التصنيفات
فلسفة

هل الفلسفة أدب؟

هل يُستمتع بالفلسفة كالأدب؟ وهل الفلسفة جميلة كأعمال الرواة والشعراء؟

هل يمكن الاستمتاع بقراءة الفلسفة كما قراءة الروايات والمسرحيات وما شابهها من صنوف الأدب؟ نعم بالتأكيد. فقراءة والدن لثورو أو مقالات مونتاين ورسائل الرواقي وغيرها ممتعة كقراءة أي عمل أدبي آخر، بل إن إحدى شخصيات سلسلة روايات جيفز تتدعي أنها تستمتع بقراءة مقالات سبينوزا كوسيلة للترويح عن النفس.

أما من حيث الشكل، ففي الكثير من الأحيان يتماها الفاصل بين اللغة الأدبية واللغة الفلسفية، كما في عزاءات الفلسفة لبوئثيوس المكتوب شعرًا، ومحاورات أفلاطون التي تمتلك شخصيات متخيلة وتدور على شكل حوارات مسرحية، والخوف والرعدة لكيرجارد، ومسرحيات سارتر الفلسفية، وهكذا تكلم زرداشت لنيتشه الذي يصنفه الكثيرون -خطأً- كرواية كما أن العلم المرح يحتوي على فصول من الشعر، بل أن نيتشه كان يحسد الرواة على طريقتهم في الكتابة وتأليف القصص ودعى لاستفادة الفلسفة من ذلك.

لا شك هنا أن الكثير من الروايات العظيمة تحمل أفكار فلسفية عظيمة مثل مجمل أعمال دوستويفسكي وتولستوي وهيسه وغيرهم ولكن المقصود هنا هي تلك الأعمال التي كتبت في خدمة غرض فلسفي أساسًا واستخدمت لغة أدبية للوصول لغايتها. من هذا المنظور فإن الكثير من الأعمال الفلسفية هي أدبية؛ فالمقالات في النهاية هي صنف أدبي، وهي الطريقة التي كتب بها الكثير من الفلاسفة ولذلك نجد بها متعة خاصة كقراءة الرواية أو الشعر. إذاً أين اللغط؟

تقع المشكلة حقيقة عندما ننظر إلى الفلسفة الأكاديمية عمومًا والفلسفة التحليلية خصوصًا. أعمال هيجل وديكارت وكانط وفتنجشتاين وماركس وغيرهم أقل ما توصف به أنها صعبة، ويتفرغ المرء لدراستها عوضًا عن قراءتها ببساطة، ولغتها أشد ما تكون في البعد عن اللغة الأدبية الممتعة. فأي الشكلين يمثل الفلسفة حقًا؟

اسمحوا لي أن أتناول الرد الأخير أولاً. الفلسفة الأكاديمية والتحليلية هي النوع الذي تمارسه هذه الأيام الغالبية العظمى من الأساتذة في أقسام الفلسفة. من الشائع أن تكون جافة وفنية إلى حد ما – لفترة طويلة على الصرامة المنطقية، وقصيرة في عمق الغنائي. بدأ هذا الإرث مع كانط وتطور مع هيجل في محاولة لمناقشة القضايا المعرفية بطريقة تشبه الاسلوب العلمي المسلسل بشكل منطقي (تفحص هذه المقالة الكتابة الأكاديمية بشكل أوضح) أما الفلسفة التحليلية فظهرت في كامبريدج في العقد الأول من القرن العشرين، عندما قام برتراند راسل و ج. ثار مور ضد المثالية القارية الضبابية التي كانت سائدة بين الفلاسفة الإنجليز في ذلك الوقت. تحت تأثيرهم، وتأثير لودفيج فيتجنشتاين (الذي وصل إلى كامبريدج في عام 1912 للدراسة مع راسل)، أصبح الفلاسفة يرون أن مهمتهم لا تتمثل في بناء النظام الميتافيزيقي الكبير، ولكن في التحليل المضني للغة. لقد ظنوا أن هذا سيمكنهم من وضع البنية المنطقية للواقع ووضع كل الحيرة الفلسفية القديمة.

اليوم، تتمتع الفلسفة التحليلية بنطاق أوسع مما كانت عليه، فهي أقل هوسًا بتشريح اللغة وأكثر اهتمامًا بالعلوم. (ويرجع ذلك جزئيًا إلى الفيلسوف الأمريكي ويلارد كوين، الذي جادل بأن اللغة لا تحتوي في الحقيقة على نظام ثابت من المعاني للفلاسفة لتحليلها.) ومع ذلك، سواء كانوا مهتمين بطبيعة الوعي أو الزمن أو الحياة الجيدة، لا يزال الفلاسفة التحليليون يضعون ضغوطًا شديدة على الدقة المنطقية في كتاباتهم. والنتيجة، وفقًا لمارثا نوسبوم، هي أسلوب سائد “علمي ومجرّد وخالي من التنميق” – أسلوب يُقصد به أن يكون نوعًا متعدد الأغراض وغير شخصي. هذا النوع من الفلسفة، بغض النظر عن مزاياها الفكرية، لا يبدو مرحًا. ولا يبدو مثل الأدب بل ككتب الرياضيات أو الفيزياء.

ولكن ما هو الأدب؟ قد يبدو هذا بحد ذاته سؤالًا فلسفيًا. ومع ذلك، فإن الجواب الأكثر إقناعا، في رأيي، قدمه الروائي إيفلين وو معلنًا: ” الأدب هو الاستخدام الصحيح للغة بصرف النظر عن موضوع أو سبب الكلام”. بالطبع هذا التعريف الواسع يضع العديد من الأمور في نطاق الأدب فحتى دليل تركيب الخزانة قد يصبح أدبًا وفق هذا التعريف. هذا صحيح حقًا، ففي حالة “كيف تطهو ذئبًا” لفيشر تحول كتاب طبخ لعمل أدبي وكذلك في حالة سوزان سونتاج عن الموضة وغيرهم.

إذا ما هو “الاستخدام الصحيح للغة”؟ ما الذي يجعل الأعمال السابقة أدبًا وغيرها لا؟ السمات الأساسية التي تجعل عمل النثر لا ينسى ولا لبس فيما يجعله أدبًا هي: 1) الأناقة: بمعنى أن لغة العمل الأدبي تتميز بجمالها وأناقتها مما يعطي متعة خاصة في تذوق الكلمات وتركيبها. 2) الفردية: حيث أن أي عمل أدبي يتميز بذاته، وفي نفس الوقت يعكس صورة المؤلف. فيما عدا ذلك من أعمال، تخلو من الشخصية والتفرد وتشبه كلها بعضها وتخدم طيف واسع من القراء دون عناء الاستثمار العاطفي في العمل.

المعياران لا يؤكدان أدبية الأعمال التي ذكرتها في البداية فقط ولكنها تدخل في مجال الأدب العديد من أعمال الفلسفة التحليلية. مثلاً، عمل الفيلسوف أكسفورد جيلبرت رايل المدعو “متعة”. رايل من بين الشخصيات المهيمنة في الفلسفة التحليلية في منتصف القرن. كان أيضًا كاتبًا نثريًا منمقًا للغاية، وصاغ عبارات رائعة مثل “الشبح في الآلة”. وبرتنارد راسل الذي حصل بالفعل على نوبل بالآداب رغم أن كتاباته تتناول مواضيع منطقية ورياضية معقدة. و كوين، الذي يمكن قراءة مقالته الكلاسيكية “On What There Is” مرارًا وتكرارًا، مثل قصيدة. أيضًا الفيلسوف في جامعة هارفارد هيلاري بوتنام، الذي يوصل أفكاره المنطقية من خلال لغة مريحة واستثمار للتجارب الخيالية بشكل مبدع. ويشمل كوامي أنتوني أبياه الذي كتب روايات بالإضافة إلى عمله الفلسفي الفني والغير فني، منها لغز بوليسي فلسفي يحمل عنوان “موت آخر في فينيسيا”. وكذلك أعمال أمبيرتو إيكو حول السيمائية والمعنى والتي توازي في متعتها أعماله الروائية.

من ينظر إلى الأمور من وجهة النظر هذه يرى أن الفلسفة هي في الأساس عمل أدبي، وهنالك من الفلاسفة من يشذ عن هذه القاعدة ويكتب بطريقة أكاديمية جافة رغم أنه يدعو لإنزال الفلسفة من برجها العاجي وايصالها للعامة مثل دريدا. قد يكون السبب إذاً قلة الحيلة الأدبية أو عدم وجودها وليس لضرورة في الفلسفة أو شرط لها.

للأمانة المعرفية، فقد أخفيت حتى الآن أهم حجة ضد كون الفلسفة أدبًا، وهي: أن الأدب قد يُطلب لذاته، وبسبب متعته الجمالية فقط؛ كما في روايات تولكين التي يصر أنها جمالية فقط ولا تعظ في أي مجال، أو في شعر نيرودا الغزلي، أو أعمال فولكنر التي تصف وضعًا معينًا فقط، أو أي عمل أدبي وضع أبدًا؛ قد نستفيد منه أو لا نستفيد ولكن ذلك ليس الهدف، فقد يقرأ للاستمتاع بجماله لا أكثر ولا أقل. لا أحد يمسك رواية ويقول: أريد أن أتعلم عن العناصر أو نشوء الكون. أما في الفلسفة فكل فيلسوف يحاول فرض أو اقتراح بعض الآراء والأفكار، وذلك أساس نشوء العمل بالتعريف. لا يوجد -حسب ما وصل لي- عمل فلسفي خال من الأفكار ويمكن أن يُقرأ لمتعته الجمالية فقط.

لكن ذلك لا يفند ما توصلت إليه قبلاً. النقطة هنا أنه سواءً كانت الفلسفة أدبًا أو لا فهي بالتأكيد مرتبطة بالأدب من الناحية الجمالية، فكما الشاعر والروائي يريد الفيلسوف أن تكون كلماته مؤثرة ومرحبًا بها. ومن هنا يمكن أن تستخدم الفلسفة لغة وخيالاً أدبياً يجعلها ممتعة للقراءة عوضًا عن الأسلوب الجاف المعروفة به ظلمًا، وربما أن تصل يومًا ما إلى جمالية خاصة بها.