التصنيفات
فلسفة

عن محاورة ثياتيتوس

عرض لمحاورة أفلاطون حول المعرفة والجمال

مرت الفلسفة في تاريخها الممتد عبر مراحل عدة، كانت أبرزها انفصال اللوغوس على الميتوس، وتخلص الفكر الفلسفي من الأساطير…بل والاستعانة بالأساطير من أجل ضرب الأمثلة والبراهين واستخلاص الحِكم. ولعل قصيدة هيزيود “نشأة اللآلهة” هي أول ركيزة في صرح الفلسفة اليونانية وجوهرُها. لكن، مع ذلك لم تظهر الفلسفة مكتملة -إذا كانت هناك فلسفة مكتملة طبعًا- إلا مع أفلاطون، والذي كانت لنظرياته ومُحاوراته الفضل الأكبر لظهور كل هذه الفلسفات بعده. ومهما تصدى الفلاسفة المتأخرون له بالنقد فإن فلسفتهم نفسها منبثقة عنه وامتداد له؛ فماركس المعارض لكل التصورات الطوباوية بأنواعها، يتجلى تأثير فلسفة أفلاطون في أطروحته. حيث يقول بأن البشرية بدأت بشيوعية تقليدية بدائية ثم انحطاط يُصيب العالم ألا وهي لعنة الملكية الفردية والرأسمالية، وهذه التناقضات تؤدي إلى اكتشاف الاشتراكية الضائعة من جديد، لكن هذه المرة اشتراكية متشربة بتجارب التاريخ ومتطورة. وهي نفس بنية أفلاطون الثلاثية لمقاربة المعرفة: “تجربة أولى حدسية ومباشرة للحقيقة، ثم سقوط في تناقضات وتمثلات وهمية تُعمي البصيرة، وأخيرا إعادة اكتشاف التجربة البدئية ولكن في شكل أكثر وعيًا وغنية بتجارب التاريخ، إذ يرى أن الإنسان كان في علاقة مباشرة مع الحقيقة في عالم الأفكار والمُثل؛ ثم تضيع منه كل هذه الحقائق عندما يولد كمرحلة ثانية، يمضيها في البحث و التأمل و التمحيص والشك فيصل بفضل ذلك إلى جزء من الحقائق التي احتك بها سابقًا في عالم الأرواح…لكن هذه المرة في العالم المادي. وتبين هذه الأمثلة كم أن التصور الأفلاطوني لمقاربة الحقيقة في ثلاث مراحل لم ينفك يطبع الفكر الفلسفي إلى اليوم.

لأفلاطون عدة محاورات تقارب الثلاثين محاورة عن إشكالات فلسفية عديدة ومختلفة كالأخلاق والمعرفة والمنطق والرياضيات والسياسية…أما عن المترجمة، فهذه أول مرة أحتك بعمل لها، خاصة وأنني كنت آمل مطالعتها بترجمة الدكتور فؤاد زكريا.

الدكتورة حلمي مطر من مواليد القاهرة، اشتغلت أستاذة للفلسفة اليونانية باليمن، كما كان لها إسهامات فكرية وفلسفية عديدة مضت في اتجاهين: الترجمة والتأليف؛ ومن أهم أعمالها الكتاب الذي بين أيدينا، والفكر الإسلامي وتراث اليونان، ومدخل إلى علم الجمال وفلسفة الفن…فضلاً على مشاركتها بمقالات فكرية في الجرائد والمجلات على غرار مجلة الفكر المعاصر. وقد صدرت هذه المحاورة عن دار التنوير التي أصبحت رائدة في السنوات الأخيرة في ظل تراجع المركز الثقافي العربي ومنشورات الوحدة العربية.

إن المحاورة كما هو واضح بجلاء، عبارة عن حوار بين تياتيتوس وسقراط وأقليدُس و تيودوروس، وجُل هؤلاء فلاسفة وعلماء. فتياتيتوس الذي ولد عام 415 ق.م، كان فلكيًا وفيلسوفًا وهو مخترع نظرية الأطوال الغير متناظرة في الهندسة، وقد مات في ساحة المعركة. ما جعل أفلاطون يُفكر في تخليد ذكراه؛ فأسمى بطل المحاورة باسمه، وقد ألفها أفلاطون لدحض آراء بعض الفلاسفة الآخرين في إشكال ماهية العلم. -والمقصود هنا بالعلم، المعرفة لا العلم بمعناه الأكاديمي-. وانتقد بروتاغوراس القائل بأن الحقيقة توجد في عالم المحسوسات فقط، كما انتقد نظريات أخرى بحجج منطقية.

يمكن تقسيم المحاورة إلى ثلاث أقسام حسب أجوبة تياتيتوس التي قدمها لسقراط جوابًا على سؤال الأخير، مع أنها بائت كلها بالفشل، فقد كان سقراط راضيًا رغم ذلك كونه حقق هدفه الأسمى وهو الدفع بالشاب إلى شط التساؤل وإعادة التفكير وبالتالي تحطيم وهمه بامتلاك الحقيقة وزهوه بها.

بدأت أحداث المحاورة بشبه محاولة أخفق فيها تياتيت تمامًا حيث أجاب بإعطاء أمثلة على العلم فذكر الهندسة الإسكافية، إذ أن هذه المهن بالنسبة له علم بل وفن، لكن سقراط لم يقبل منه ذلك، بل أخبره بأنه ليس الجواب الذي توخاه أصلاً، فتأتي المحاولة الأولى.

 العلم إحساس Knowledge is perception

والمقابل العربي الأقرب لها هو “الإدراك الحسي”، فهو أدق. وقد احتل هذا القسم من الأوراق أكثر مما استأثرت به الأقسام الأخرى… ومفاد هذا الجواب أن لا وجود لشيء إلا بما هو محسوس وبناءً على ذلك فليس هناك تفاضل بين رأي وآخر، إذ أن الإنسان هو مقياس كل شيء، فكل إنسان يدرك الحقائق بحواسه، وبالتالي لكل شخص حواسه والحقائق الناتجة عنها. فلا يمكن لأي أحد أن يعتبر رأيه أحق من غيره. لكن سقراط سيبطل هذا التصور ويبرز تناقضاته بدعوى أن المعرفة لا تكون دائما مرافقة للإدراك الحسي، فمثلا إذا سمع أحدنا لغة أجنبية لا علم مسبق له بها، فقد تحقق هنا شرط الحس لكننا لن ندرك معنى تلك الأصوات…ويسترسل في نقده هذا التصور بقوله أن الإنسان ليس ذاتًا واحدة بل ذواتًا متعددة و كل واحد على حدة له معرفته الخاصة، لكن العبرة ليست في اكتساب المعرفة، بل بقيمتها؛ وما يصلح للجماعة ليس رأي الفرد بل رأي الخبير المختص، فللاستشفاء نستعين بالطبيب لا برأي العامة.

إضافة إلى أن كل شيء في حركة مستمرة وتغير فلا يبقى على حالٍ حالُ، ومنه فاعتبار الحس وسيلة للمعرفة فكرة لاغية من أساسها، فالمعرفة بناءً على قضية التغير الشامل سرعان ما تتحول إلى نقيض المعرفة… وختم سقراط رحلة إبرازه تهافُتَ جواب ثياتيتوس باستحضار فكرة أن للإنسان مركز داخله، وظيفته التفكير والاستنباط. وهذا الفكر يستخدم الحواس كآليات فقط، ويتجاوزها إلى مقارنتها وتجريدها…وتنتهي هذه العملية بالتنسيق بين ما تراه العين وما تسمعه الأذن وما تلميه اليد، ومن هنا يُعتبر أفلاطون صاحب أول فلسفة نسقية، بل أول “فلسفة مكتملة”…

المعرفة هي الحكم الصادق True Judgment

ولما كانت من أساليب سقراط التفكيرية العلم السلبي وهو البحث في نقيض الشيء وتقويضه استفسر مباشرة عندما سمع الجواب عما هية الحكم الكاذب إذا كان هناك حكم صادق، وتباحث سقراط معه هذا الإشكال فاستبعد عدة احتمالات ثم استعان بالتفسير الذي قال فيه أن الحكم الكاذب راجع الى الذاكرة التي تشبه لوحة من الشمع؛ تُطبع المدركات عليها، لكن مع مرور الزمن تُثمر هذه الآثار وتُشوه وبالتالي فمطابقة الإنسان للانطباع جديد مع آخر سبق وجوه في الذاكرة، قد يخطئ، ولهذا فتعريف تياتيت خاطئ بدوره.

العلم هو الحكم الصادق المؤيد بالبراهين

هذا الجواب لم يحل الإشكال السابق بعد، وفي أثناء نقاشهم حكى سقراط للشاب عن حلم راوده وهو أن الأشياء تنقسم إلى شقين: مركبة وجزئية، فالمركب من الأشياء نعرفه بأجزائه، أما الأجزاء فلا سبيل لإدراكها إلا بالإحساس بها بديهيًا. ثم مضى إلى تقسيم البراهين إلى ثلاث أنواع:

  1. البرهان بالبيان.
  2. البرهان باستحضار خصائص شيء ما وإحصاء مميزاته.
  3. البرهان بإعطاء البصمة التي تميز أنواع الأشياء.

رغم قصور المحاورة في تمخض تعريف للعلم، إلا أنها حققت هدفًا من أهداف الفلسفة الأزلية وهي تحطيم وهم امتلاك المعرفة وترسيخ مبدأ الشك في البديهيات. والفكرة هذه نفسها ختمت بها الدكتورة حلمي تقديم ترجمتها لمحاورة ثياتيتوس وهي حذو هؤلاء العقول النيرة والاتصاف بصفاتهم من تواضع وحب للمعرفة و الاستعداد للتعلم في أي وقت وحين. وبهذا نختم سيرنا في هذه المحاورة الخصبة بالأفكار وضروب المتعة ومحاولتنا لتكثيف محاورها البارزة.

كتبها:

عمر حجوبي

عمر حجوبي

أستاذ الفلسفة من المغرب. انستغرام

تحرير: سابين عيسى