مستمتعاً بالاندهاش ظاهرًا على ملامحِ من حولك، وأنت تخبرهم ما تقرأ أمام فنجان قهوة وعلى أنغام موسيقاك الخاصة، كلّ هذا لا يجعل منك مثقفاً سوى ثقافةً معلّبة….
لطالما شغلني معنى كلمة “مثقف”، فقد ارتبطت المفردة في ذاكرتي بالكثير من المظاهر، وعلى مدار السنوات كان هذا المفهوم يتغير تبعاً لتغير أفكاري حوله، بالإضافة لكونه أصلاً مفهوماً متشعّباً و متغيّراً، وبات اليوم يأخذ مناحٍ متعددة، فهناك الأميّ المثقف وصاحب الشهادات العليا ضحل الثقافة، وهذا كلّه يدفعنا للتفكير، ألم ترتبط الثقافة دوماً بالتحصيل العلمي؟
يبدو أنّ الأمر لم يكن كذلك، وهذا ما تبرهن عليه تجاربنا وحياتنا اليوميّة، فمن الممكن أن يكون رأي أحد بسطاء الحي في مسألةٍ اجتماعية أكثر دقةً وموضوعيّة من رأي مختار الحي أو طبيبه، وغيرها حالاتٌ كثر.
ولكن لمَ ارتبطت الثقافة دوماً بالكتّاب والأدباء والسياسييّن والمفكريّن؟
ها نحن نضع أنفسنا أمام أسئلةٍ عديدة، فهذا السؤال حتماً سيرجعنا لسؤالٍ أدق…
من أين تنشأ الثقافة وكيف أصبح مثقفاً؟
وهنا سأورد الإجابة من زاويتي الخاصّة، أنتَ مثقفٌ بقدر ما تتعلم ممّ تقرأ وتسمع وتشاهد، بقدر ما تتأثر بكل ذاك، وتحاول الوصول إلى مخرجاته، لن أقول لك، قل لي ما تقرأ أقل لك من أنت، رغم أنّها تحمل الكثير من الصّحة، إلا أنّه لابدّ لهذه القراءة من مخرجاتٍ عمليّةٍ ملموسة حتى تترك أثرها وبصمتها.
ينبثق مفهوم الثقافة أصلاُ عن علم الأنثروبولوجيا المختص بدراسة الإنسان وسلوكيّاته بكلّ التحولات التي تطرأ عليه وتؤثر فيه، ويمكنّنا تعريفه كمفهومٍ بسلوكٍ اجتماعي مكتسب بتراكم العلوم والمعارف و الأخلاق والآداب، وقد تباين تعريف مفهوم الثقافة على مرّ التاريخ ففي القرن التاسع عشر عُرّف بدماثة الخلق، كما يختلف مفهومه تبعاً لنمط الحياة المتّبع. في حياة البدو مثلاً، كلمة ثقافة تعني حضارة أو تمدّن، ويعدُّ إدوارد تايلور المختص بعلم الانسان أول من استخدم مصطلح الثقافة كما هو متعارفٌ عليه اليوم.
ترتبط الثقافة بالمعرفة ارتباطاً وثيقاً وتعدّ صفةً مسلّماً بها لجميع المشتغلين في الشؤون المعرفيّة كالأدباء والمفكرين والباحثين، وغدت في عصرنا الحالي مرتبطةً بوثاقٍ أشد بالفنون على اختلافها من كتابة ورسم وموسيقى وتمثيل، وقد تلازمت بشكلٍ كبير مع طبقة محددة منهم بوجود مظاهرٍ شكليّة محدّدة.
في فرنسا التي احتلت مكانة عليا في عالم الفكر الغربي في القرن الثامن عشر، أشعلت ثورتها حركةٌ ثقافية عمّت كافة أرجاء أوروبا، ولدّها أشهر مفكري فرنسا آنذاك ك”فولتير” و “منتسكيو” و “روسو”، وقد أُطلق على هذه الفترة “عصر التنوير” لما سطع فيها من أفكارٍ حرّة تناولت مساوئ حكم الكنيسة ومفاسد الحكومة.
كانت الثقافة ومازالت في المجتمعات الطبيعيّة التي تتطور فيها الحياة تطوراً ديناميكيّاً تلقائيّاً مصدراً لتحريك آراء الشارع والتأثير بالعوام وتوجهيهم، وهناك أمثلة كثيرة على هذا في المجتمعات الغربيّة، فلطالما كان المفكر أو السياسي أو الأديب رمزاً من رموز المجتمع يلجأ إليه الناس حينما يحصل خطبٌ اجتماعي أو وضعٌ سياسيٌ طارئ، وإذا عدنا لتاريخ الوطن العربي – ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي وهي من وجهة نظري آخر فترةٍ زمنية ساد فيها الوعي، وازدهرت الحركات الثقافية بل وبلغت شيئاً من أهدافها، ومنذ انتهاءها في أوائل التسعينات، ونحن في سباتٍ لا نفيق منه- فالمثقف آنذاك كان يشعر بدوره الكبير ومسؤوليّة كونه مؤثر ويستمدّ هذه المشروعيّة في المسؤوليّة من المثقف السياسي أو القائد أو الحاكم، هكذا وبكل شفافية كان قادراً على مشاركته حال الناس وشكواهم، بل وقد كان يستطيع الحديث معه بملء راحته إلى درجة إملاءه بأفكاره، ونرى هذا مكرراً بشدة عبر التاريخ حيث لكلّ قائدٍ بطلٍ مؤثر مثقف، حكيمٌ مستشارٌ مثقف، ولذلك كانت الثقافة قادرة على إكساب الشخص احتراماً اجتماعيّاً كونه يساهم في حمل همّ المشكلات الاجتماعيّة والمعيشيّة.
وللثقافة بعدٌ حيويٌ مؤثرٌ ولافت، وعن طريقه استطاع كثرٌ من روّاد النهضة العربيّة تجاوز عصرهم وطرح أفكارٍ مغايرة عن السائدة، ومن ذلك محاولاتهم الكثيرة في التجديد في الخطاب الديني على الرّغم من كلّ ما لاقوه من معارضة وإتهامات، أمّا اليوم فغدت الكلمة مجرّدة من معانيها تحمل مظاهر شكليّة سلبت منها مسؤوليّتها ومشروعيّتها، وجعلت منها هدفاً لا وسيلة، ولذلك كان لغياب المثقفيّن الفاعلين الأثر البليغ الذي يُرد إليه كل ما نلاقيه اليوم من انحدارٍ و تخلّف ناتجان عن جهلنا بما نريد، كوننا محكومون بثقافةٍ ذات خصائص تقيّد حرية الفعل والحركة لديها بمفاهيم وتصوّرات لا تعبّر عن الحركة في التاريخ بقدر ما تعبّر عن السكون في عالمٍ سريع الخطى، آني التغيّر والتحوّل، ولذلك نعيش بين قبضتي كماشة ثقافتنا البالية الساكتة العاجزة عن الإتيان بجديد والعالم المتغيّر السريع الحركة، وها نحن ما زلنا ضائعين فاقدين للبوصلة أسرى للفتنة الكبرى وعين جالوت وكربلاء وغيرهم كثير، العالم يتحدث اليوم عن المستقبل ويغيّر من الحاضر ونحن نتحدث عن الماضي، وننقسم حول هذا الماضي أحزاباً وشيع نتناحر في قضيّة لا وجود لها وإن وجدت فلا آثار مستقبليّة لها، وفي محاولاتنا لإدراك حقائق الأمور في هذا العصر ننشئ تصوراتٍ لا علاقة لها بالعصر، نسبل الماضي على الحاضر فنخسر المستقبل ولا ندرك الماضي وبذلك نبقى أمةً عائمةً لا هي مع هؤلاء ولا مع أولئك…

………………………………………..
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.