” مختصرة هي الحياة، ليس هناك وقتٌ للخصومات والاعتذارات والانتقامات، هناك متسعٌ من الوقت للمحبّة فقط “، إنّها أحد أهمّ الحكم التي أورثنا إيّاها مارك توين، لطالما تمرّ علينا الأيام ونحن نقول مازال لدينا متسعٌ من الوقت لنسامح ونغفر، لم يحن الوقت بعد ليعلموا كم كانت أفعالهم سيئة ، لكنّنا فجأة أيضاً نقول يبدو أنّه فات الآوان، وفي النهاية لا خاسر سوانا.
في رحلة الحياة المتقلّبة لا نربح دائماً ولكنّ الحياة تستمر، كثيرٌ من الأمور خسرانها لا يعني بالضرورة توقف الحياة، وحتى أحلام عدم تحقيقها لا يعني أنّنا لا نستطيع أن نكون سعداء بعد اليوم ، ولكن بالمقابل هناك أمور خسارتها أو حتى عدم سيرها بالطريقة الصحيحة قادر على جعلنا غير سعداء ، تماماً كعلاقاتنا مع أهلنا و أحبائنا ، هذه العلاقات التي تتمحور حولها حياتنا كلّها، العامود الذي نستند عليه طوال سنواتنا، الملجأ والملاذ الآمن في رحلة الحياة الطويلة.
مع كلّ ما نمرّ به عبر حياتنا من أزماتٍ ومطبات وانجازات، مع كامل سعينا لتحدي أنفسنا وتدريبها يوماً بعد يوم للوصول للأهداف المخطّط لها ونمط الحياة التي نرغب، تزداد رغبتنا بحياةٍ كاملة مثاليّة، قادرة على إشباع جلّ احتياجاتنا، من نجاحٍ مهني ومجتمعيٍ و ماديّ،ٍ ولكن إن خيّرنا اليوم الاستثمار في شيءٍ قادرٍ على جعلنا أكثر سعادة ورضا، ترى أين سننفق وقتنا وطاقتنا؟
ربما من الجيد أن نستثمر في الحب، في الاهتمام، الاحتواء، التعاطف، في كلّ ما هو قادر على توليد مزيدٍ من المشاعر الإيجابية داخلنا. استثمر في علاقاتك الأهم والأقرب، هذه فقط هي التي تجعل الحياة على قدرٍ كبيرٍ من الاستحقاق للعيش، وعلى قدرٍ كبيرٍ من المعنى.
إنّها أصل السّلام الدّاخلي النّفسي، فحاجتنا لصنع علاقاتٍ مميزة وصادقة لا ينحصر بمجرد فطرتنا الاجتماعيّة لذلك، إنّما حاجة تدفعنا لمحاولة الاحتراف في صنع العلاقات الجيّدة و الاستثمار فيها كونها الأساس الأول الذي يمنحنا الدعم والتشجيع العاطفي لتخطي الاوقات الصعبة، رغبتنا الصّادقة في إشعار كلّ من يعرفنا بالأمان بجانبنا، وهذا كلّه قابلٌ للتعلم ، تماماً كأيّ مهارةٍ أخرى ، نستطيع الوصول بعلاقاتنا الهامّة إلى درجة الاحتراف.
فالمجتمع الصالح اليوم هو ذلك القائم على علاقاتٍ سهلة بسيطة سلسة، تتحكم فيها القوانين الواضحة والمعاملات الصريحة الخالية من أي استجداءٍ أو إذلال، العارية من كل إرهاق أو تعب أو مشقة.
في منطقة جبلية نائية في أحد جزر إيطاليا، يزيد معدل التعمير فيها 6 أضعاف عن كامل أراضي إيطاليا، هذه المفارقة الغريبة دفعت الباحثة الاجتماعيّة والنفسيّة “سوزان بينكر” لمعرفة الأسباب وراءها عن طريق البحث في عادات ومعالم المكان، بدايةً وجدت أنّ الجينات مسؤولة عن 25% من التعمير، أمّا 75% المتبقية فعائدة لنمط الحياة، القائم على التماسك الاجتماعي، هناك حيث الجميع يعرف الجميع، الجميع يحبّ الجميع، حيث الحياة قائمة على الاهتمام والاحتواء والتقبل، على العائلة الكبيرة، دائماً محاطون ببعضهم البعض، في الأفراح والأحزان، لا أحد يحمل حزنه منفرداً، حياةٌ مازالت تشبه الحياة القروية التي كنّا نقرأ عنها، لا أفكار ماديّة أو رغبة في الاستقلال، على نقيض العالم المتحضر اليوم ، لا أحد منهم يرغب أن يبتعد ويصنع حياة مستقلة جديدة يكون هو محورها، إنّما الكل محور حياة الكل.
جميعنا نرغب في أن نعيش أعماراً طويلة، نرى فيها أحفادنا وأحفاد أحفادنا، أن لا نغادر لعبة الحياة قبل أن نرتوي منها تماماً، ولكن على عكس ما توقعناه، ليس الطّعام الصحي أو الابتعاد عن التّدخين أو القيام بالتّمارين الرياضية هو ما يضمن ذلك بالمرتبة الاولى على الرّغم من أهميته، إنّما حياتنا الاجتماعيّة هي القادرة على تحديد ذلك، علاقاتنا، وخاصة مع أولئك المقربين، الذين نادراً ما نفكر أن نعبر لهم عن مشاعرنا أو احتياجاتنا، فضلاً عن اندماجنا الاجتماعي، قدرتنا على التفاعل مع محيطنا يومياً، وإذا قمنا بأخذ نظرة سريعة على حياتنا اليوم، كم افتقدنا اليوم من الأنشطة التي بتنا نقوم بها على الانترنت؟ كم من النظرات والابتسامات نستعيض عنها برمز تعبيري أو رسالة نصية؟ إنّنا نقوم باستبدال حياةٍ حقيقيّة كاملة بحياةٍ مزيفة، تفتقر للتواصل الحقيقي، التواصل وجهاً لوجه، المصافحة، تشابك الأيدي، هذا كلّه يجعلنا في حاجةٍ مضاعفة للاحتواء والتقبّل، كون التواصل الالكتروني لا يلبي احتياجاتنا الفطرية بشكل كامل.
لا نحتاج لكثيرٍ من الاثباتات لنحاول وضع علاقاتنا في منزلةٍ أهم، فأغلب الدراسات اليوم تؤكد قدرة العلاقات الحقيقية الصادقة على شفاءنا من عقدنا النفسيّة، وتمكيننا ودفعنا للأمام، ولذلك نرى أنّ النساء أشدّ قدرة على مواجهة الأمراض، والأزمات على مختلف أنواعها، كونهنّ يجعلن من علاقاتهنّ أولوية ومحور اهتمام، تبعاً لاهتماماتهن القائمة على التعامل مع الأشخاص لا الأشياء، فينشئنّ مساحاتٍ قادرة على مساعدتهن لمواجهة الكبر والشيخوخة وأغلب الأزمات الشخصيّة.
ثلاث علاقاتٍ حقيقيّة مستقرة ستصنع الكثير من الفرق، علاقات مبنية على التقبل والحب اللامشروط ستعزز صحتك النفسية وثقتك بنفسك وتجعلك قادر على مواجهة الحياة بكافة مصاعبها، ألا يكفي كل هذا لتجرّب الاستثمار الأفضل والأكثر ربحاً على الاطلاق ؟
الاستثمار في الحب …
…………………………………..