التصنيفات
فنون

مقدمة في مفهوم الإنحلال الفني

عن تحول التفكير في القيمة الفنية إلى أيديولوجيا

أيديولوجيا الانحلال الفني  

كلمة انحلال يقصد بها هنا كونها تنحل عن الراغبات الإنسانية الجوهرية خاصةً -أو حصراً بالأحرى- في تعريفاتها الأيديولوجية و هذا في تعميم مخل أكثر من كونه تعميم مانع لأي طرح آخر؛ إذ بالنظر إلى أطروحات ’بيير بورديو حول استطاعة طبقة و هي البرجوازية أكثر من غيرها على تقديم الفن و مواكبة تطوراته ولاسيما فك شفراته، يرجع إلى أصل النشأة فيما سماه الرأسمال الثقافي و هو ما توفره البيئة البرجوازية من وقت و تعليم جيد و توريث المخزون السابق من قِبل الأسرة لأبنائها ، لكن رغم ذلك كثيراً ما نجد فن ذي رونق كونه مبني على أسس فنية شديدة المتابعة و التأصيل من قبل البيئة البرجوازية لكنه غالباً ما يكون خالي من أي معنى كما ذكر آنفاً أو بالأحرى ينظر له كونه ذو رؤية بعيدة عن واقعنا -الفن للفن مثلاً-. ولكن ذلك لا يمنع إنتاج فن جيد كان جوته برجوازي ولم تكن النزعة الرومانسية سوى حركة مناهضة للسوق الجديد وإن كانت لا ترقى إلى توقعات الجانب اليساري في الفن المنتظر!  فذلك يجعلنا نتساءل وهذا انطلاقاً من طرح بيير بورديو عن مسؤولية الطبقة البرجوازية في الفن.

إشكالية مفهوم الانحلال من الجانب اليساري

لمفهوم الانحلال الفني جدل واسع في الفكر الاشتراكي خاصةً في منتصف القرن العشرين و ذلك بعد عقود من صياغة مكسيم غوركي لمفهومي الواقعية الانتقادية و الواقعية الاشتراكية، و يتمثل الأول في الفن البرجوازي والأخير بالرؤية الاشتراكية للواقع من خلال الفن وذلك الأخير ما تحمس له ’غوركي في عهد ’لينين، إلا إنه كان إحدى طرفي المناقشة آنذاك؛ حيث انقسم الجدل الفني الى مدرستي التقليديون و المستقبليون و لسماح الحكم في تلك الفترة بالقليل من المشاريع الخاصة و جد المستقبليون منفذ لفنهم التجريدي البعيد عن الواقع عكس الرؤية التقليدية في الفن حينها إلا أن الفن و الأدب آنذاك لم يخلوا من مضايقات السلطة و ها ما سبب خلافات ما بين الصديقين اي ڤ. لينين و م. غوركي.

 إلا أن الأمر لم يتوقف عند ذلك التقابل فإن القضية أخذت مجادلات واسعة. يذكر إرنست فيشر في كتابة ضرورة الفن عن جدل قام عام 1962 في (مجلة الفن و الأدب) بين المفكر السوفيتي ’إليا فرادكين و أحد كبار المسؤولين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وقام الحوار في نفس المجلة، و فيها تتطرق الأول إلى مفهوم الانحلال و مدى تصلبه و قطبيته للنظرة الماركسية في الفن بشكل تعسفي حيث أنه توقف عند اعتبار كل فنون الغرب منحلة و رجعية في تصوراتها رغم اختلاف مدارسها و منهجها و لم تستطيع إلا التسليم لكتاب و فنانين من أمثال موليير و راسين و’ڤان جوخ و’جوجان كونهم لديهم قدرات استثنائية تميزوا بها ليس إلا و ذلك لنظرتهم التي لا خلاف عليها من كلا الجانبين.. و كما هو المتوقع اعتقد الأخير في رأي ’فرادكين أنه مجرد آراء ذاتيه يترفق بها على “زهرة الانحلال ” و إن المفكرين السوفييت حتى ’غوركي أدانوا مفهوم الانحلال من قبل إلا أنه من طبيعة الاستقبال الفني أن يرى في ضوء مضمونها الأيديولوجي و السياسي و كذا في ضوء حظها من الجمال، حتى و إن كان تدخل سلطوي كما في رواية ’بوريس باسترناك .. و ذلك في نظرة لتجاوز ما ذكرة “أسباب عديدة مكنت لظاهرة انحلال الفن البرجوازي التي بدأت في فرنسا قرب نهاية القرن الماضي من التأثير تأثيرا قوياً و مدمراً على تطور الفنون في ألمانيا، و ينبغي أن نشكر مؤرخي الفن السوفييت اذا كانوا قد ساعدونا على الوصول إلى تحليل علمي حقًا لذلك الانحلال” لذا يتضح الرؤى المتباينة في المعسكر الاشتراكي و يتباين أكثر على أيدى الفنانين والأدباء ذو الرؤية نفسها، يكفى أن ننظر إلى ’مكسيم غوركي و’برتولد بريخت رغم أنهم ذو مرجعية واحدة و هي وجهة النظر التاريخية للطبقات الصاعدة.

يمكن اختزال نهج بريخت فيما قاله في نهاية مسرحيته الإنسان الطيب في ’سيشوان: “نقف هنا مصدومين، نشاهد بتأثر الستارة وهي تغلق وما زالت كل الأسئلة مطروحة للإجابات” لم يكن يقدم إجابات نموذجية حول الأوضاع بل كان يتشارك مع المتفرج من خلال كسر الجدار الرابع حالة من الدهشة و التغريب التي يسقطها على الأحداث اليومية الطبيعية خالقًا صيرورة جديدة في ذهن المتفرج.

في حين كان غوركي وهو الأقرب والأكثر تنازع مع السلطة التي انتمى إليها حينا -انظر إلى جدله مع لينين وستالين بشأن الدور الثقافي والديني في المجتمع- إلا أن نهجه اختلف كثيراً عن بريخت ويكفي أن نعلم إن رواية الأم كان لها من التقديس والتمهيد الأدبي للثروة البلشفية للدولة السوفيتية بعد هزيمة الثورة الأولى، لذا كان مقاصدها واضح وهو رفع الروح المعنوية من قصة حقيقية حتى وصفها لينين “ذات أهمية قصوى. العديد من العمال الذين انضمّوا بحماسة للثورة دون أن يفهموا لماذا، سيستوعبون الدوافع جيدًا بعد قراءة الأم” وللمفارقة صيغت في مسرحية من قِبل ’بريخت.

إذًا هذه ليست بقراءة نقدية للمناهج الأدبية إنما إلقاء الضوء على تباين الصيغ والمعالجات الاجتماعية في ظل الرؤية الموحدة لهم مما يجعلنا نتساءل أي الفنون أكثر انحلالاً من غيرها وذلك في ظل الاتجاه الواحد.

البرجوازية نحو اللاواقع

“إن لوحة من القرن الخامس عشر هي مستودع للعلاقات الاجتماعية فمن جهة كان هناك فنان صنع اللوحة ومن جهة أخرى شخص آخر كلفه بأن يصنعها” michael baxandall

برؤية نقدية أبعد قليلاً نجد أنفسنا مع ’بيير بورديو و ’ث. ادورنو في محاولة فهمهم للأدب والفن في ظل المجتمع الرأسمالي خاصةً، و السلطوي عامةً، وعن دور المجتمع و السلطة في الفن .. و من خلال الاقتباس السابق لمؤرخ الفن باكساندل يدعونا ’بورديو إلى النظر في تحول الفن الوظيفي اجتماعياً في أوانه إلى فن يقدر لكونه جميل في مؤسسات فنية و علاقات فنية في لحظة تاريخية مختلفة و ذلك بالنظر إلى مثال اخر و هو مبولة دوشان حيث معروف وظيفتها إلا أنه تم تقديمها على أنها فن في ذاتها و ذلك لأنها أصبحت تابعة لحقل أصبح مستقل بشكل كبير عن الإنتاج السلعي في المجتمع .. لكن في نظر بيير بورديو أن الشروط التاريخية اللازمة في نشأة حقل فني فهي تنتج أيضاً شروط استقباله للمتلقي.

وذلك من خلال مسح إحصائي لتعدد الإقبال على صالات الفنون الأوربية نشر في1966. حيث يتبع الدوافع المختلفة للطبقات الاجتماعية لزيارة قاعات الفنون و من ثم تقدير الفن و الثقافة و أرجع قلة الزوار من المتحدرين من أصول ريفية يرجع إلى افتقارهم إلى الشفرة المطلوبة لفك العمل الفني و ذلك بخلاف أطفال البرجوازية و الأرستقراطية فإن مؤسساتهم التعليمية و وسطهم الاجتماعي يؤهلهم إلى ذلك و أن الطبقات المسيطرة في المجتمع تبتعد عن تلك الرؤية و وصفها كمؤشر على التفوق العقلي لأبناء الطبقة ، و تطرقت دراسات ’بورديو حول الاستجابة الفنية التي أشارت إلى أن أبناء الطبقات الريفية يقدرون اللوحات التي تحتوي على مناسبة اجتماعية .. لذا يتضح أن التجرد من الوظائف الاجتماعية عند النظر إلى لوحة وتقيمها بشكل جمالي هو أمر محتكر للطبقة المهيمنة في المجتمع وأن القدرة الممنوحة لأبناء الطبقة المهيمنة تسمى رأس المال الثقافي وأن دورها يتعدى فهم الفن في ذاته لأسباب سلطوية.

رأى ’ثيودور أدورنو أن تفضيلاتنا الفنية تعود إلى منهجية الاستهلاك في العالم الرأسمالي و تحت أي سلطة عامة و خاصةً الثقافة الشعبية و يرتبط الإثنين ببعضهم حيث أن الفن مرآة للمجتمع وانحداره يدل على انحدار المجتمع ذاته و لطالما رأى أن الفن هو نزوع للحرية و التحرر من الآلية الرأسمالية فإنه رأى في الفن الشعبي (pop culture) خاصةً بعد هجرته إلى أمريكا نوع من التغيب العقلي بل تدفعنا إلى احتياجات أخرى ليس في جوهرنا و ذلك لكونها ثقافة تسلية -وهي جزء من صناعة الثقافة و هي المفهوم الأكبر في أطروحات مدرسة فرانكفورت- والتي تكون بمنأى عن التغيرات الضرورية الحقيقة و ذلك جانباً إلى جنب مع سلبها ما سماه حريتنا الجمالية اي ذلك الوقت المنقض في ظل عمل فني متكامل. وتجنباً لخلق تراتبية فنية فإن مأخذ ثيودور أدورنو على الفن الشعبي ليس إنه ممتع بقدر كونه لا يقدم متعة حقيقية وذلك على الفنون النخبوية.

لماذا ابتعد الفن المعاصر عن كلا الاتجاهين؟

لم يعد تهتم بعض إنتاجات الفنون المعاصرة – زمنياً وليس مفاهيمياً- كثيراً بذلك التواصل الجاد مع الواقع أو ممثلية أي الجماهير لعله انطلاقاً من نظرة فوقية أو حاجة ذاتية للإنتاج الفني في ذاته، وذلك نجده متماشيًا مع قيم العصر أكثر من كونه انحلال مقصود خاصةً في ظل الاتجاه العام للنقم على السرديات الكبرى وكأنها لم تكن. دون محاولة للجدال معها حتى، وبدوره ينعكس ذلك على ظروفنا الاجتماعية الحالية كونها مشبعة في اللحاق بها برؤية أيديولوجية دون الالتفات إلى تلك المعاني الإنسانية الخالصة التي تقبع فيها لم يعد لكل طبقة فنها الخاص و شفراته بل ذهب الجميع في رحلة خيالية من الأصوات والألوان ليس لشيء سوى للهروب. لكن إلى أين؟

في نهاية الأمر تجنبنا قدر الإمكان تقديم إجابة قاطعة عن “الانحلال الفني” في محاولة لإدراك ماهيته وأصوله قبل أي شيء؛ لمحاولة تدارك الأمر من جهته النسبية والأيديولوجية غالباً، كما اتضح ولعل له أكثر من ذلك، لكن وجدنا هذا أقرب إلينا في لحظتنا التاريخية. ونقيم السؤال التالي على أي جانب يمكن تقييم الفن وعلى من تقع مسؤوليته، خاصةً أننا لم نتطرق إلى الفنان في ذاته، والأهم عن تلك الزوايا المتاحة للجميع للنظر من خلالها!

مهاب محمد
مهاب محمد

مختص بنظم المعلومات الإدارية ومهتم بفلسفة الفن