سيمون دي بوفوار أيقونة النسوية- لم تكتب أعمالاً نسوية فحسب، بل كتبت الكتاب المقدس للحركة “الجنس الثاني”. كانت مثقفة متعددة المواهب تجمع بين الإنتاجية الفلسفية والأدبية وبين العمل السياسي الميداني الذي أدى إلى تغيير تشريعي دائم، وألهمت حياتها العاطفية والخاصة أجيالاً من النساء الساعيات إلى الاستقلال.
في كتاب The Second Sex، ترسم بوفوار نوعًا من التاريخ الوجودي لحياة المرأة: قصة كيفية تغير موقف المرأة تجاه جسدها ووظائفها الجسدية على مر السنين، وكيف يؤثر المجتمع على هذا الموقف. هنا تطرح دي بوفوار السؤال الأساسي المتمثل في تجسيد الأنثى: هل المساوئ المفترضة لكون الشخص أنثى هي مساوئ فعلية موجودة بشكل موضوعي في جميع المجتمعات، أم أنها تعتبر مجرد مساوئ من قبل مجتمعنا؟ إنها تجيب على هذا السؤال من خلال استكشاف دراسات الحالة للمراحل المختلفة من حياة الإناث. في دراسات الحالة هذه، يتم تقديم الجسد الأنثوي كإيجابي وسلبي ، والمرأة مضطهدة وحرة. لا توجد حقيقة جوهرية لهذه المسألة: إنها تعتمد على المدى الذي ترى فيه المرأة نفسها موضوعًا حرًا وليست موضوع نظر المجتمع.
في المجلد الأول من الكتاب، تستكشف بوفوار بعض “الحقائق والأساطير” التي كتبها الرجال عن النساء. في الثاني، سعت لوصف ما يعنيه أن تصبح النساء نساء في عالم حيث يعرّفهن الرجال بهذه الطرق – وكيف يدفع ذلك الكثيرات إلى الشعور بالانقسام وعدم الرضا.
وتظهر la femme forte “المرأة القوية” إحدى خرافات الأنوثة كما تصفها بوفوار، بشكل بارز في مناقشة بوفوار لتمثيل المرأة في النصوص والتقاليد الدينية، حيث تتغنى الأناجيل العبرية والمسيحية بالمرأة القوية. في المسيحية (كما ترى بوفوار)، تُحترم العذراء بسبب “العفة والطاعة” التي تحتفظ بها لنفسها ولزوجها؛ وتقف قوية في مواجهة رغباتها الجسدية. ووجدت بوفوار في الديانات الهندوسية وروما القديمة، آلهة مشابهة جسدت قوة الأنثى في كبح النفس.
لكن المرأة القوية أو الفاضلة في “أمثال سليمان 31” من العهد القديم الذي تستشهد به بوفوار تظهر على أنها “تطلب صوفًا وكتانًا وتشتغل بيدين راضيتين”. و “تصنع قمصانًا وتبيعها وتعرض مناطق على الكنعاني”.
في ضوء ما تقوله الآيات بأكملها، فإن اختيار بوفوار لهذا المثال أمر مثير للفضول، لأن المرأة في هذا النص القديم المقدس تبدو مستقلة تمامًا. لم تظهر في الأدوار المثيرة أو العائلية فقط، وبوفوار تحديدًا هي المثال السامي لـ “المرأة المستقلة” التي تجمع بين الحب والمشاريع الأخرى في الحياة. تقوم “المرأة الفاضلة” في مثال سليمان الواحد والثلاثون بأداء أعمال اقتصادية، وتدير أموالها الخاصة، وتشتري الحقول، وتزرع المحاصيل وتتاجر بنجاح كبير بحيث تتمتع بأرباح الاستثمار في مزارع الكروم، الفائض بما يكفي لإغداق أسرتها بالنعم، وتجلب أعمالها المديح لها إلى الأبواب.
إذًا، ما الذي لا يعجب سيمون؟ حسب وجهة نظر بوفوار، فإن هذا النموذج من الأنوثة القوية “محصور في الأعمال المنزلية”، وهو نوع من العمل يتم تقديمه بشكل غير متناسب للفتيات والنساء كجزء من “مصيرهن” الأنثوي، كطريقة يومية لإظهار حبهن للآخرين. تم الإشادة بـ “المرأة القوية” في الأمثال من قبل زوجها وأطفالها ومدينتها بسبب صناعتها ونجاحها، لكن بوفوار اعتقدت أن هذا النوع من الثناء كان في كثير من الأحيان بمثابة طعم أبقى النساء يضحين بأنفسهن دون المعاملة بالمثل- العمل على جعل بيوتهن ملاذًا للسلام والراحة للجميع ولكن ليس أنفسهن. هذا الأمر هو جزء من فخ قديم جدًا، من الصعب معرفة سبب نجاحه: طُعم الفخ هو الحب، وقضبته هي المقدار المطلوب- وبشكل غير منطقي، من المتوقع أن تعمل النساء من أجله. أسطورة المرأة القوية شكلت النساء ليعتقدن أنهن إذا كن يحببن شخصًا ما، فإنهن بالطبع سيخترن الصوف والكتان، ويسهرن في انتظار أزواجهن، وينهضن باكرًا، ويقاومن إغراء “الكسل”. بالطبع كان التعبير عن الحب هو دعم أسرتها في حين نادراً ما تسأل نفسها: ماذا عني؟
قبل قرن من الزمان، نصح هنري بلزاك الرجال بأن سر وجود زوجات راضيات بأنهن أمات هو إقناعهن بأنهن ملكات، وأن الخدمة المنزلية هي جزءٌ من مجد عهدهن. ولكن إذا كان الحب هو أن تخدم، وكانت الخدمة مجد السيطرة، تسأل بوفوار: لماذا لا يرغب الرجال في المشاركة بها؟ ” لماذا لا يمنح الرجل فرصة المشاركة في هذا الإخلاص، في نفي الذات الذي تحسد الكثير من النساء عليه؟
اعتراض بوفوار على “المرأة القوية” في المثل 31 ليس أنها قوية – ولا حتى لأنها تضحي بنفسها. بل لأننا لم نسمع أبدًا جانبها من القصة، لذلك من المستحيل معرفة ما إذا كان جهدها وعملها يتدفق بحرية من قيمها ورؤيتها لحياتها، أو من الرغبة في مطابقة المثل الأعلى للاجتهاد؛ أي فكرة أن سبب وجودها هو الراحة والملائمة التي تمنحها للآخرين.
في حين ينشأ الصبية للاعتقاد بأن بإمكانهم تقدير استقلالهم وإبداعهم ولديهم علاقات شخصية مزدهرة، بناءً على تحليل بوفوار، أدى تعليم المرأة في كثير من الأحيان إلى شعورها “بالتمزق” بين اختيار الحرية واختيار الحب. كتبت “المرأة” محكوم عليها بمشاعر الفشل والشعور بالذنب، لأنها إذا نجحت في الامتثال للمُثُل الأسطورية للأنوثة، فإنها ستكون سرابًا وليست شخصًا. كان من المتوقع أن تجسد “كيانًا غير إنساني: المرأة القوية، الأم الرائعة، المرأة الفاضلة، وما إلى ذلك”. نظرًا لأن الأنوثة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإعطاء الأولوية لاحتياجات الآخرين، مع كونها محبوبة وعطاء، عندما تفكر المرأة وتحلمها وتنامها ورغباتها وتطلعاتها لنفسها، فإنها تصبح أقل أنوثة.
حتى روايات بوفوار كثيرًا ما تعرضت لانتقاد بسبب وجود شخصيات لا ترقى إلى مُثُلها النسوية. لكن بعد فهرسة الصور النمطية عن الأنوثة، لم ترد بوفوار أن ترسم بورتريهات جديدة لأساطير قمعية. لم تكن تريد أن تكتب عن “نساء قويات” عززن مشاعر النساء في الانقسام وعدم الاكتفاء. في فترة كانت فيها إمكانات حياة المرأة مقيدة بشكل مختلف عما هي عليه اليوم، أرادت أن تكون قارئاتها قادرات على الحلم والفشل والحلم مرة أخرى، ودائمًا على علم بأن الفشل لن يجعلهن فاشلات.
حتى بعد 70 عاماً لا يزال رأي بوفوار يستحق الاستماع إليه. لم تكن وجهة نظرها أن العمل المطلوب للحفاظ على حياة كريمة غير مهم، ولا أن العمل الإنتاجي أو الإبداعي هو في حد ذاته أكثر قيمة من الرعاية. من وجهة نظرها، لا يعتبر العمل المالي ضمانًا لحرية المرأة، والاعتناء بالآخرين ورعايتهم يعد جزءًا أساسيًا مما يجعلنا بشرًا، ومن دون ذلك سيعاني البشر للبقاء، لكنها لا تعتقد أن “الحب” يعني قيام المرأة بكل شيء بمفردها.