التصنيفات
فلسفة علوم

العلم والديموقراطية

هل يجب فصل العلم عن السياسة؟

كان الدور الملائم للعلم داخل المجتمع الديمقراطي مجالًا مركزيًا للنقاش على مدار القرون العديدة الماضية. بينما يحافظ العلم والديمقراطية على شراكة مهمة، تظل علاقتهما مليئة بالصعوبات. تواجه الحكومات الديمقراطية مطالب لزيادة مشاركة المواطنين في القرارات التي تنشأ عن الطريقة التي يؤثر بها العلم على الجمهور. يتضمن ذلك طلبات لمزيد من التحكم في التقنيات التي يبدو أنها تعمل دون رادع. بالإضافة إلى ذلك، يشكو المجتمع العلمي من جهل الجمهور، بينما ينظر المواطنون غالبًا إلى الخبراء العلميين بالريبة وعدم الثقة. ترتبط هذه الاهتمامات المعاصرة بمناقشات طويلة الأمد تتعلق بالتنظيم الاجتماعي للبحث العلمي وأهميته السياسية. برز موقفان رئيسيان من هذه النزاعات. الأول يفهم العلم على أنه يمثل طريقة أو منهج يمكن تعميمه ليشمل مسائل الحياة الاجتماعية والسياسية. في أكثر أشكالها طموحًا، ترى وجهة النظر هذه العلم الحديث باعتباره الأساس الثقافي المناسب لكل من السياسة الديمقراطية وتكوين المواطنين الأخلاقيين. وجهة نظر أخرى معارضة، تصور العلم على أنه نوع مميز من النشاط يتعامل مع مشاكله الخاصة، وبالتالي فهو غير مناسب كنموذج للحياة المدنية. من هذا المنظور، يتطلب العلم استقلالية عن المجال السياسي لضمان استمرار التقدم العلمي والتكنولوجي. كان هذا الرأي ناجحًا إلى حد كبير في دعم محاولات تأمين التمويل الحكومي للبحث العلمي دون التخطيط المركزي الذي كان يُعتقد أنه يعيق البحث العلمي والابتكار.

خلال الحرب الباردة، بدأت السلطة والاستقلالية الممنوحة للعلم في أن تخضع لمزيد من الفحص النقدي. الروابط المزيفة بين العلم والصناعة والجيش أبرزت التوزيع غير المتكافئ في كثير من الأحيان بين تكاليف البرامج العلمية وفوائدها الاجتماعية. استجابة لهذه المخاوف، درس الكثيرون طرقًا لجعل العلم أكثر ديمقراطية، مما يسلط المزيد من الضوء على كيف يمكن أن تتعارض معرفة الخبراء مع هذا الهدف. اقترحت عدد من النماذج المختلفة للمشاركة العامة في صنع القرار العلمي والتقني بدرجات متفاوتة من النجاح. في الآونة الأخيرة، انتقل تطبيق مثل هذه النماذج إلى ما وراء دول مثل كندا والدنمارك والولايات المتحدة ليشمل السياقات الاجتماعية لآسيا، وخاصة في اليابان وكوريا وتايوان، وقد أدى ذلك إلى فهم أعمق لطبيعة الخبرة وفحص الأشكال المختلفة لمشاركة المواطنين. فيما يلي نظرة عامة موجزة عن هذا الانتقال يستنتج أنه بينما من الواضح أن العلم ليس الطريق الملكي للديمقراطية، فإن زيادة مشاركة المواطنين تحمل وعدًا بتشكيل تحالف أكثر تعاونًا بين الخبراء العلميين والمواطنين.

العلم كأنموذج مدني: الديمقراطية العلمية

أكدت إحدى السمات المركزية للفكر الغربي منذ الثورة العلمية كيف أن انتشار العلم في قلب المجتمع من شأنه أن يدعم الحكم الذاتي الديمقراطي. كانت هذه الفكرة موضوعًا شائعًا في الأيام الأولى للجمهورية الأمريكية، واتخذت شكلاً أكثر طموحًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما صُور العلم على أنه وسيلة لتعزيز الممارسات الديمقراطية الأمريكية. حاول المدافعون عن هذه الثقافة العلمية التوفيق بين ما يمكن اعتباره مطالب تنافسية للبحث العلمي وشرعيته الديمقراطية. وفقًا لوجهة النظر هذه، يجب أن يُنظر إلى العلم والديمقراطية على أنهما مكونان متناغمان ويعزز كل منهما الآخر في الحياة الأمريكية.

جادل هؤلاء “الديموقراطيون العلميون” أنه بالإضافة إلى الموارد التكنولوجية، فإن التطور العلمي الأكبر يقدم نظرة أخلاقية مناسبة للحياة الديمقراطية الأمريكية. كانوا مهتمين بشكل أساسي بتقديم الادعاء المركزي بأن العلم يمكن أن يساعد في تكوين المواطنين الأخلاقيين. كان الفيلسوف جون ديوي صوتًا رائدًا في هذه الدعوة إلى “الديمقراطية العلمية”. رأى معتقده الفلسفي التوجيهي أن العلم الحديث يحتوي على موارد لثقافة ديمقراطية عادلة امتدت ذات مرة إلى دراسة الشؤون الإنسانية، بما في ذلك المجالات الاجتماعية والسياسية للحياة المجتمعية. كما اعتقد أن تعزيز الموقف العلمي داخل الحياة الأمريكية من شأنه أن يساعد في المساهمة في مجتمع ديمقراطي أكثر مساواة. اتخذت مثل هذه الامتدادات العلمية للحياة الثقافية أشكالًا عديدة كما يتضح من مثال ديوي الخاص. قدم التجربة والتجريب كنموذج للتداول السياسي وفي بعض الأحيان قدم العلم كوسيلة للهندسة الاجتماعية والأخلاقية.

كان الديموقراطيون العلميون يقصدون بـ “الديمقراطية” ببساطة الحس الشعبي لنظام حكم تحدده السيادة الشعبية. علاوة على ذلك، كان يُفترض عمومًا أن التأثير الاجتماعي للعلم موجود في قدرته على تحسين تشكيل الإرادة العامة، حيث ينطوي بشكل حاسم على تشكيل الشخصية الأخلاقية للمواطن. بينما كانت هناك مقاومة لهذه الأفكار، لم يكن الرأي القائل بأن العلم يعزز قيم المجتمع الديمقراطي موضع تساؤل عميق حتى خلال الحرب الباردة. سوف يسلط المفكرون اللاحقون الضوء على الطرق التي لا تعد ولا تحصى التي لا تتطابق فيها مصالح العلم والديمقراطية ويؤكدون بشكل أكثر على أهمية زيادة المشاركة العامة في صنع القرار العلمي، لا سيما عندما يؤثر ذلك على الجمهور.

كاريكاتور عن عالم يبيع دواء

بعض الأصوات المعارضة: الحاجة إلى الاستقلالية العلمية

خلال هذه الفترة نفسها، صُورت الاختلافات بين العلم والديمقراطية بوضوح من قبل أولئك الذين انتقدوا فكرة توسيع المثل العلمية لتشمل المجتمع المدني. في ألمانيا، انتقد عالم الاجتماع ماكس ويبر بشدة إعطاء أهمية سياسية للعمل العلمي. وجادل بأن الخبرة والتخصص هما من شروط النجاح العلمي وأن هذا النوع من الإنجاز لا يجب أن يعمم أكثر لمعالجة مشاكل الحياة. عارضت مناهج بارزة أخرى مناهضة لديمقراطية التخطيط العلمي فكرة العلم المستقل المنفصل عن الحياة السياسية والاجتماعية. تضمنت الأمثلة وجهات النظر الماركسية حيث قدمت الظروف الثقافية على أنها مسؤولة عن التقدم العلمي بما في ذلك فكرة أن الممارسة التكنولوجية تدفع بناء النظريات. كان التركيز السوفياتي على التخطيط العلمي مؤثرًا أيضًا. أعتمد على نتائج العلمية مستمدة من تنظيم الدولة، حيث يؤدي التطبيق الإضافي لأساليبها إلى إلغاء الاعتماد البشري على العالم المادي.

أدى التركيز السوفياتي على فكرة التخطيط العلمي إلى زيادة الاهتمام بنطاق الحرية المخصصة للبحث العلمي، حيث تحول التركيز إلى القضية الحاسمة المتمثلة في الاستقلالية العلمية. قدم عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون حجة لاستقلالية العلم من خلال مناقشته لأخلاقيات العلم التي تنطوي على أربعة معايير رئيسية: العالمية، والشك المنظم، و “الشيوعية” أو مشاركة النتائج العلمية، وعدم المبالاة. جادل ميرتون بأن التكامل الاجتماعي يعتمد على المعايير الثقافية، لكن الهيكل المعياري للمجتمع العلمي لم يكن مشتقًا من المعايير العامة. وهذا بالضبط ما جعل العلم عرضة لمحاولات “مناهضة العقلانية” لممارسة سيطرة مركزية على العلم. بالنسبة له، فإن الطريق إلى الأمام ينطوي على الاعتراف بأن الاستقلالية العلمية مهددة بالمثل العليا المتعلقة بالامتداد الثقافي للعلم، وأن العلم والديمقراطية لا يتوافقان إلا إذا تم الاعتراف باستقلالية العلم والحفاظ عليها.

قدم العالم مايكل بولاني حججًا مؤثرة أخرى لاستقلالية العلم من خلال الادعاء بأن العلم لا يحتاج إلى حكم سياسي لأنه كان محكومًا بالفعل بتقاليده الخاصة. وشدد على أن المنهج العلمي كان نشاطًا غير ميكانيكي للاكتشاف يقوم على معرفة غير مفصلية متأصلة في التقاليد. ثم تميز المجتمع العلمي عن عقلية التخطيط لبيروقراطية الشركات، حيث كان مثل هذا التخطيط من شأنه أن يدمر المجتمع نفسه الذي يسمح بحرية الاكتشاف العلمي. هذا يشير أيضًا، مع ذلك، إلى أن العلم يشارك سمات المجتمعات الأخرى مع أهمية التقاليد القوية والمناقشة الحرة وقرارات الضمير. توصي مثل هذه القواسم المشتركة بموقف من الاحترام المتبادل بين العلم والديمقراطية الذي اعتقد بولاني أنه سيساعد في تسليط الضوء على كيفية تأمين التقدم العلمي من خلال استقلاليته. كان جيمس كونانت، رئيس جامعة هارفارد، صوتًا مهمًا آخر في رفض فكرة أن العلم يصنع مواطنين أفضل، وقد أثرت وجهة النظر هذه دراسات الحالة الخاصة به عن سياسة التعليم. خلص هو وبولاني إلى أن العلم يجب أن يُحكم بشكل غير مباشر من خلال تسهيل المنافسة النشطة بين العلماء. جادل مؤرخ العلوم الأمريكي توماس كون كذلك بأن لا العلم ولا أنظمة المكافأة تعمل بشكل ديمقراطي. قدمت هذه الآراء دعماً متزايداً لفكرة أن مطالب البحث العلمي ومصالح المجتمع الديمقراطي لم تكن متماثلة.

مناظرات ما بعد الحرب: الخبرة والمشاركة العامة

في حقبة ما بعد الحرب، تم تحدي الاستقلالية السياسية والسلطة الممنوحة للبحث العلمي من قبل العلماء الذين سعوا إلى إضفاء الديمقراطية على الممارسة العلمية. التوترات المتزايدة بين العلم كتقنية موثوقة والعلم كرؤية للحياة المدنية ستتطور لاحقًا إلى نقاش سياسي حول السلطة العلمية والخبرة. فحِصت مؤخرًا الروابط بين العلم والسياسة والمصالح العامة بعناية أكبر في محاولة لجعل العمل العلمي أكثر عرضة للمساءلة أمام الجمهور.

تنبع المشكلة الرئيسية في أي احترام لسلطة الخبرة العلمية داخل المجتمع الديمقراطي من تهديدها الواضح لحكم الشعب. يصبح التحدي محاولة تحديد موقع الخبرة بعناية ضمن الالتزام المستمر بالقيم الديمقراطية. هنا أوصى المعلقون بزيادة التقييم العام للنتائج العلمية والافتراضات الموضوعة حول العالم الاجتماعي. يجادل عالم الاجتماع ستيفن تيرنر بأن أحكام الخبراء يمكن قبولها ديمقراطيًا من حيث المبدأ، بينما تظل مؤقتة ومنفتحة على التحدي. وعلى نفس المنوال، يؤكد آخرون على أن التقييم العام المتزايد للنتائج العلمية يمكن أن يساعد في تحديد القيم المتضاربة بين مجموعات المصالح ويوضح كذلك كيف يؤثر ذلك على المخاطر العامة. يؤرخ ستيفن إبشتاين كيف أدرك نشطاء الإيدز الافتراضات الخاطئة في البروتوكولات التي وضعها العلماء لاختبار الأدوية الجديدة. وقد مكنهم ذلك من التشكيك في كل من الأخلاقيات والطبيعة المصطنعة لهذه التجارب السريرية.

يمكن أن تبرز المشاركة الأكبر تلك المخاوف التي تظل في المصلحة العامة ولكنها ببساطة غير معروفة من قبل الخبراء العلميين. كشف فحص بريان وين لمزارع الأغنام الإنجليزية الشمالية التي يُحتمل أنها تأثرت بحادث تشيرنوبيل النووي كيف ظل المزارعون حساسين لمصادر الإشعاع المحتملة الأخرى وكان لديهم معرفة بتربية الأغنام غائبة عن العلماء. يمكن تأطير هذه القضية بشكل أكبر من حيث طبيعة الخبرة ومعرفة الخبراء. يمكن أن تأتي الخبرة بأشكال عديدة، وقد يُظهر الجمهور نوعًا من الخبرة التي تفضي إلى التقدم العلمي الذي يفتقر إليه المجتمع العلمي. قدم عالما الاجتماع هاري كولينز وروبرت إيفانز تصنيفًا لأنواع مختلفة من الخبرة من أجل توضيح الأشكال ذات المغزى من المشاركة على أمل تحقيق مساواة معرفية أكبر. هناك طريقة أخرى للجمع بين أنواع مختلفة من الخبرات تتضمن ما يسميه الفيلسوف فيليب كيتشر “مثالاً للعلم المنظم جيدًا”. وفقًا لهذا النموذج، يكون البحث العلمي منظمًا جيدًا عندما يتم اختيار المشكلات التي يعالجها من قبل مجموعة متنوعة من الممثلين الذين يكونون على دراية كاملة بما أنشأه العلم، وما هي المجالات التي تظل مفتوحة، ويكونون ملتزمين بمعالجة الاحتياجات الملموسة للجمهور. استخدمت هذه الأفكار في تطوير الديمقراطيات مثلما في حال جنوب إفريقيا حيث يُنظر إلى مساعي “العلوم المدنية”، والحوار النشط بين العلماء والمهندسين وأعضاء المجتمع الآخرين، على أنها وسائل فعالة لإدارة الموارد. يدعم هذا التفاعل العمليات الديمقراطية من خلال التعرف على المصادر المتنوعة للمعرفة المتخصصة، ويخلق كذلك بيئة مواتية لتعزيز الديمقراطية عبر العلم.

وقد أدت هذه الأمثلة إلى بصيرة أعمق حول كيفية تحسين المشاركة العامة في صنع القرار التقني لقيمة وجودة العلم والتكنولوجيا. تكون العمليات التشاركية فعالة بشكل خاص عندما تكون ممثلة للمهتمين، وتشجع التداول العادل، وتوفر موارد كافية للنقاش المستنير، وتظل شفافة وخاضعة للمساءلة، وتجرى بكفاءة. اتخذت عملية إضفاء الطابع الديمقراطي على العلوم والتكنولوجيا أشكالًا عديدة بما في ذلك “مؤتمرات التوافق” التي نشأت في الدنمارك واستخدمت أيضًا في أجزاء أخرى من أوروبا وكندا والولايات المتحدة ومؤخراً في آسيا. تتكون مؤتمرات التوافق من لجان المواطنين المسؤولة عن تقديم توصيات غير ملزمة للحكومة فيما يتعلق بقضية تقنية محددة ذات اهتمام اجتماعي أوسع. يمكن أن تسمع هذه اللجان من الخبراء ولكنها تحتفظ وحدها بالمسؤولية عن توصياتهم. حققت مؤتمرات التوافق نجاحات ملحوظة من حيث قدرتها على زيادة المشاركة العامة دون فقدان الوضوح أو العقلانية في عملية صنع القرار. في تايوان، أظهر استخدامها نجاعة التفاعل بين الخبراء وعامة الناس من خلال زيادة محو الأمية العلمية بشأن الخلافات في العلوم. يمكن للجمهور العادي أيضًا تحديد تحيزات ومواقف الخبراء العلميين، وكذلك إثارة نقاط مهمة لم يقترحها الخبراء العلميون بوضوح. أدى استخدام مؤتمرات التوافق في كوريا واليابان إلى استكشاف نماذج أخرى للمشاركة العامة، حيث يركز موضوع إرشادي مهم على توضيح الطرق الدقيقة التي تؤثر بها سياقات المجتمع المحلي على عملية المداولات العامة حول القرارات الفنية. تقدم لجان المواطنين أمثلة واضحة على كيفية قيام المواطنين المطلعين بتحديد التحيز العلمي وتقديم قضايا مهمة لم يقترحها الخبراء العلميون. ما يشير إليه هذا بعد ذلك هو أن العلاقة بين الخبرة العلمية والمواطنة الديمقراطية يمكن أن تكون أقل عداوة، حيث أن زيادة مشاركة المواطنين يمكن أن تساعد في تشكيل تحالف أكثر تعاونًا بين الخبراء العلميين والمواطنين.

كتبها:

روبرت سنكلير

أستاذ الفلسفة بكلية الفنون الليبرالية الدولية، جامعة سوكا، طوكيو، اليابان. يدرس موضوعات عن التقاطع بين الفلسفة البراغماتية وتاريخ الفلسفة التحليلية.

ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مجلة Philosophy World Democracy وقد ترجمت هنا بترخيص منهم.

ترجمها: رافاييل لايساندر