التصنيفات
مجتمع أفكار الدين

ضد العمامة- مع تفسيرات

قاوم العالم الإسلامي مسألة قيام طبقة رجال الدين لفترة معتبرة، لكنه صار يواجه مشكلة مهمة

قاوم العالم الإسلامي مسألة قيام طبقة رجال الدين لفترة معتبرة. يرجع البعض ذلك لعدم وجود هذه الطبقة في التشريع الإسلامي وانكاره لقدسيتها إن تشكلت، والانتقاد الحرفي للرهبان والأحبار واستحواذهم على التشريع. ذلك الأمر صحيح، ولكنه أيضًا صحيح في مجمل الأديان التي تشكلت بها طبقة رجال الدين بشكل منظم وبقوة- لا المسيحية ولا اليهودية دسترت نظام الكهنوت في الكتب المقدسة، ولا يعتمد وجود وسلطة معلمي البوذية أو مرشدي الهندوسية على نص مُنزل. طبقة رجال الدين هي ناتج طبيعي لأي دين تختص بعمله وتعلمه فئة قليلة من الناس دون غيرهم. ينتج عن هذا العلم اعتقاد هذه الفئة أنها مخولة أكثر من غيرها لاتخاذ القرارات وتوجيه الآراء وغيره. بالرغم من ذلك، يطيب لرجال الدين أنفسهم نكران وجود الطبقة بدعوى أنهم “طلبة علم” فقط. هذه بعض الأمور التي تدل على عكس ذلك:

من حيث المظهر،

عندما ترتدي فئة معينة من الناس نفس الملابس التي تميزهم عن باقي الأمة، لا نشك أنهم طبقة مختصة بمجال معين. قد يكون زيد مواطن عادي، لكن حينما يرتدي زياً موحدًا للشرطة فمن الطبيعي أن نراه كشرطي ونعامله على هذا الأساس، وعندما نرى رجل في ثوب متقشف ويضع حبلاً حول خصره فمن الطبيعي أن نراه كأب من الفرنسيسكان. لا يوجد زي موحد لرجال الدين المسلمين كما الكهنوت المسيحي أو المعلمين البوذيين مثلا، لكن مظهرهم الخاص بهم واضح بلا عناء، حتى برائحة العطر؛ يكفي ذكر هذه المقاربة ليشتم القارئ من ذاكرته رائحة المسك الشافعي -وما شابهه- الذي صار يسمى لدى بعض بائعي العطور بالحصر “عطر الشيوخ”. المظهر يعبر كثيرًا عنا ولمن ننتمي، شئنا أم أبينا، ولذلك تبعات مهمة كما سنرى. الغريب في الموضوع أن رجال الدين أنفسهم يركزون كثيرًا على المظهر ولباس المرأة واللباس الفاضح وصرعات الموضة وغيره، ولا يَرون، على ما يبدو، في لباسهم الغير معتاد “لباس شهرة” بالرغم من أنه شهرة قوية لدرجة أنك تستطيع تمييز شيوخ الأزهر، مثلاً، عن شيوخ الشام من طريقة لباسهم ولف العمامة التي لم يعد أحد يرتديها في أي مجتمع.

مرةً، كنت راكبًا المواصلات العامة والسائق يرفع الصوت على بعض الأغاني الشعبية عندما توقفت الحافلة وصعد رجل. حينها قام السائق بإطفاء المذياع فورًا. حتى هذه النقطة سيبدو الموضوع غير مترابط، لكن الرجل الذي صعد كان يرتدي جبة وعمامة ولحية طويلة. طالما أن السائق قد تعرف على الرجل بأنه “رجل دين” من خلال لباسه فقط، وغير من تصرفاته بناء على ذلك فيمكننا الجزم أن الرجل طبقة مختصة مثلما لو صعد شرطي إلى الحافلة، والغالب أن معظم الركاب -نظريًا- مسلمون يؤمنون بما يؤمن به رجل الدين فلماذا غير السائق من تصرفاته مع الأخير فقط؟

من ناحية مظهرية أخرى، عندما يظهر طلاب العلم هؤلاء على التلفاز أو في الندوات أو حتى الكتب فإنهم يعرفون عن أنفسهم بـ “الشيخ” أو “الداعية” – للدلالة على عدم الانتماء للمؤسسة الدينية الرسمية ووجود هامش أكبر من الانفتاح- أو “الإمام” وغيره. لا يهم المصطلح هنا كثيرًا في الحقيقة طالما أنهم لا يخرجون بصفة “مسلم” ولا غير مما يعني أنهم طبقة متميزة ليست كعامة أهل الدين.

من ناحية الجوهر،

يقول كريستوفر لوك: “يميل أي اختصاص وظيفي إلى نسيان علاقته بالسياق الاجتماعي الأوسع الذي وجد الاختصاص الوظيفي هذا ليعمل فيه، ثم يخدعه إذ يركز، بدلاً من ذلك، على تطوير خلوة داخلية تجمع مختصين يتكلمون فيما بينهم بلغة خاصة لا يفهمها الغرباء، ومثل هؤلاء المُحتقرين، من دون استثناء تقريبًا، يحتقرون الهواة، بل الأسوأ من ذلك، يسمونهم مرضى انحراف العين السيء”.

 يمكن للجميع، بسهولة، الربط بين كلام لوك والتعقيد الذي وصلت له الدراسات الشرعية- يكفي أن تطلع على مصطلحات تخريج الحديث وفقه المعاملات لترى “اللغة الخاصة” التي يتحدث عنها لوك، وعندما يأتي شخص من خارج المدارس الشرعية لمناقشة أي من المسائل الدينية يقال له: وما أدراك أنت ولما تفهم مبادئ كذا؟ وكأن التساؤل أو التفكر في دين الكل هو حق لقلة فقط.

 لقد تحول الدين من عبادة واسلوب معيشة إلى علم بحت يطلب لذاته. في القرآن والسنة، نُحس بسهولة أن “طلب العلم” هو وسيلة شخصية للتقرب من الله عبر معرفة حقوقه وحقوق عباده. كما أن طلب العلم ينفع العبد بعلاقته مع الله، لكن من خلاله شمله في المدراس والجامعات كباقي الاختصاصات صار علمًا مهنيًا يطلب للحصول على وظيفة أو منصب.

يجادل المشايخ أنه في الإسلام لا وجود لرجال الدين لأنه لا قدسية لهم في التشريع (بالرغم من أن قدسية كبار المشايخ والأئمة في بعض المذاهب معروفة، ويكاد كلامهم يصبح مصدرًا للتشريع). كما أشرنا سابقًا، هذه القدسية غير موجودة في أي دين آخر، ففي المسيحية، على سبيل المثال، تأتي منزلة الرهبان وحتى البابا من تفرغهم لعبادة الرب وخدمته وتزداد الرتبة حسب ما يظهر من الصلاح مما يحيطهم بهالة من القدسية النابعة من قربهم من الرب وليس من تشريع محدد. في الإسلام يحدث أمرٌ مماثل، حيث يدعو القرآن والسنة لاحترام وتوقير والاستماع “لأولي العلم”، والمشكلة هي في تعيين أولي العلم. ألا ينطبق ذلك على الذي يفرغ حياته الجامعية لدراسة العلم الشرعي؟  وإذا كان ذلك صحيحًا، أليس الدكتور في العلم الشرعي أعلى مرتبة؟ وكذلك الذي أخذ علمه عن الشيخ فلان عن فلان عن النبي (ص) أو آل بيته (كما يتفاخر الكثير من المشايخ)؟ يكمن الخطر إذاً عندما يتم الخلط بين تخصص مهني وعلم مفتوح للجميع، وعندما تظن فئة أنها المعنية بتشريع ما، تمامًا مثلما تظن طائفة ما أنها المقصودة “برجال الله” والمعنية بتنفيذ شريعته على الناس.

قد يبدو الجدال حول وجود رجال الدين أمرًا لا طائل منه لأنهم، للكثيرين، موجودون بكل وضوح، لكن وجب التوضيح بسبب الإنكار الآنف الذكر. الآن نتحدث عن تبعات ذلك:

أولاً:

” كنت أفكر في تلك القوانين الجديدة التي توصلوا إليها، في ثمانينيات القرن العشرين، أعتقد أنها كانت لمكافحة عصابات الشوارع. وإذا كنت أتذكر بحق، فإن جوهر ما كانت تقوله هذه القوانين الجديدة هو إذا انضممت إلى إحدى هذه العصابات، وكنت تعمل مع أحدهم، ثم في إحدى الليالي، ودون علمك، يطلق أحد زملائك في العصابة النار على مكان ما أو يطعن رجلاً. على الرغم من أنك لم تكن تعرف شيئًا عن ذلك، وعلى الرغم من أنك قد تكون واقفًا على ناصية الشارع تهتم بشؤونك الخاصة، ما تقوله هذ القوانين الجديدة أنك ما زلت مذنبًا. لا تزال تتحمل المسؤولية، من خلال انضمامك لتلك العصابة في الأساس. جعلني هذا الأمر أفكر، يا أبانا، أن هذا النوع من المواقف يشبه إلى حد ما أولاد كنيستك، أليس كذلك؟ لديكم زيكم، لديكم ناديكم اخلاص- أنتم، لعوز كلمة أفضل، عصابة. وإذا كنت تدخّن في الطابق العلوي وتقرأ الإنجيل بينما أحد زملائك من أعضاء العصابة في الطابق السفلي يمارس الجنس مع صبي المذبح، إذن يا أبانا، تمامًا مثل تلك العصابات، أنت مذنب”.

قد يبدو الاقتباس من فلم ” Three Billboards Outside Ebbing, Missouri” قاسيًا، ولكن هذه هي الحقيقة المرة. عندما يخرج زيد من الناس على التلفاز ويُعرف عن نفسه “بالشيخ” ويرتدي زي مدرسة دينية ما ويحمل رخصة جامعية في العلم الشرعي، ثم يقول بضرب النساء، فإن الناس لا تقول هذا رأي زيد، بل هو الدين الذي يُمثله زيد.

الأمر مضر كذلك برجال الدين أنفسهم، فعندما يركب إمام جامع سيارة فارهة ويسكن دارًا مترفة لا يعتقد الناس أنه ربما يعمل في التجارة بل يقولون، في الغالب، أنه يسرق أموال المسجد. لقد حصر رجال الدين أنفسهم في فقاعة من الشكليات حيث كل خطأ بشري خارجها يلامون عليه، وتشوه به صورة الدين.

ثانيًا:

نتيجة الاختصاص المُركز، ينعزل رجال الدين عن المعرفة العامة والواقع بشكل مخيف. فتجد خطيبًا يتحدث عن رسائل الأحلام وتفسيرها فيما البلد من حوله عمه الخراب، وآخر يتحدث عن الزكاة وعامة الناس لا تجد ما تأكل، وغيره يظن الكرة الأرضية مسطحة، أو يفتي في حِل وحرمة المعاملات المالية وهو لا يدري من أين تأتي النقود. التفقه في الدين لا يغني عما سواه، كما يطيب للبعض الاعتقاد، فهو عدد من القواعد التي تطبق أمور متفرقة لا يحوط بعلمها كلها شخص واحد. نحن، بالطبع، بحاجة أشخاص متعلمين يعرفون تخريج الحديث وتفسير القرآن لعدم وقوع التزييف والخداع، ولكن من الأجدر أن تكون هذه الأمور اختصاصات أكاديمية منفصلة بذاتها وليس ضمن إطار الدين، وحتى دراسة الدين الإسلامي ككل تكون كدراسة أي علم إنساني من خارجه، كما أن دراسة الأدب الإنكليزي لا تعني أن الطالب هو كاتب ولا تعطيه أفضلية في هذا المجال.

أضف إلى ذلك، أن الغاية من أي دراسات جامعية عليا هي دفع البحث والاكتشاف في المجالات التي لم يشق غبارها بعد، لكن الدين الإسلامي مكتمل كما أخبرنا الله تعالى، والقواعد واضحة، وإلا ما فرضت على جميع الناس سواسية، فماذا يجري في الجامعات الشرعية؟ يتم تعقيد الأمور وخصخصتها وظيفيًا كما في كلام لوك. ولقلة الموارد يتم الرجوع لأمور فرعية وتاريخية لا تمت لأساس الدين بشيء- فتجد، مثلاً، أن أمرًا بسيطًا مثل “الماء الذي تشربه توضأ به” تعقد ليصير “ماء خالطه ما يغير لونه والماء الراكد والماء الذي ولغ به حيوان…”إلى آخره من أمور يُحتاج للإلمام بها أشهرًا، كما في القصة المشهورة. ونكتشف أننا وقعنا في كثرة الانشغال بالتفاصيل التي حذر منها القرآن في سورة البقرة.

 في حين تسعى كل العلوم اليوم لاستخدام شفرة أوكم لتبسيط القواعد ما أمكن، تلجأ المدارس الشرعية بالعكس لتعقيدها للحصول على ميزة المعرفة دونًا عن سائر الناس.

ثالثًا:

يقال بأننا بحاجة المدارس الشرعية والسلك الرسمي لتقنين الفتوى وعدم خروج أمور تُحمل على الدين وتُضل الناس. فهل حقًا نحن بحاجة ذلك؟

فيما يخص التطرف، يلجأ هؤلاء الأشخاص لمراجع خارج السلك الرسمي بكل الأحوال لأنهم يؤمنون بسيطرة السلطة عليه وفرض أيدلوجية الدولة على آراءه. فيما عدا ذلك، فكل شخص لديه عقل يستطيع أن يميز به صواب ما يصله، وكل مفتي يتحمل وزر فتواه. إن مسألة تقنين الفتوى هي حجة أخرى فقط لضمان بقاء الآراء الشرعية فيما يناسب السلطة، والأهم من ذلك أن الاختصاص الرسمي وحصر الفتوى في “رجال الدين” لم يساهم حقًا في تقنين الفتوى، بل ظهرت أمور غريبة عجيبة الفضائح التلفزيونية أكبر دليل عليها. الفرق هنا أنه عندما جُعل لها إطار رسمي وبيد مختصين ارتبطت بالضرورة بالدين وليس بتصرفات أفراد معزولة. لا أدعو هنا إلا وقف المدارس الشرعية – بل من الأفضل توفير مدارس يعرف توجهها بعيدًا عن التطرف أو الخداع- ولكن لا يجب أن تعطي هذه المدارس لطلابها حقًا في امتهان الشرع، وإنما فقط تقوية معرفتهم بالعلم الشرعي كعبادة.

يطيب للمشايخ والأئمة أن يحذروا من أن تلك الفئة، وذلك العلم، وطريقة التفكير هم أخطر بدعة تهدد الإسلام. إن كانوا صادقين في خشيتهم، فسيرون ولا ريب، أن طبقة رجال الدين، من حيث اختصاصهم لا من حيث علمهم، هي في الحقيقة البدعة التي يجب الحذر منها، ولنتذكر أن لا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاءه ولا صحابته ميزوا أنفسهم، من حيث المظهر أو الاختصاص، عن سائر الناس.

كتبها

رافاييل لايساندر