German Idealism
اعتقد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن الأمور أكثر من مجرد بيانات حسية. قرأ للتجريبيين البريطانيين اللذين، على حد تعبيره، أيقظوه من سباته العقائدي. افترض كانط قبل ذلك أن عقولنا قادرة على اخبارنا بحقيقة العالم بشكل يقيني. لكن التجريبيين أثبتوا أنه، نظرًا لأن معرفتنا بالعالم الخارجي تأتي إلينا من خلال حواسنا، فهي دائمًا، إلى حد ما، غير مؤكدة. بعض الأطعمة مثلاً تبدو حامضة أو حلوة لنفس الأشخاص، واليوم يزداد أدراكنا لهذه المسألة- هل تذكر الفستان الأزرق؟ انقسم الناس بين من رآه أبيض أو أزرق مع أن الفستان نفسه. لذا، سأل كانط، ما هي الأمور “في حد ذاتها” التي تجعلها تبدو زرقاء أو بيضاء -أو غير ذلك- عندما تمر عبر أعضاءنا الحسية؟
قد نعتقد أن العلم يمكن أن يخبرنا ما هو الشيء الحقيقي في حد ذاته، حتى لو لم تستطع حواسنا ذلك. ولكن، عندما تفكر في الأمر، فإن العلم قادر على اخبارنا من أين تأتي طعمة التفاح الحلوة أو لونه الأحمر، ولكنه لا يجعلنا أقرب لفهم التفاحة في حد ذاتها. لا يساعد في الواقع أن نقول أن تركيبة كيميائية معينة في التفاح ورد فعل عصبي معين لشخص ما يجتمعان لتحديد ما إذا كانت التفاحة تبدو حلوة أو حامضة- وأن هذا التركيب الكيميائي هو ما تبدو عليه التفاحة “حقًا” في حد ذاتها. يزداد الأمر وضوحًا عندما نتحدث عن أمور أكثر تعقيدًا مثل الفنون.
لذلك استنتج كانط أنه لا يمكننا معرفة أي شيء عن الأشياء كما هي في حد ذاتها، وقال أن “The ding an sich” الشيء في حد ذاته “يساوي X”. يمكننا فقط معرفة العالم المدرك بالحواس، عالم المظاهر؛ ولا يمكننا أن نعرف شيئًا عن العالم المتسامي وراء المظاهر noumenon.
بهذا القول، أثقف كانط النار لتغيير جوهري في الفلسفة. لا يستطيع العقل اخبارنا عن العالم خارج حواسنا. ولا يمكن الوصول لتصور الإله عند بيركلي، أو أي تفسير ميتافيزيقي للعالم عبر المنطق المحض. ومن هنا لم تعد الفلسفة كما كانت.
بالنسبة لكانط، ومعظم النظرية المعرفية التي أعقبته، يمكن تحليل الأسئلة حول ما يمكننا معرفته وكيف يمكننا معرفته عبر المغزى الذي يمكننا قوله حول ما نعرفه وكيف نعرفه. ما أنواع العبارات عن العالم التي تحتوي على معرفة بالعالم؟
قام كانط بمهمة الإجابة على هذا السؤال من خلال تقسيم التصريحات إلى فئتين: تحليلية- analytic وتركيبية- synthetic. العبارات التحليلية هي تلك الصحيحة بالتعريف. عبارة “الفيلة من الثدييات” تحليلية. لا تخبرنا أي شيء جديد عن الفيلة بخلاف ما يمكننا اكتشافه بمجرد البحث عن “فيل” في القاموس. “بعض الفيلة تلعب كرة القدم”، من ناحية أخرى، هي تصريح تركيبي (أو تأليفي). تعطينا معلومات جديدة حول العالم، لأن “لعب كرة القدم” ليس جزءًا من تعريف “الفيل”.
بعد ذلك، ميز كانط بين التصريحات القبلية- prioriوالبعدية- posteriori. التصريحات القبلية هي تلك التي يمكننا الإدلاء بها على أساس العقل وحده، دون اللجوء إلى الخبرة الحسية. بياننا السابق، “الفيلة من الثدييات” يُعرف بشكل قبلي. لسنا بحاجة لفحص مجموعة من الفيلة لنرى أنه صحيح. الأحكام البعدية، من ناحية أخرى، تقوم على الخبرة الحسية للعالم. لا يمكن معرفة “بعض الفيلة” إلا بعد التحقق من عدد الحالات الصحيحة- إما فحصها بأنفسنا أو الأخذ بكلمة شخص يقول أنه تأكد من ذلك.

حتى الآن، رأينا أمثلة على حالات تحليلية قبلية (“الفيلة من الثديات”) وعبارات تركيبية بعدية (“بعض الفيلة تلعب كرة القدم”). ثم سأل كانط، “هل هناك نوع ثالث من العبارات، قبلية تركيبية؟” ستكون عبارات تعطينا معرفة جديدة بالعالم الخارجي، ولكن يمكن معرفة ذلك بالعقل وحده. أشار التجريبيون إلى أنه لا توجد معرفة قبلية تركيبية، لأن مصدر معرفتنا بالعالم الخارجي هو تجربتنا الحسية. لكن كانط قال، “لحظة! ماذا عن عبارات مثل “كل حدث له سبب”؟ إنه تركيبي: يخبرنا بشيء جديد عن العالم ما وراء ما هو في تعريف “السبب” و “الحدث”. ولكنه أيضًا قبلي، معروف بالعقل وحده، وليس بالخبرة. كيف ذلك؟ “لأنه يجب أن يكون صحيحًا حتى نمتلك أساسًا تجربة مفهومة”. إذا لم نفترض أن الوضع الحالي ناتج عن سلسلة من الأحداث السابقة، فلن نتمكن من فهم أي شيء، ولن نتمكن من الاعتماد على العالم ليكون متسقًا.
والآن، هذه الطرفة، التي لا بد أن مر بها الجميع، عن عدم التمييز بين التصريحات التحليلية القبلية والتركيبية البعدية:
يذهب زيد للميكانيكي ويقول له: هل لك أن تنظر في السيارة؟ لقد أتيتك البارحة لتغيير الزيت والآن المكيف لا يعمل.
يلقي الميكانيكي نظرة ويرد: آه، هناك تماس كهربائي، عليك أن تبقي الأضواء تعمل.
زيد: ولكن ذلك يجعل المسجلة تعمل بأعلى صوت لسبب ما.
الميكانيكي: هممم! هذا لأن زر النافذة عالق، عليك أن تبقيها مفتوحة.
زيد: والمكيف؟
الميكانيكي: اسمع يا عزيزي، أقترح أن تستمتع لشيء هادئ، وإلا فإن الأمر سيكلفك كثيرًا.
عندما خرج الزبون وصوت المسجلة يصدح والأضواء تومض، قال الميكانيكي لأجيره: أرأيت كم أنا ميكانيكي بارع!
إن التصريح الأخير يفترض به أن يكون “تركيبي بعدي” يهدف لتوفير معلومات مبنية على مراقبة مهارة الميكانيكي وأمانته في العمل. لكن بالنسبة للميكانيكي هو تصريح “تحليلي قبلي” يشبه قول “الميكانيكي يصلح السيارات” وذلك لأنه مهما كان عذر السيارة ومهما أخطأ الميكانيكي وخرب فسيقول عن نفسه بأنه بارع.
قصة أخيرة: ساعة كانط
أعطى كانط أهمية قصوى للمنطق، لدرجة أنه لم يعتقد بضرورة التجربة الشخصية لحل مشاكل المعرفة. ولم يخرج كانط أبداً خارج مسقط رأسه في كونيجسبيرج وعاش حياة من العادات المنتظمة للغاية، مثل المشي اليومي بعد العشاء، ويقال أن مواطني كونيجسبيرج ضبطوا ساعاتهم وفقًا لموعد مشية كانط اليومي ذهابًا وإيابًا في نفس الشارع (الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم Philosophengang ، أو “ممشى الفيلسوف”) .
أقل شهرة (ربما لأنه قد لا يكون صحيحًا) هو أن قندلفت كنيسة كونيجسبيرج ضبط أيضًا الوقت على ساعة برج الكنيسة عن طريق متابعة نزهة كانط اليومية، وكان كانط بدوره يحدد موعد سيره عن طريق ساعة الكنيسة.
يعتقد كل من كانط والقندلفت بأنهما يكتسبان معلومات جديدة من خلال مراقبة سلوك الآخر. يعتقد كانط أنه من خلال مراقبة ساعة الكنيسة، فإنه يتعلم التوقيت الرسمي الألماني الرسمي الذي تم تحديده بدوره من خلال مراقبة دوران الأرض. يعتقد القندلفت أنه من خلال مراقبة مشية كانط اليومية، فإنه يتعلم التوقيت الألماني القياسي بسبب اعتقاده بدقة مواعيد كانط. في الواقع، كان كل منهما يصل ببساطة إلى استنتاج تحليلي، صحيح من حيث التعريف.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.