التصنيفات
العمل علم نفس

نظرة مختلفة للتعامل مع الاحتراق النفسي

حل مختلف عن الحلول المؤقتة للتعامل مع الاحتراق النفسي

صاغ عالم النفس هربرت فرودنبرجر مصطلح “الاحتراق” لأول مرة عام 1974، مشيرًا إلى حالة من الإرهاق -والذي يمكن أن يكون عقليًا وجسديًا- تكون نتيجة مباشرة للتوتر المستمر أو الطويل.

في حين أن مناقشة الاحتراق النفسي قد توسعت بشكل كبير، لكن لا يوجد حتى الآن تعريف أو مقياس متفق عليه عالميًا لما يشكله، ولا توجد قائمة فحص تشخيصية رسمية لأعراضه. وهكذا، لا يزال من الصعب تحديد ما هو الاحتراق النفسي بالضبط وما أسبابه.

في غياب هذا الإجماع، تستخدم الأبحاث حول الاحتراق النفسي (أو الوظيفي) أنواعًا مختلفة من المعايير وتطرح الأسئلة بشكل مختلف، مما يجعل من الصعب إجراء تقييم دقيق لعدد الأشخاص الذين يعانون بالفعل من هذه الحالة.

هذا الغموض لا يعني أن الاحتراق ليس حقيقيًا. هناك سبب يجعل هذا المصطلح شائعًا للغاية: فهو يصف تمامًا تجربة شائعة ومفهومة بشكل فطري – حالة تشبه مزيجًا من الإرهاق، والملل، وفقدان الرغبة في القيام بأي شيء، وحتى الاكتئاب، ولكنها تُشعر في ذات الوقت بشيء من التميز النوعي.

ومع ذلك، فإن الغموض الذي يكتنف الاحتراق النفسي يجب أن يستدعي بعض التواضع المعرفي في المناقشة – الرغبة في الاعتراف بأن الكثير عن الحالة يظل لغزًا، فمثلاً هناك أشخاص يعملون 12 ساعة في اليوم ولا يشعرون بالاحتراق، وآخرون يعملون 6 ساعات في اليوم ويشعرون بالاحتراق مع ذلك.

هناك نظرية شائعة أخرى مفادها أن الاحتراق أحد تبعات حداثة عالمنا وسرعته وإفراطه في استخدام المحفزات. ومع ذلك، حتى لو لم نجد المصطلح ذاته في الأدبيات القديمة فذلك لا يعني أن الحالة لم تكن موجودة؛ راجع مذكرات الفنانين والكتاب عبر التاريخ لتجد وصفًا دقيقًا للحالة. حتى الرهبان الذين عاشوا حياةً أبعد ما تكون عن سرعة العصر، واجهوا تحديات مشابهة مع الاحتراق النفسي. في القرن التاسع عشر أطلق الناس على الاحتراق اسم “الوهن العصبي”، واعتقدوا أن مسببه هو أعمال المكتب السريعة وزيادة التغيير التكنولوجي.

التفسير الحداثي الآخر لظاهرة الاحتراق يتعلق بغياب المعنى من العمل. لا يرتبط العمل الحديث ارتباطًا مباشرًا ببقائنا كما كان في الماضي، كما أنه لا يحقق دائمًا مستوى أعلى وأكثر فلسفية أيضًا. ومع ذلك، لدينا هنا مشكلة مشابهة لحالة عدد ساعات العمل، حيث نجد أشخاصًا، مثل الفنانين والكتاب، في وظائف ذات مغزى ويحبونها، ويشعرون بالاحتراق مع ذلك، وأشخاص في وظائف خالية من المعنى ويشعرون بالسعادة.

يفترض باحثون أن الاحتراق النفسي ناتج عن الفجوة بين مُثُل العمل لدينا وواقعه؛ نتوقع أن يشبع العمل رغباتنا على كل المستويات، ثم نشعر بخيبة أمل عندما لا يحدث ذلك. نحمل الكثير من حاجتنا للمعنى على وظائفنا، ولا نمتلك ما يكفي من المساعي ذات القيمة الجوهرية خارج هذه الوظائف.

ولكن هنا نعود إلى مثال الفنانين والكتاب مرة أخرى. ليس هدفهم الدخل المادي، وليس عملهم مفروضًا عليهم دون أن يفهموا المغزى منه، ومع ذلك يشعرون بالاحتراق في كثير من الأحيان. كما يمكن للمرء أن يجد الكثير من الأشخاص العاديين الذين لديهم مصادر أخرى للمعنى خارج نطاق الوظيفة، ومع ذلك لا يزالون يشعرون بالاحتراق رغم ذلك.  

في الواقع، ربما تكون أكثر حالات الإرهاق غرابة تلك المتعلقة بالأفراد الذين يحبون وظائفهم ويريدونها، والذين قد يقومون بأشياء ذات مغزى أو إبداعية، والذين لا يعتمدون بشكل مفرط على مهنهم لتحديد من هم، والذين يتمتعون بمستوى لائق من الاستقلالية، بل وربما يكونون على رأس أعمالهم، ولكن لا يزالون يعانون من الاحتراق. لا يوجد سبب واضح ومباشر لمحنتهم، ولا توجد إجابة واضحة عن سبب ظهور الاحتراق -لم تزد ساعات عملهم، وعبء العمل غير شاق، ومقدار التوتر في وظيفتهم مستقر إلى حد ما- لكنهم يشعرون بالاحتراق. فجأة يشعرون بالتعب من فعل ما يفعلونه. اصطدموا بجدار. يشعرون وكأن عليهم الخروج. إنهم لا يريدون الاستمرار في ذلك.

كل هذا لا يعني أن الاحتراق، والإفراط في التحفيز، والوظائف المفتقرة إلى المعنى ليست مشاكل حقيقية ذات تأثيرات حقيقية ضارة. على المستويين الفردي والمجتمعي، يجب أن نسعى جاهدين لجعل العمل أكثر إرضاءً وإنسانية.

المغزى أنه حتى لو حللنا كل هذه المشاكل، فلن نحل مشكلة الاحتراق تمامًا. وإذا كنا نأمل في فهم الاحتراق النفسي أو الوظيفي بشكل أفضل، فسنضطر إلى البحث في مكان آخر عن السبب الأساسي.  

اقتباس فلسفي مع طائر - تصميم رافاييل لايساندر

الاحتراق والروتين

فيما يخص مهننا وأعمالنا، وحتى بالنسبة لرعاية الأطفال، جداولنا ومهامنا روتينية ومكررة إلى حد ما– نفعل نفس الأشياء يومًا بعد يوم. حتى في الوظائف التي تنطوي على درجة عالية من الإبداع، لا يزال هناك شعور بتأدية العمل بشكل روتيني؛ تنسخ، تلصق، تلون مساحات فارغة، تملأ جداول متشابهة، وكأن العملية كلها تكرار لذاتها.

قبل العصر الحديث، اتبع الصيادون والمزارعون نمط حياة إيقاعية ودورية؛ كانت هناك مهام مختلفة يجب إنجازها في الشتاء والصيف، وفترات عمل طويلة وأوقات راحة، ووقت للزراعة ووقت للحصاد. كانت هناك موسمية في الحياة، حتى في الأطعمة، والطقوس، وغير ذلك، لا في العمل فقط. أما اليوم، فنأكل في ذات الوقت كل يوم، ونفس الوجبات على مدار السنة، ونقوم بنفس المهام، ونتبع نفس الروتين 7 أيام في الأسبوع، و365 يومًا في السنة.

وقد يكون هذا التشابه هو في الواقع وراء مشاعرنا في الاحتراق. يبدو أن البشر لا يمكنهم أن يحتملوا الكثير من التشابه. تتشبع خلايانا به ونصطدم بجدار.

إذا كان صحيحًا أن الاحتراق ازداد سوءًا في العصر الحديث، فذلك لأن العوامل المعاصرة أدت إلى تفاقم هذا الاتجاه. وبينما يمكننا حل مشاكل الإرهاق وضعف المعنى، لا يوجد حل حقيقي لمشكلة التشابه.  

من الجيد هنا محاولة إعادة إدخال القليل من التقلبات الدورية على حياتك عن قصد، وتطبيق القليل من الموسمية على الأطعمة التي تتناولها، والموسيقى التي تستمع إليها، والأحداث التي تشارك فيها. كما أن أخذ وقت للراحة والاستجمام يساعد أيضًا. ولكن حتى بعد إجازة طويلة، ستعود مباشرة إلى الحلقة ذاتها من الحياة العادية. يمكن للإجراءات السابقة التخفيف من حدة الاحتراق بلا شك، ولكنه يبقى تخفيف وليس حل جذري للمشكلة.  

إن حالة الحياة والعمل في العالم الحديث هي ما هي عليه. سوف تتطلب الغالبية العظمى من الوظائف القيام بنفس الأشياء تقريبًا على مدار العام، وعامًا تلو الآخر. يمكنك الهروب من التشابه عن طريق تغيير الوظائف، ولكن من المستحيل تغيير الوظائف في كثير من الأحيان بما يكفي للتغلب على الإرهاق والتقدم في مهنة: إذا بقيت في منصب طويل بما يكفي لاكتساب مهارة وإتقان احترافيين، فستواجه حتمًا شيئًا من الاحتراق الوظيفي؛ إذا لم تبقى طويلاً بما يكفي لتصاب بالاحتراف، فلن تكتسب أبدًا هذه المهارة والإتقان.

وماذا لو كنت تريد بحق البقاء في وظيفة ما– وظيفة تجد أنها هدفك في الحياة؟ سيكون خيار تبديل الوظائف هنا غير منطقي.

 إذًا، ماذا يمكن أن نفعل؟

  عانا أسلافنا، كما ذكرنا، من الاحتراق ولكن بدرجات متفاوتة، وتحت مسميات مختلفة. أُطلق مصطلح “فتور الهمة” مثلاً على الحالة التي أصابت طلاب العلم والمتعبدين نتيجة التكرار الروتيني لأنشطة معينة. لكن أحد أقرب الأمثلة عن الاحتراق النفسي نجده لدى الرهبان الذين اعتكفوا صوامعهم. كانت حياتهم في معظمها منظمة للغاية وروتينية دون مفاجئات أو أحداث مثيرة، لذلك ربما ليس من المستغرب أن من بين التحديات التي واجهوها، كانت تلك التي تعكس مفهومنا الحديث عن الاحتراق، فيما أطلقوا عليه اسم “acedia”

. يشمل مصطلح Acedia اليوناني مجموعة متنوعة من الدلالات، بما في ذلك الإرهاق والخمول والملل والاشمئزاز واليأس. تميزت الحالة بعدم الرغبة في العمل، ويمكن أن تؤثر على جسد وعقلية الراهب، مما يخلق ضائقة نفسية وأمراض جسدية حقيقية أو متخيلة.

أشير أيضًا إلى Acedia باسم “شيطان الظهيرة”، حيث كان يصيب الرهبان بشكل أكثر حدة بين العاشرة صباحًا والثانية ظهرًا. اعتبر Evagrius Ponticus ، أول راهب يتعمق حقًا في طبيعة acedia، أن هذه الحالة هي الأكثر إزعاجًا وخطرًأ من بين جميع الشياطين التي تحيق بالمجتمع الرهباني.

كانت إحدى الصفات المُحدِدة لهذه الحالة هي الشعور بعدم الراحة، ما دفع الرهبان إلى خيبة الأمل تجاه “زملائهم في العمل”، ونفورًا من التكرار اللانهائي لروتينهم الصارم، والاشمئزاز من رتابة عملهم وعدم جدواه، والأهم من ذلك كله، الرغبة في التخلي عن مهنتهم.

ولاحظ Evagrius أن شيطان الظهيرة قدم الكثير من المبررات المعقولة وحتى الإيثارية لإجراء تغيير– يمكن للراهب أن يقدم خدمة ذات مغزى أكبر في مكان آخر، أو يحن للأسرة التي تركها، وغيره من الحجج للتخلي عن مهنته ومسعاه.

وما الذي وجده إيفاغريوس خلال تأملاته ودراسته لهذه الحالة؟

وجد أن الحل يكمن في التحمل والمثابرة على فعل المهام ذاتها. قد يبدو اقتراح المثابرة كعلاج للاحتراق غير منطقي، ولكن كما لاحظ إيفاغريوس، فإن الاستمرار في العمل عندما لا تشعر برغبة في الاستمرار يمكن أن يكسر قبضة الشيطان.

قد تكون فكرة تغيير العمل أو التخلي عن الأمور التي لا ترضينا إحدى آفات التحفيز المفرط للعصر الحديث. الجميع ينصحك بالتخلي عما تفعل، وترك كل شيء خلفك والانطلاق في إجازة طويلة من اكتشاف الذات والاستمتاع، لكن لا أحد يطرح الفكرة المنطقية بأن إيجاد الرضا ينبع من الذات لا من الأشياء ذاتها، وإن كنت تود أن تنجح في هذه الحياة فعليك فعليًا التحمل لأن لا شيء يأتي بسهولة، وإن كنت ستتخلى عن عملك الآن، فلا ضامن أنك لن تتخلى عن الذي يليه، ثم الذي يليه.

كلمات أخيرة مهمة

يجدر التكرار والتأكيد هنا على أنه إذا كنت مرهقًا ولا تشعر بالرضا عن عملك، أو عن وضعك في الحياة بشكل عام، فيجب معالجة هذه المشكلات. يمكن أن يؤدي الإجهاد المزمن إلى مرض عقلي وجسدي خطير، والحياة الخالية من المعنى لا تستحق العيش، والاستمرار في العمل في وظيفة لا تحبها لن يجعلك تبدأ بالإعجاب بها بطريقة سحرية. في بعض الأحيان لا يوجد شيء يمكن القيام به سوى تغيير الوظائف.

ولكن، في حين أن العمل الزائد وغياب معناه يمكن أن يؤديا إلى تفاقم الاحتراق، إلا أن التكرار هو المنبع الأساسي للمشكلة. والتكرار مستوطن في الحياة العملية الحديثة، فمن الممكن أن تختبر الإرهاق في وظيفة تحبها بشكل عام، وتشعر أنك مناسب لها، وترغب بالفعل في البقاء فيها.

في مثل هذه الحالة، فإن أول ما يجب فعله عند التعرض للاحتراق هو عدم الخوف. نعم. عندما تشعر بهذه الطريقة، من الطبيعي أن تفترض أن هناك شيئًا ما “خطأ”. ومن الممكن أن تحتاج بالفعل إلى إجراء تغيير كبير.

ولكن من المحتمل أيضًا أنك وصلت لحالة من التشبع. قد تعتقد أنك ستكون أكثر سعادة في مهنة أخرى أكثر حماسًا، أو أقل تطلبًا، لكنك بالتأكيد ستختبر الاحتراق هناك أيضًا. حتى 65 % من الفنانين الذين يعملون لحسابهم الخاص يقولون أنهم مروا بحالات من الاحتراق أثناء عملهم.

يصطدم كل منا، من حين لآخر، بجدار حيث نكون متيقنين بأننا لا نستطيع الاستمرار، ونفكر في البدء من جديد في مهنة مختلفة. في مثل هذه الأوقات، تتلاشى مشاعر الاحتراق بشكل غامض، تمامًا كما ظهرت، عندما تختار الاستمرار في العمل الذي تحب.

سيكون من الخطأ البقاء في وظيفة تجدها تستهلك نفسيتك وتقضي على شغفك. ولكن سيكون من الخطأ أيضًا التخلي عن شيء كان من المفترض أن تفعله، شيء يناسبك جيدًا، بسبب مطب لا مفر منه، وفي النهاية عابر.