاريخ، أو الأفكار بصفة عامة حين لا نراعي المحيط الذي تنظم من خلاله الذات. وهذا ما جعلني أختتم هذه المقالة بالقول أن المعنى مفهوم محسوس غير مادي، أي يدخل إلى نفسية الذات لتنظر إليه نظرة خاصة فيتحول إلى مفهوم فتعيش فيها تصدقه كما هو عليه في كينونتها.
كتبها

الحسين الهلالي
تحرير: سابين عيسى
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.