بعض الكتب لا تقع في غرامها حتى تنتهي منها كاملة، والبعض حتى بعد فترة طويلة عندما تمر بتجربة تجعلك تدرك قيمته. لكنني وقعت في غرام كتاب غاستون باشلار من عنوانه فقط. كل الفلسفة التي قرأتها أو قرأت عنها قبله تدور حول الأمور العظيمة الجليلة- معنى العالم ومكاننا في الكون، إلا أني لم أقع على أحد تحدث عن الأماكن الأكثر حميمة بالنسبة لنا والتي نقضي فيها معظم حيواتنا- منازلنا. مونتاين تحدث قليلا عن الموضوع، في مجمل مقالاته العظيمة عن الفلسفة المعيشية، وثورو أيضًا عن ترتيب كوخه في الغابة وكيف بناه بيديه، لكن أحدًا من الاثنين لم يتحدث عن “شعرية” الأماكن، وهو السبب الثاني لإعجابي بعنوان بوشلار؛ هذه الحميمية والإحساس التي يَعد بتناول الموضوع بها، وهي طريقة نادرًا ما يتم تناول الأمور الفلسفية بها.. للأسف.
La Poétique de l’Espace أو “شعرية الأماكن” كتاب صغير مؤثر، مؤلفه فيلسوف يحظى باحترام كبير وقد تحول في وقت متأخر من حياته المهنية من العلم إلى الشعر. لم يكن هناك شيء في رحلته الفكرية تقليديًا، خاصةً إذا تم قياسه وفقًا للمعايير الصارمة للحياة الأكاديمية الفرنسية. كان موظفًا في مكتب البريد، وترقى، إلى حد كبير من خلال المثابرة الفكرية، لشغل كرسي أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون. كان باشلار، بكل المقاييس، محاضرًا لا يُضاهى، وعُرف بصفته شخصًا لطيفًا وودودًا، وقدم نفسه على أنه مدمن القراءة الذي يهدف إلى توسيع التصورات، وتعميق الفهم وتعزيز الاتصالات. سرعان ما ظهر كتابه “شعرية الأماكن” في قوائم القراءة الأكاديمية، وفي مدارس العمارة والفنون، وتم وضعه جنبًا إلى جنب مع أعمال المنظرين والممارسين الثقافيين المعروفين، وبقي هنالك إلى اليوم.
يُعرف باشلار عربيًا بفضل اسهاماته في فلسفة العلم، أو حسب نظرة الأكاديميين: “اسهاماته الأكثر جدية”، وبالفعل ساهمت أعمال باشلار السابقة بتقدم نظرية التمزق المعرفي، التي قبلها فوكو وآخرون على نطاق واسع، حيث تم تحرير الفكر العلمي مما كان يعيقه أو يرهقه من قبل. لكن هذا الكتاب هو الذي جعل باشلار شخصية بارزة خارج فرنسا.
“شاعرية الأماكن” هو استجواب فمونولوجي لمعنى المساحات، والمساحات الحميمة مثل المنزل، والدرج، والخزانة والمساحات الواسعة مثل الحدائق والغابات. في الفصل الافتتاحي للكتاب، يركز غاستون باشلار بشكل خاص على المساحة الداخلية ومكوناتها: الغرف المختلفة وأنواع الأثاث المختلفة فيها. يحاول باشلار تتبع استقبال الصورة الشعرية في الوعي الذاتي، وهو استقبال يتطلب انفتاحًا كبيرًا والتركيز على التجربة الحالية بينما ينقضي الوقت سريعًا.
يشرح باشلار تركيزه على الصورة الشعرية لكونها وسيلة الوعي البريء، أمر يسبق الأفكار الواعية، ولا يتطلب معرفة، والمنتج المباشر للقلب والروح. هذه العلاقة المباشرة بين الشعر والواقع، تكثف واقع الأشياء المتصورة (“الخيال يزيد من قيمة الواقع”). يدعي باشلار بأن الشعر موجه في نفس الوقت للداخل وللخارج على حد سواء، وبالتالي يعزز مناقشته القادمة للداخل والخارج في حدود الأماكن.
أما البيت، بالنسبة لباشلار، فهو موضوع الظواهر الجوهرية، مما يعني أنه المكان الذي تصل فيه التجربة الشخصية إلى المثالية. يرى باشلار المنزل كنوع من الكون الأولي، مؤكدًا أن “كل المساحات المأهولة حقًا تحمل جوهر مفهوم المنزل”، ثم يشرع باشلار في فحص المنزل كمظهر للروح من خلال الصورة الشعرية والأدبية الموجودة في الشعر. يدرس أماكن في المنزل كأماكن حميمية وذاكرة تتجلى في الشعر.
يقول باشلار أن المنزل لديه وحدة وتعقيد على حد سواء، فهو مصنوع من الذكريات والتجارب، وتثير أجزائه المختلفة أحاسيس مختلفة في حين أنها تجلب تجربة موحدة وحميمة للعيش، وهذه الصفات التجريبية هي ما يجده باشلار عندما يحلل الشعر والنثر. الأثاث المنزلي عند باشلار مشحون بالخبرة العقلية. خزانة مفتوحة هي عالم كامل مكشوف، والأدراج هي أماكن الأسرار، ومع كل عمل اعتيادي نفتح أبعادًا لا نهاية لها لوجودنا.
في كتاب “شاعرية الأماكن”، يقدم باشلار مفهومه عن topoanlysis، والذي يعرفه على أنه الدراسة النفسية المنهجية لأماكن حياتنا الحميمة. والمنزل، الأكثر حميمية من جميع الأماكن، “يحمي أحلام اليقظة”، وبالتالي فهم المنزل، بالنسبة لباشلار، وسيلة لفهم الروح. وروحنا، يجادل غاستون، هي في مكان إقامة. لذلك يعتبر المنزل موقعًا مناسبًا بشكل خاص للبحث في الظواهر الحميمية في المساحة العقلية الداخلية. تحقيقا لهذه الغاية، التي يسميها باشلار “تحليل توبو”، نحن بحاجة إلى إدراكها في كل تنوعها ووحدتها، في جوانبها الخارجية وكذلك في جوهرها.
في عباراته الأنيقة “قراءة غرفة”، شجع باشلار القراء على التفكير في ماضيهم، والتأمل كيف أن الذكريات والأحاسيس تشكل حدود أماكننا.

يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.