” إن استطاعت التكنولوجيا اليوم أن تقرّب المسافات، فهي بالتأكيد لم تستطع أن تنقل الإحساس”
حينما كان محيطنا الاجتماعي أقلّ تعقيداً بكثير من هذا الذي نتعامل معه اليوم، كان يمكننا أن نكون أكثر راحةً أكثر تلقائيّة وأكثر حريّة، لكنّ التطور الذي نفخر به كإنجازات بنو البشر ولّد مضاراً حملتّنا أعباءً لربّما كان من الأفضل أن لا نحصل عليها، بيد أنه ككلّ ما في الحياة، لا نحصل على الشيء قبل أن ندفع ثمنه.
وكما نحن في الوقت الحاضر نقضي أوقاتنا نستمتع بكلّ ما أنتجه العقل الإنساني من إنجازاتٍ جعلت حياتنا أسهل وأسرع، لكنّنا أيضاً نقضي النصف الآخر في إصلاح ما خلّفته هذه الإنجازات من آثارٍ على صحتّنا النفسيّة، فضلاً عن كلّ الضغوطات التي لحقت بنا جرّاء الحياة الماديّة التي تحيطنا من كل جانب، غدا الحفاظ على صحةٍ نفسيّة جيدة أمرٌ يستحق العمل عليه بجديّة.
وتعتبر العلاقات الاجتماعيّة السليمة أساس الصحة النفسيّة الجيدة، كونها أهمّ مخففٍ للضغط النفسي، فالتعامل مع الآخرين والتواجد في علاقاتٍ إيجابية يسودها الاحترام والثقة والدعم العاطفي مهم جداً، وغياب أحد هذه العوامل يجعل من العلاقات قادرة على سلب طاقتك وتقليل إنتاجيتك، فإمّا أن تحاول الاستثمار فيها أو قطعها كونها تشكّل عبءً ثقيل الحمل.
ترتبط الصّحة النفسيّة بشكلٍ كبير بالإنتاجية الفرديّة، وأغلب الاضطرابات النفسيّة كالاكتئاب مثلاً مبنية على عدم قدرة الإنسان على القيام بعمله ممّا يؤدي لإنخفاض إنتاجيته، وبالتالي إنخفاض تقديره لذاته.
ولا أعني بالصحة النفسيّة هنا ابتعادنا عن الأمراض أو الاضطرابات النفسيّة فحسب، إنّما جودة حياتنا النفسيّة أيضاً، ومدى رضانا عن اتزاننا وسلامنا الداخلي، وهذا لا يتعلق بحالتنا الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة، إنّما شيءٌ داخليٌ صعب التفسير، يجعلنا نعيش في حالةٍ من الاستقرار والسلام، ترتبط بشكلٍ كبير بارتباطنا الروحي، وقدرتنا على التخلص من كلّ أعباء الحياة الماديّة القائمة على المنطق فقط والغوص في رحاب العالم الروحاني لنغدو أخف وأرق وأكثر إنسانية.
ولا نستطيع إنكار أنّ الضغط النفسي أحد مراحل الحياة ودوافع الإنجاز، لذلك معاملته كعدوٍ يجب التخلص منه، من أكثر الحماقات التي نفعلها، يمكننا اعتباره كصديقٍ سيمرّ بنا كل فترةٍ يطمئنّ علينا، لا نرغب في أن نتخلص من الضغط بل أن نرّوضه، ونتعلم مهارة التعامل معه باعتباره جزءً من دورة الحياة، فنحن من نعتقد وبسذاجة أنّه لا يجب أن تكون هناك ضغوط، أصعب مافي الضغط النفسي الاعتراف به.
وكما الأهداف والأولويات كذلك الضغوط النفسية تحتاج ترتيب، فهناك ضغوط العمل والعائلة والأصدقاء والضغوط المالية والاجتماعيّة، لا يجب أن نضعها جميعها في قالبٍ واحد، لا نستطيع معالجتها جميعها في آنٍ واحد، فوجودك تحت ضغط تسليم مشروعٍ معين قضيت عليه وقتاً طويلاً سيجعلك في مزاجٍ حاد، ومن الحكمة تقديم عملك كأولوية لحين تسليم مشروعك، مع إيضاح ذلك للعائلة التي تشاركك الدعم والتشجيع لتستطيع أن تكون حاضراً معهم أكثر فيما بعد.
جزءّ من قدرتنا على التعامل مع الضغوط هو التّركيز على اللحظة الراهنة، من خلال إدراكها والاستمتاع بها بعيداً عن الملهيات والمشتتات، لكنّ الأمور ليست دائماً تحت السيطرة، فكثيراً ما نكون تحت ضغوطٍ خارجة عن إرادتنا كمرض قريبٍ أو حبيب ليس علينا أن نجبر أنفسنا على تحمّل ما يزيد عن طاقتها، فذلك سيجعلنا نبتعد أكثر فأكثر عن السلام النفسي.
وأمّا قدرتنا على التركيز هذه فتسمّى علميّاً “مهارة الحضور بالوعي الكامل” أي تدريب المخ على قدرته على الوقوف أثناء الرحلة والتفكير باللحظة الراهنة فقط حيث لا ماضٍ ولا مستقبل، وهي مهارةٌ قابلة للتدريب وتمارينها بسيطة تتعلق بالتنفس والمشي والمضغ بشكل جيد، وهناك دراساتٌ تبيّن تأثير الوعي الكامل على المخ بشكلٍ إيجابي، وقد لوحظ نتيجة التجارب أنّ منطقة القلق والخوف من المستقبل في المخ يقلّ نشاطها تماماً عند التركيز على اللحظة الحالية من خلال التنفس على سبيل المثال.
الأمر كلّه قائمٌ على أنّ امتلاك المشاعر ليس علامة ضعف، المشاعر تعني أنّنا بشر، لكن نكراننا لإنسانيتنا يشعرنا بفراغٍ داخليٍ كبير باحثين عن طرق لملء الفراغ، الحياة جميلة بالمشاركة، عندما يصبح حملك ثقيلاً عليك شاركه.
…………………………………..
كتبتها: ولاء متاعة
يسعدنا أن نشاركك حملك. إذا كان بإمكاننا المساعدة راسلنا على: letters [at] metamorphos.org