من قال إن الحقيقة أغرب من الخيال لم يتعرف على سينما ديفيد لينش، حيث يزود عمله “المخمل الأزرق” نقطة مضادة مقنعة لهذا القول المأثور. إن فيلم Blue Velvet، الغني والصادم، هو قصة طالب جامعي انجذب إلى الجانب المظلم من مسقط رأسه بعد أن وجد أذنًا بشرية مقطوعة في أحد الحقول.
منذ أول ظهور غير عادي له في عام 1977 مع Eraserhead، أصبح لدايفيد لينش تصنيفًا خاصًا به في الأفلام؛ أستاذًا يجمع بين الصادم والسريالي فيما يبدو وكأنه رؤى مباشرة من اللاوعي – الأحلام السينمائية (أو الكوابيس). “المخمل الأزرق” هو أحد أفلامه الأكثر وضوحًا، بدون الهيكل المعقد لتحفته اللاحقة: Dr Mulholland. بدلاً من ذلك، فإنه هنا يتبع هيكلية أفلام نوير المعتادة، حيث يقع الطالب الفضولي جيفري (كايل ماكيلان) في غرام ساندي (لورا ديرن)، ولكنه ينجذب أيضًا إلى مغنية الملهى الليلي دوروثي (إيزابيلا روسيليني) ، المحاصرة في علاقة سيئة مع المختل عقليًا فرانك (دينيس هوبر). من الواضح أن هذه الديناميكية هي بمثابة عودة إلى عصر النوير، على الرغم من أن لينش يضيف فكرة حديثة جدًا عن الانحراف الجنسي واستراق النظر المنحرف. إن النفور الذي نشعر به عند رؤية الانحرافات التي يقوم بها فرانك يضخّمه ولع لينش بمجازات النوير، بحيث جعل الجمهور يشعر بأنه يفسد شيئًا مألوفًا لهم جميعًا.
من بين السمات الأنيقة المفضلة لدى لينش هي زيف وتصنع أميريكا ما بعد الحرب والظلام الذي يكمن متسترًا في داخلها. يمتد المشهد الافتتاحي عبر باحة مثالية في الضواحي، مع أسوار حديقة بيضاء أنيقة وأزهار متفتحة، يعاني صاحب المنزل من سكتة دماغية أثناء سقي نباتاته. يهرع حيوان الأسرة الأليف لشرب الماء من الخرطوم الواقع، في حين أن اللقطة تتعمق في العشب لتكشف عن مستعمرة من النمل تبحث عن الطعام بلا هوادة. العالم السطحي هو قشرة من السعادة ، وفي أساسها النضال والكفاح والعنف.
يستمر هذا الموضوع في استخدام المخرج للموسيقى. من مقطوعة المخمل الأزرق لبوبي فينتون في شارة البداية إلى أغنية “في الأحلام” لروي أوربيسون، يخطف لينش أغاني رومنسية بريئة ويقرّبها من جنسانية فرانك المنحرفة، ويذهب إلى حد جعله يقتبس كلمات الأغاني بينما يشبع جيفري ضربًا، فيبدو الأمر كما لو أن براءة الموسيقى هي مجرد كذبة مثل الباحة الأمامية التي بدت مثالية في بداية الفلم.
يقترب “المخمل الأزرق” من الرعب بطريقة جديدة. فالشر فيه لا ينبع من الأسلحة ومناظر الدم، ولكن من الجنس المستخدم كأداة لأسوأ جوانب الإنسانية. يُرى البطل، جيفري، وهو يختبئ في خزانة مختلسًا النظر على دوروثي، فيما ينفذ فرانك تهديدًا جسديًا، حيث مازوخيته هي ما تجعله مرعباً. هذه اللحظة الرئيسية، التي تضعنا في خزانة مع جيفري وهو يشاهد فرانك يغتصب دوروثي، هي واحدة من أكثر الامتحانات المقلقة للسينما حول الانحراف الجنسي، فضلاً عن كونها اللحظة التي أتقن فيها لينش موضوعاته المميزة ونغمته وظلاميته.
عندما تم إصداره في ثمانينيات القرن الماضي، أشاد المراجعون بالفلم باعتباره تحفة أمريكية حديثة، أو -كما في تقييم روجر إيبرت الشهير المليء بالسخرية- أدانوا الفلم لدخوله المنطقة المظلمة. لو أخرج لينش الفيلم بطريقة low-brow، لكانت المراجعات أكثر تسامحًا. لكن بدلاً من ذلك، أخرج الفلم بمهارة وخيال مدهش، وفيه كل القطع الرئيسية من الفن السينمائي، مما يجعله صالحًا للجميع وليس نخبويًا. غالبًا ما يُعتبر الفن العظيم، مثل هذا الفلم، الذي يواجه القضايا الاجتماعية بشكل مباشر وصريح خطرًا، لكن وببطء، حتى السينما التي احتقرت الفيلم لم تستطع التوقف عن الحديث عن كيفية ومدى تأثرها به، وهي بالطبع نية لينش، ونية معظم الأفلام المهمة. كره المنتقدون الفيلم لأنه نجح في جعلهم يشعرون بعدم الاستقرار. فيما بعد، أكد شباك التذاكر على انتعاش لينش المالي من Dune، في حين أن إعادة التقييم النقدي المتنامية لا يمكن أن تنكر وجود المخرج كفنان مهم في الوسط السينمائي. حصل لينش على ترشيح لجائزة الأوسكار كأفضل مخرج، بينما قام المعهد الأمريكي للسينما في وقت لاحق بإدراج Blue Velvet في العديد من أفضل قوائمه، من بينها قوائم AFI لأفضل أفلام الإثارة، وفرانك بوث كأفضل شرير.
لا يوجد فيلم آخر للينش يؤثر أو يخطف المشاهد أكثر من Blue Velvet. على عكس عوالم الكابوس النقية في Lost Highway أو Mulholland Drive، لا يشعر المشاهد أبدًا بالضياع التام داخل وهم لاواعي رهيب، ولا يشعر المشاهد أنه منغمس في السخرية الهزلية الغامضة لـ Wild at Heart — حتى أثناء لحظات الفلم الأكثر سريالية. ومن خلال وهم الواقع، يقاوم الفيلم أيضًا كونه حرفيًا مثل قصص لينش الحقيقية: “الرجل الفيل” و “القصة المباشرة”. ولا يتوقف هذا فيلم للتساؤل عن أو تحديد معاني نفسية تحليلية- بعد أن حسم لينش أن “التفكير العقلاني يعترض طريقه”، فإن أسلوبه في صناعة الأفلام يحدث في نطاق اللاوعي. وهكذا، فإن ناتج عملية التشريح بين هذين القطبين هو فلم يوازن التناقضات بين عوالم الأحلام – الحلم الأمريكي والكابوس أمريكي – بما يكفي لخلق شعور زائف بالمساواة، إن لم يكن الايحاء بالوضع الطبيعي. إن مشاهدة فيلم Blue Velvet لا تعني رؤية الأجزاء المرعبة والقبيحة من أمريكا فقط. يتعلق الأمر برؤية العالم نفسه من زاوية فريدة- أي من منظور دايفيد لينش السريالي.
إذا كنت ترغب في التعليق على هذا المقال أو أي شيء آخر رأيته في مجلتنا، فتوجه، مشكورًا، إلى صفحتنا على Facebook أو راسلنا على Twitter.