وسط التطور المتسارع للذكاء الصناعي، والسباق الفضائي لاستعمار المريخ، والإصدارات المستمرة من السيارات الكهربائية ذاتية القيادة، قد يشعر المرء بشيء من الخوف والرهبة اتجاه هذا التغير المرهق مواكبته، فيما يشعر المتفائلون بأننا نعيش في العصر الذهبي للتطور والتقدم. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار توقعاتنا القديمة حول المستقبل- أي الحاضر اليوم، فقد تتغير نظرتنا بعض الشيء.
في الرواية الكلاسيكية الشهيرة التي كتبها فيليب ك. ديك عام 1968 “هل تحلم الروبوتات بحملان آلية”، تقع أحداث الرواية بعد عدة سنوات من التداعيات الناتجة عن حرب عالمية دمرت الأرض. في أعقاب ذلك، تشجع الأمم المتحدة الناس على الهجرة من الأرض إلى المريخ للحفاظ على الجنس البشري من آثار الغبار المشع. وتكون إحدى الحوافز أن كل عائلة مهاجرة ستحصل على خادم أندرويد مصمم خصيصًا ليلبي طلباتها. تناقش الرواية مسائل متقدمة يطرحها الذكاء الاصطناعي تتعلق بالفاهمة والحرية والروح وذلك عبر طرح معضلة هروب الروبوتات من المريخ إلى الأرض للحصول على التحرر من أسيادهم.
يختار ’فيليب ك. ديك العام 1992 في الأساس كبداية لأحداث الرواية، ومن ثم عُدل التاريخ للعام 2021 في نسخ أحدث. بالنظر إلى واقعنا اليوم، لا نبدو متأخرين فقط عن توقعات فيليب، ولكن أيضًا بعيدون جدًا عن التطور التكنولوجي الموصوف في الرواية بحيث يمكن أن تشغلنا نتائجه المناقشة فيه. وهنا من المحق التساؤل؛ هل نبالغ عندما نصف التطور اليوم بأنه عظيم وسريع بينما لا يلحق حتى بركب توقعاتنا؟
فيليب ك. ديك ليس حالة متفردة يمكن أن نتجاوزها بدعوى التفاؤل الزائد، أو سوء التقدير. ففي سلسلة من الكروت التي أعدها Jean-Marc Côté في الأعوام 1899، 1900، 1901، و1910 ويتنبأ فيها بعام 2000 المنتظر، تكون الزراعة آلية بالكامل ويتحكم بها عن بعد، والتعليم آلي، ويستخدم الناس السيارات الطائرة في تنقلاتهم وإيصال البريد. هذا التنبؤ الأخير هو الأكثر شعبية وتكرارًا في توقعات الخيال العلمي، ونراه بشكل دائم في الروايات والأفلام، ومع ذلك ما يزال الأبعد عن الحقيقة رغم كل المساعي اتجاه ذلك.
في حين أن بعض هذه التنبؤات قد أثبتت صحتها بالفعل ولو بفارق سنوات مثل كتاب Octave Uzanne “نهاية الكتب” والذي يتنبأ عام 1894 بثورة تستبدل الكتب المقروءة بالكتب المسموعة، لم يحدث ذلك بهذه السوداوية، ولكن رسومات الناس يستمعون إلى الكتب تبدو مشابهة جدًا لواقع اليوم. كما إذا استبدلنا عبارة “التلغراف اللاسلكي” بالهواتف الذكية، لوجدنا أن رسم مجلة Punch من عام 1906 يمكن ينطبق بسهولة على واقعنا. يقول التعليق أسفل الرسم: “هذان الشخصان لا يتواصلان مع بعضهما البعض. تتلقى السيدة رسالة ودية، ويتلقى السيد نتائج السباق”.
فيما عدا ذلك فإن التوقعات حول المستقبل إما خاطئة تمامًا، أو متفائلة، في أحسن الأحوال، بخصوص اختراقات تكنولوجية وعلمية ما تزال سابقة جدًا لأوانها. فلماذا يحدث ذلك؟ ما سبب تخوفنا من التطور رغم أن تنبؤاتنا حوله لا تأتي صحيحة غالبًا؟
أحد الذين يمكن أن يجيبونا عن ذلك هو ذاته متنبأ وكاتب ذو شعبية واسعة عندما يتعلق الأمر بالخيال العلمي والمستقبل. كان H.G Wells قلقًا دائمًا بشأن مستقبل البشرية. احتفل طوال حياته المهنية بالتطورات التكنولوجية التي أحدثت ثورة في الحياة، لكنه كان يخشى أن تؤدي إلى انحطاط البشرية في نهاية المطاف، أو كما حدث في عام 1914، إلى حرب كارثية. كان يدرك أيضًا أن هناك خلافات حول ما يمكن اعتباره تقدمًا في الواقع. قد لا يكون تزويد الجميع بفوائد الصناعة الحديثة كافيًا، خاصة وأن الابتكار التكنولوجي المستمر سيتطلب إعادة تشكيل مستمرة للمجتمع. كانت الخطوات التقدمية التي أدخلت وظائف جديدة تمامًا عرضية، ومفتوحة النهاية وغير متوقعة، في كل من التطور البيولوجي والاجتماعي. وقد تفاقمت أوجه عدم اليقين هذه من خلال إدراك أنه فيما يتعلق بالابتكار التكنولوجي يكاد يكون من المستحيل التنبؤ بالاختراعات المستقبلية أو ما قد تكون عليه عواقبها على المدى الطويل. حتى لو استمر التقدم، فسيكون مفتوحًا أكثر بكثير مما تصور أنصار الفكرة التقليدية للتقدم.
في روايته “آلة الزمن” يتوقع مستقبلاً سوداويًا حيث تنحدر البشرية بدل أن تتقدم، ويستند في هذا التوقع عل عمل صديقه عالم الأحياء إي. راي لانكستر ومساهمته في النظرية الداروينية. جادل لانكستر بأنه نظرًا لأن التطور يعمل عبر تكييف السكان مع بيئتهم، فإن التقدم ليس حتميًا وأي نوع يتكيف مع أسلوب حياة أقل نشاطًا وبالتالي أقل تحديًا سوف يتدهور. أي تقدم سيعتمد على ظروف الوقت ولا يمكن التنبؤ به على أساس الاتجاهات السابقة.
تظهر وجهة النظر الداروينية بشكل أكثر وضوحًا في عمل ويلز غير-الروائي “مخطط التاريخ”، الذي نُشر على أجزاء عام 1920. يبدأ المسح من تطور الحياة على الأرض وتطور الجنس البشري. لقد حدث التقدم بالتأكيد في كل من التطور والتاريخ البشري منذ العصر الحجري وما بعده، لكن ويلز يظهر أنه لم يكن هناك اتجاه تصاعدي محدد مسبقًا، وأن هنالك طرق متعددة لتحقيق بنية بيولوجية أكثر تعقيدًا- أو مجتمع أكثر تعقيدًا. كانت الخطوات التقدمية حقًا في كلا المجالين متقطعة وغير متوقعة ومفتوحة. عندما حدث تقدم في المجتمع البشري، كان ويلز على يقين من أن القوة الدافعة هي التفكير العقلاني والعلم والابتكار التكنولوجي. ومع ذلك، أظهر التاريخ كيف تم تقويض فوائد الإبداع في كثير من الأحيان بسبب المحافظين والتوترات الاجتماعية، وبلغت ذروتها في كارثة الحرب العظمى.
شهدت أوائل القرن العشرين مخاوف وتوترات وحيرة وتطلعات مشابهة لما نعيشه اليوم مع التكنولوجيا والتقدم. وأطلق المؤرخ فيليب بلوم على تلك الفترة “سنوات الدوار”. أدرك ويلز أن حالة عدم اليقين هذه ستستمر إلى أجل غير مسمى، مما يجعل من المستحيل تقريبًا التنبؤ بما سيحدث. يشيد عشاق التكنولوجيا بابتكاراتهم باعتبارها القوة الدافعة للتقدم، لكنهم لا يتوقعون دائمًا ما سيتم اختراعه- أو ما ستكون عليه التأثيرات النهائية على المجتمع. هذا وضع تدركه تمامًا اليوم قلة.
إن أغلب التنبؤات الغير ناجحة كانت إسقاطات على الحياة في وقته مع إضافة طابع عجائبي لجذب الجمهور وجعله يشعر بالاستغراب، مثل أشخاص يرتدون الزي الفكتوري في عربات طائرة تشبه مركبات الخيل، أو اتصال مصور ولكن عبر جهاز هو مزيج من التلغراف والهاتف والمسقاط الضوئي، أو كما في فلم العنصر الخامس حيث تشبه السيارات الطائرة سيارات الثمانينات وما قبلها فقط مع استبدال العجلات بمحركات نفاثة عجيبة. لا يوجد في الواقع أي مبرر يدفعنا للاعتقاد أن اختراعات الغد ستكون صورة متقدمة عن أدوات اليوم، والغالب أنها ستكون شيئًا لم نره من قبل.
أما التنبؤات المهمة فهي التي تناقش أثر التقدم بغض النظر عن موعد قدومه. توقع الكثيرون إمكانية التواصل صوريًا عن بعد، ولكن قلة فقط من الكتاب والفنانين توقعوا تأثير أجهزة الكمبيوتر والثورة الرقمية، ونحن ندرك تدريجياً أن هذه الابتكارات لم تجلب لنا فوائد خالية من العيوب. أصبح مجموع التقنيات التي تبين أن لها آثارًا جانبية ضارة الآن عظيمًا، وهو الوضع الذي توقعه ويلز.
وهكذا، فالسؤال المهم هنا ليس إن كنا نواكب تطلعاتنا وآمالنا التقدمية، وإنما هل نحن قادرون على التعامل مع الآثار المختلفة لهذا التقدم الغير متوقع مهما كان شكله وأين كان موعده؟

رافاييل لايساندر
كاتب ومختص في الاقتصاد والأدب الإنكليزي
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.