التصنيفات
قانون أصوات الزمن تاريخ

محاكم على ما تشتهي

عن تعدد أنظمة القضاء في البلاد العربية

قال عيسى بن هشام: ولما حل يوم الجلسة رافقت الباشا إلى المحكمة فوجدنا في ساحتها أقوامًا ذوي وجوه مكفهرَّة، وألوان مصفرَّة، وأنفاس مقطوعة، وأكف مرفوعة، وشاهدنا باطلًا يُذكر، وحقًّا يُنكر، وشاكيًا يتوعد، وجانيًا يتودد، وشاهدًا يتردد، وجنديًّا يتهدد، وحاجبًا يستبد، ومحاميًا يستعد، وأمًّا تنوح، وطفلًا يصيح، وفتاة تتلهف، وشيخًا يتأفف، وسمعنا ألفاظًا متناقضة، وأقوالًا متعارضة، ورأينا المحاميَين، عن الخصمين، يشحذ كل منهما لسانه، ويقدح جنانه، استعدادًا للنزال في ميادين المقال، وتأهبًا للدفاع، في مواقف النزاع، ليخرج كلاهما بغنيمة البراءة في الحكم، ورفع التهمة والجرم، فانزويت بصاحبي، ومحامينا بجانبي، يذكر لنا «أصولًا مرعية»، و«مسائل فرعية» وظروفًا وأحوالًا، وشروحًا وأقوالًا، وموادَّ وفقرات، في الجنح والمخالفات، ثم يتصفح محاضره، ويقلب دفاتره، ويُقسم لنا بوكيد الأيمان، أن الباشا من تهمته في أمان، وأنا أجيب صاحبي عن كل سؤال، بما تقتضيه الحال، ولما سألني عن هذه الملحمة قلت له: هي المحكمة.

الباشا: قد كان العهد بالمحكمة الشرعية وبيت القاضي على غير ما أرى فهل أصابها الدهر فيما أصاب بالتغيير والانقلاب؟

عيسى بن هشام: هذه هي المحكمة الأهلية لا المحكمة الشرعية.

الباشا: وهل للقضاء بين الناس غير المحكمة الشرعية؟

عيسى بن هشام: للقضاء في هذه البلاد على ما تَشتهي محاكم متعددة ومجالس متنوعة؛ فمنها المحاكم الشرعية والمحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة والمجالس التأديبية والمجالس الإدارية والمجالس العسكرية والمحاكم القنصلية، دَع المحكمة المخصوصة.

الباشا: ما هذا الخلط، وما هذا الخبط، وسبحان الله هل أصبح المصريون فرقًا وأحزابًا وقبائل وأفخاذًا، وأجناسًا مختلفة، وفئاتٍ غير مؤتلفة، وطوائف متبددة، حتى جعلوا لكل واحدة محاكم على حدة، ما عهدناهم كذلك في الأعصر الأوَل، مع دولات الدول، وهل انطمست تلك الشريعة الغراء، واندرست بيوت الحكم والقضاء، اللهم لا كفران ولعن الله الشيطان.

عيسى بن هشام: ليس الأمر على ما تتوهم وتتخيل؛ فلم يتفرق المصريون فرقًا ولم يتوزعوا شعوبًا، بل هم أمة واحدة ولهم حكومة واحدة يقضي نظام الأمور فيها بهذا النسق والترتيب في القضاء والحكم، وأنا أشرح لك جملة الحال شيئًا قليلًا.
أما المحاكم الشرعية فقد جُرِّدت من النظر والحكم في عامة المخاصمات، واقتصر العمل فيها على الأحوال الشخصية؛ أعني مسائل الزواج والطلاق وما يدخل في هذا الباب.

الباشا: تالله لقد فسد الحال وانحل النظام، وكيف يعيش الناس ويستقر لهم حال بغير شرع الله وسنة نبيه، وهل أصبحتم في الزمن الذي يعنيه القائل بقوله: قد نُسخ الشرعُ في زمانهم فليتهم مثل شرعهم نُسِخوا.

عيسى بن هشام: لم يُنسخ الشرع ولم يرتفع حكمه، بل هو باقٍ على الدهر ما بقي في العالم إنصاف وفي الأمم عدل، ولكنه كنز أهمله أهله، ودرة أغفلها تجارها، فلم يلتفتوا إلى وجوه تشييده وتمكينه وتمسكوا بالفروع دون الأصول، واستغنوا عن اللب بالقشور، واختلفوا في الأحكام وعكفوا على الاشتغال بسفساف الأمور، وتعلقوا من الدين بالأغراض الحقيرة والأقوال الضعيفة، وتركوا الحقيقة إلى الخيال وتعدوا الممكن إلى المحال، فكان من أكبرهم العالم العلامة فيهم والحبر الفهامة منهم أن يُبدع في التفنن للإغماض في الحق الأبلج والتعقيد في الحنيفية السمحة، ولم ينتبهوا يومًا إلى ما تجري به أحكام الزمن في دورته، ولم يفقهوا أن لكل زمن حكمًا يوجب عليهم تطبيق أحكام الشرع على ما تستقيم به المصلحة بين الناس، بل ظلوا واقفين عند الحد الأدنى لا يتزحزحون ولا يتحلحلون، معتقدين أن الدهر دار دورتَه ثم وقف، وأن الزمن تحرك حركته ثم سكن فلا أمل فيه ولا عمل، فكانوا سببًا في تهمة الشرع الشريف بخلل الحكم ووهن العَقد وقلة الغَنَاء فيه؛ لإنصاف الناس في معايشهم ومرافقهم على حسب ما تتجدد به حالات الزمن، وتتخالف عليه أشكال العصور، ومن هنا تولدت الحاجة إلى إنشاء المحاكم الأهلية بجانب المحاكم الشرعية.

الباشا: ما أظن إلا أن يكون لأهل الشرع وأصحاب التفقه في الدين عذرٌ واضح في النزول إلى هذه الحال السيئة؛ من معارضة معارض ومنازعة منازع أو جور سلطان قاهر وعسف حاكم قاسر، فصدهم عن سواء السبيل، وأرعاهم هذا المرعى الوبيل.

عيسى بن هشام: لم يكن من ذلك شيء على الإطلاق؛ فالإرادات مختارة، والأفكار مطلقة، والنفوس مطمئنة، والأرواح آمنة، وليس الفساد ناشئًا عن طوارئ الزمان وطوارق الحَدَثان، ولكنه فساد في التربية عم أمرُه وانتشر، وانحطاط في الأخلاق عظُم بلاؤه واشتهر، سكنت إليهِ نفوسهم وارتاحت به ضمائرهم، وقد تمكن منهم داء التحاسد والتباغض ودبت بينهم عقارب التشاحن والتضاغن، واستولى على قلوبهم الجبنُ والخوَر، وعلى عقولهم الضعفُ والخبل، وعلى نفوسهم الفتور والكسل؛ فوصلوا إلى الحال التي يرون بها السنة بدعة والبدعة سنة، والفضيلَة نقيصة والنقيصة فضيلة، وأقاموا يتعسفون في الحكم ولا ينصفون، ويتفكهون في الدين ولا يتفقهون، وصَرَفَهُم حب المال، عن صالح الأعمال، وألهاهم ما يدخرونه من زخرف الحياة الدنيا، عما يُدخر لهم في الدار الأخرى، فنحن الذين فعلنا كل هذا بأنفسنا، منا الإثم والوزر، وعلينا الذنب والإصر.
وأما المحاكم الأهلية فهي القضاء الذي يَقضِي على الرعية اليوم في جميع الخصومات طبقًا لنص القانون.
الباشا: القانون «الهمايوني»؟

عيسى بن هشام: القانون “الإمبراطوري”.

الباشا: ما عهدت منك أن تُعجم وتُبهم.

عيسى بن هشام: لا إعجام ولا إبهام، فهو قانون نابليون إمبراطور الفرنسيين.

الباشا: وهل عاد الفرنسيس فأدخلوكم تحت حكمهم وسلطانهم مرة أخرى؟

عيسى بن هشام: لا، وإنما نحن الذين أدخلنا أنفسنا في حكمهم فاخترنا قانونهم ليقوم عندنا مقام شرعنا.

الباشا: وهل هذا القانون ينطبق حكمه على حكم الشرع الشريف والسنة المطهرة، وإلا فإنهم يحكمون فيكم بغير ما أنزل الله؟

عيسى بن هشام: المسألة فيها خلاف، فالإجماع تام عند علماء الشريعة في السر والنجوى على أنه مخالف للشرع، وأن كل من يقضي به داخلٌ تحت نص الآية الشريفة: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ولكن يظهر أنه مطابق عندهم للشرع في حالة الجهر والعلن؛ بدليل ما أعلنه أحد كُبرائهم عند نشر هذا القانون، وهو يومئذٍ مفتي نظارة الحقانية، فقد أقسم الأيمان المغلظة على فتواه التي أفتاها بأن هذا القانون الفرنسيَّ غير مخالف للشرع الإسلامي، وإن كان لا عقاب في هذا القانون على الفسق واللواط مع رضا المفسوق به إن تجاوز عمرُهُ الثانية عشرة بيوم واحد، ولا عقاب فيه على من يزني بأمه إذا هي رضيت وكانت غير متزوجة، وهو الذي يعد الأخ مجرمًا جانيًا إذا تعرض لحماية عرض أخته والمدافعة عنه، وكذلك بقية أهلها ما عدا زوجها، وهو الذي يقبل شهادة المرأة الواحدة على الرجل، وهو الذي لا يعاقب الزوج إذا سرق من امرأته، ولا المرأة من زوجها، ولا الولدَ من أبيه ولا الأب من ابنه.
وأما المحاكم المختلطة -وقضاتها من الأجانب- فهي تختص بالنظر فيما يقع من الخصومات بين الأهالي والأجانب وبين الأجانب وبعضهم في الحقوق المدنية؛ أعني في قضايا المال، ولما كان الأجانب هم أحق وأولى بالغنى لسعيهم وجدِّهم، وكان المصريون أخلقَ بالفقر وأجدرَ لإهمالهم وتوانيهم، كان معظم القضايا التي تحكم فيها هذه المحاكم لا بدَّ أن تنتهي بسلخ المصري من ماله وعقاره.
وأما المجالس التأديبية فهي تختص بالنظر في عقاب الموظف الذي يخل بتأدية وظيفته -وهي تتألف في الغالب من نفس الرؤساء الذين يتهمونه- وحدُّها في العقاب الرفت والحرمان من المعاش، وما بقي من درجات العقاب فالنظر راجعٌ فيه إلى المحاكم الأهلية.
وأما الجالس الإدارية فهي تختص بعقاب من يخالف اللوائح والأوامر والمنشورات، وشرحُ ذلك يطول.
وأما المحاكم العسكرية فهي تختص بالنظر في عقاب المتهمين من الضباط والجنود، وتحكم أيضًا على الأهالي في مسائل القرعة وما شاكلها.
وأما المحاكم القنصلية فهي تختص بالنظر في الجنح التي تقع من الأجنبي على المصري ومن الأجنبي على الأجنبي من جنس واحد، فإذا وقعت جناية من أجنبي على مصري فليس لها في مصر من حكم أو عقاب، ولا تختص أي محكمة من كل هذه المحاكم التي عددتها لك بالنظر فيها، بل يرتد الجاني بالقضية إلى وطنه ومسقط رأسه وديار قومه، فينظر قضاته هناك في أمره، والغالب في مثل هذه الحال عندهم أن ينتهوا بتبرئة المجرم بعلل معلومة مثل: “عدم ثقتهم بتحقيق البوليس المصري، وضياع معالم القضية، وعدم توفر الشهود”.
وأما المحكمة المخصوصة فهي تختص بمعاقبة الأهالي عند تعديهم على الجنود الأجنبية.

الباشا: ما زلتَ تُسمعني الغريب وتفهمني غير مفهوم، ومن أعجب ما سمعت أن المصريَّ يتعدى على الجندي.

محمد المويلحي
محمد المويلحي

من كتاب “حديث عيسى بن هشام. شارك محمد مع والده في تأسيس عدة صحف وتولى رئاسة تحرير مصباح الشرق. وشارك في الثورة العرابية ونفي على إثرها.