عندما ظهرت الصفحات العلمية العربية مرتبطة بأسماء بلدان معينة قامة قائمة بعض المنتقدين وبعض المنزعجين من هذه الشعبية الغير مسبوقة بدعوى أن العلم لا يعرف حدودًا ولا جنسيات. رغم تهويل الموضوع لكنه ليس أمرًا حديثًا أو من ابتداع هذه الصفحات والمواقع، فطالما ارتبطت المؤسسات العلمية في أسماءها ببلدان معينة مثل الجمعية الملكية البريطانية، أو المجلة العلمية المرموقةScientific America ، أو مركز الأبحاث الأوربية، أو الاتحاد البريطاني لعلم النفس…الخ. فهي ليست تفرقة لم يسبقهم بها أحد، ولا يعني محدودية الوصول للعلم- ناشونال جيوغرافيك التي يوحي اسمها باختصاصها بالقضايا الوطنية تصل لكل العالم، وجنسية المؤسسات العلمية مثل جنسية الشركات والأشخاص- كونك فرنسي أو أمريكي أو غيره هو حقيقة إخبارية وليس تحيزًا فكريًا. لكن المشكلة تأتي فيما بُني، لحاقًا بالموضة، على نفس الوزن.
عندما يقترن العلم، أو مصطلح الباحثون بدين ما أو، على الطرف الآخر، بالعلمانية فذلك يدل على وجود أيدلوجيا معينة تحكم البحث ولا تتركه مفتوحًا لجميع نتائجه. إن ذلك يعني أن أيدولوجيا معينة ستقف في طريق اعتبار بعض الحقائق العلمية إذا أتت ضد مبادئ هذه الأيدلوجيا.
كثيرا ما يقال إن العلم يجب أن يكون خاليا من الإيديولوجيا. يجب على العلماء البحث عن المعرفة المستقلة عن الانشغالات الاجتماعية السياسية السائدة، وعدم السماح للآراء السياسية أو الدينية أو غيرها بدخول عملهم. يعتقد العديد من العلماء أن النتيجة الطبيعية هي أنه عندما يواجه العلم تدخلًا سياسيًا، فإنه يتعرض للخطر، وربما بشكل مُهلك. لكن أيا من هذه الأشياء ليس صحيحًا بالضرورة.
وعدا عن الأنظمة الفكرية التي تأتي من خارج العلم لتؤثر عليه، فمصطلحات قوية مثل “أنا أصدق العلم” توحي بأن العلم ذاته يمكن أن يصبح أيدلوجيا قابلة للتصديق والإيمان بها. كل هذه الأمور سويًا، وهذا التهجم من البعض على الآخر بدعوى عدم الحيادة أو امتلاك أجندة مسبقة، تستدعي بعض البحث في العلاقة بين العلم والأيديولوجيا.
أين تبدأ الإيدلوجيا وأين ينتهي العلم؟
مثل العديد من القضايا في علم الاجتماع، فإن مصطلح الإيديولوجيا هو ما يعرف بـ “المفهوم المتنازع عليه”. وهذا يعني وجود تعريفات ومعاني مختلفة، من قبل منظرين مختلفين، تستخدم بطرق مختلفة. التعريف الشائع أن الإيدلوجيا هي: “مجموعة من الأفكار والمعتقدات حول تكوين العالم”.
يُرجع في هذا الشأن كثيرًا للفيلسوف البريطاني كارل بوبر، الذي يعتمد تمييزه بين العلم والأيدلوجيا (التي يسميها العلم الزائف) على “مبدأ الدحض”. بكل بساطة، يجادل بأنه إذا كانت وجهة النظر منفتحة لأن يتم دحضها أو “تزييفها” من قبل حقائق العالم، فهي علمية. إذا لم تكن منفتحة على دحضها من قبل حقائق العالم، فهي علم زائف أو أيديولوجية. على سبيل المثال، يمكن دحض الدعاء “لا شيء يتحرك أسرع من الضوء”، من خلال اكتشاف شيء في العالم الفعلي يسافر أسرع من الضوء. ولكن عبارة “في البدء خلق الله الأرض” غير منفتحة على الدحض بحقائق العالم فهي أيدلوجيا، وهناك عبارات لا تقبل الدحض أساسًا لأنها خارج حقائق العالم، مثل “الجنة في السماء” وهي أيضًا كسابقتها.
بعض العلوم الزائفة أو الإيديولوجيات التي تبدو، في ظاهرها، قادرة على تقبل حقائق العالم كدليل ضدها، تلجأ إلى تكتيك أكثر مراوغة. هذه هو الحال، كما يعتقد بوبر، مع الماركسية والتحليل النفسي. ما يعترض عليه هو أن كل من الماركسية والتحليل النفسي يسميان نفسيهما “علميين” بينما إجراءاتهما العلمية زائفة تمامًا. لأنه، على سبيل المثال، إذا قلت لماركسي: ” لقد انهارت الأنظمة الشيوعية في جميع أنحاء العالم وتبدو الرأسمالية العالمية أقوى من أي وقت مضى. ويزيف ذلك ادعاءك بأن الماركسية هي الحتمية التاريخية؟” يمكن للماركسي أن يجيب: “لا على الإطلاق. إنه مجرد تطور آخر في جدلية التاريخ المادية. سوف تنتصر الشيوعية في النهاية “. وهكذا في كل دليل مختلف نحاول ذكره على أنه دحض للماركسية، يقول بوبر إن الماركسي سيفنده دائمًا.
لذا، بالنسبة لبوبر، فإن علامة العلم الزائف أو الإيديولوجية هي أنها لن تسمح بدحضها بأي دليل. سوف تعيد دائمًا تفسير ما يُقترح كدليل ضدها من خلال تفسير تلك الأدلة لصالحها، كما هو الحال في المثال الماركسي المذكور أعلاه.
لكن المشكلة هي أن العلم يمكن أن يتصرف بنفس الطريقة التي يدعي بها بوبر أن الإيديولوجية تتصرف بها.
قد يتجاهل أنصار العلم الحالات الشاذة -الحقائق المربكة التي لا تتصرف كما تقول النظرية العلمية في حين يجب عليهم ذلك- أو قد يحاولون تفسيرها عن طريق ابتكار فرضيات مساعدة لمحاولة جعل الشذوذ متسقًا مع النظرية. بعبارة أخرى، قد يحاولون بالفعل إعادة تفسير الأدلة المخالفة لصالحهم. البعض يتهم أنصار نظرية التطور بفعل هذا. وكان الرد أنه من المعقول تمامًا القيام بذلك، خاصة إذا لم تكن هناك نظرية أفضل متاحة في الوقت الحالي وإذا كانت النظرية الحالية مثمرة في جوانب أخرى.
لكن ثمن الدفاع عن أي نظرية – علمية أم لا – ضد مجموعة متزايدة من الأدلة الواقعية التي يبدو أنها تلقي بظلال من الشك على صحتها هي أن نظريتك تصبح أكثر صعوبة للدفاع عنها، وأكثر تعقيدًا للعمل معها، وأقل وأكثر أقل إقناعا. لذلك يمكنك الدفاع عن أي نظرية إلى أجل غير مسمى، ولكن فقط بشكل أقل إقناعًا. وينطبق الشيء نفسه تمامًا على ما يسميه بوبر “العلم الزائف” كما ينطبق على ما يسميه بوبر “العلم”.

من جانب آخر يصف فيرابند- Feyerabend العلم بأنه في الأساس فوضوي، مهووس بأساطيره الخاصة، وبأنه يدعي الحق إلى حد يتجاوز قدرته الفعلية. كان ساخطًا بشكل خاص على المواقف المتعالية للعديد من العلماء تجاه التقاليد. على سبيل المثال، اعتقد أن الفودو هو شكل شرعي من أشكال التحقيق مثل فيزياء الجسيمات، ورفض المواقف السلبية للعلماء تجاه مثل هذه الظواهر مثل النخبوية أو العنصرية. في رأيه، أصبح العلم إيديولوجيا قمعية، على الرغم من أنه يمكن القول إنه بدأ كحركة تحررية. يعتقد فيرابند أنه يجب حماية المجتمع التعددي من أن يتأثر كثيرًا بالعلوم، تمامًا كما هو محمي من الأيديولوجيات الأخرى.
انطلاقاً من أن وجهات النظر العلمية لا تنشأ عن استخدام طريقة عالمية تضمن استنتاجات عالية الجودة، فقد اعتقد أنه لا يوجد مبرر لتقييم المطالبات العلمية على ادعاءات أيديولوجيات أخرى مثل الأديان. جادل فيرابند أيضًا بأن الإنجازات العلمية مثل هبوط القمر ليست سببًا مقنعًا لمنح العلم وضعًا خاصًا. في رأيه، ليس من العدل استخدام الافتراضات العلمية حول المشاكل التي تستحق حلها من أجل الحكم على جدارة الأيديولوجيات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، يتضمن نجاح العلماء تقليديًا عناصر غير علمية، مثل الإلهام من مصادر أسطورية أو دينية.
بناءً على هذه الحجج، دافع فيرابند عن فكرة فصل العلم عن الدولة بنفس الطريقة التي يتم بها فصل الدين عن الدولة في مجتمع علماني حديث (ضد المنهج. ص 160). تصور “مجتمع حر” حيث تتمتع جميع التقاليد بحقوق متساوية ووصول متساو إلى مراكز القوة” (العلم في مجتمع حر. ص 9). على سبيل المثال، ينبغي أن يكون الآباء قادرين على تحديد السياق الإيديولوجي لتعليم أطفالهم، بدلاً من أن يكون لديهم خيارات محدودة بسبب المعايير العلمية.
تتم مقارنة حالة الحقيقة العلمية مع حالة الحقيقة في أنواع أخرى من النشاط البشري، لأن العلم قادر على وصف الحقائق المادية ولكنه عاجز عن تفسير أسباب الأمور ونتائجها مثل لماذا يوجد الكون أساسًا أو ما هدف الحياة، ومن هنا آراء هيدغر ذات النمط الرومانسي بأن الشعر يمنحنا فهمًا أعمق للعالم من العلم.
معظم الدفاعات المعاصرة للواقعية العلمية ذات طبيعة عملية، تتبع الخطوط التي وضعها الفلاسفة مثل سي إس بيرس وكارل بوبر. وهي مبنية على حقيقة أن عمل القوانين العلمية وإمكانية تطبيقها في مختلف المجالات دليل قوي على أن النظريات العلمية التي تستند إليها صحيحة أو على الأقل تقترب أكثر من الحقيقة. إن ما يقصدونه بـ “الحقيقة” هنا هو حقيقة توافقية- أي أن نظرياتنا تتوافق مع حقيقة العالم. ذلك صحيح تمامًا ولكت يضيف البعض أن المفردات العلمية تعمل وتقدم “وصفًا دقيقًا للواقع” بالنسبة إلى غرض معين. قم بتغيير الأغراض البشرية وقم في نفس الوقت بتغيير فكرة “ما يعمل” ولن يصل العلم للحقيقة بالضرورة.
هذا ما يمكّن ريتشارد رورتي من القول بأن المفردات الأدبية تعمل لأغراض معينة بشكل أفضل من المفردات العلمية، وبالتالي، بالنسبة لهذه الأغراض، تقدم “وصفًا حقيقيًا للواقع”. وهو أيضًا ما يمكّن بول فيرابند من طرح البعض من مقترحاته الأكثر غرابة، مثل أنه يجب علينا أن نقرر ما إذا كانت نظرية التطور صحيحة أم خاطئة عن طريق ديمقراطية أغلبية الأصوات.
إذا تم تعريف الحقيقة على أنها ما يعمل بالنسبة للأغراض البشرية، فيجب أن تعتمد عبارة “الوصف الحقيقي للواقع” بشكل منطقي على العبارة “ما يعمل بشكل أفضل لغرض معين”. باختصار: “إن المفردات التي تعمل بشكل أفضل لغرض معين يمكن اعتبارها شرعيًا الوصف الحقيقي للواقع لهذا الغرض”. وكما يقترح فيرابند، أي الأغراض هي الأفضل، وبالتالي أي الأوصاف التي يمكن اعتبارها أكثر صدقًا، يجب أن تكون في المجتمع الحر مفتوحة للنقاش:
“إن المجتمع الحر لا يعترض على مثل هذا الموقف ولكنه لن يسمح له بأن يصبح إيديولوجية أساسية أيضًا”. (العلم في المجتمع الحر، ص31).
العلم والأخلاق
قد يبدو فصل العلم عن الأيدلوجيا الدينية شائكًا، بل وضروريًا أحياناً إذا أردنا أن نعمل على مبدأ الحياد، ولكن لو طبقنا ذلك على الأخلاق فسيظهر تعقيد الأمر أكثر.
غالبًا ما يجادل العلماء أنه لا يمكن توقع تدخلهم في إصدار الأحكام الأخلاقية والأخلاق السياسية بالإضافة إلى الأحكام الفنية. وكيف يمكن أن يتوقعوا طرق تطبيق عملهم أو أي غاية سيخدم، ناهيك عن ضمان متابعة الاستخدامات المفيدة فقط؟ إذا كانوا سيحاسبون على مثل هذه الطلبات، ألن يتم تقييد الأبحاث بشكل لا يمكن قياسه؟
في ضوء التطورات مثل الهندسة الوراثية وتكنولوجيا النانو، هناك وعي أكبر بكثير اليوم بأن التقنيات الجديدة تثير أسئلة مجتمعية وأخلاقية مهمة يجب مناقشتها داخل وخارج المجتمع العلمي بالتوازي مع تطورها التقني. ومع ذلك، لم يولد هذا بالضرورة استعداد العلماء للانخراط في هذه الأمور بخلاف دور تقديم المشورة التقنية. الرد المشترك هو الاعتراف بأن هذه أسئلة مهمة ولكن الإصرار على أنه يجب تركها لـ “الآخرين”، أو لـ “المجتمع”، ليقرر.
ومع ذلك، لعب مشروع مانهاتن وسباق التسلح النووي الذي تلاه دورًا كبيرًا في تعزيز الاعتراف بالمسؤولية الأوسع بين العلماء. لذلك، هناك العديد من الحلقات الأخرى منذ ذلك الحين، من بينها الخراب البيئي وتغير المناخ، والعلاقة بين التدخين والسرطان، والهندسة الوراثية، وتشرنوبيل، والإيدز، وبحوث الأجنة والبيولوجيا الاصطناعية. سيكون من الظلم أن نقول أن العلم يستمر في تجرده وانفصاله عن الأخلاق والسياسة.
إن تقييم المخاطر الصحية الموضوعية أمر واحد، على الرغم من أن هذا وحده صعب بما فيه الكفاية في مواجهة العواقب غير المعروفة وتقلبات إدراك المخاطر العامة. ولكن عندما يواجه العلم القيم الاجتماعية والدينية الراسخة، يكون من غير الواضح على الإطلاق أنه يمكن التوصل إلى توافق في الآراء، حتى عن طريق التسوية. يجب على المجتمع أن يجد طريقة ما لاستيعاب وجهات نظر مختلفة لا يمكن التوفيق بينها.
وطالما أننا ندعو لتحكم منظومة من الأخلاق عمل العلم، أيًا تكن هذه المنظومة، سواء دينية أو علمانية أو غيره، فذلك يعني وجود أيدلوجيا تشكل تعاملنا مع العلم.
يبدو الاستنتاج العام أن جميع أشكال المعرفة، بما في ذلك المعرفة العلمية، هي “أيديولوجية” بمعنى أنه لا يوجد جسم محايد وموضوعي للمعرفة لا يتأثر بالمفاهيم النسبية لغرض مجموعة من الباحثين، ومن الرائع أن يكون لدينا مؤسسات بحثية لا تقوم بالقفز للاستنتاجات أو تفسير الحقائق العلمية ولكن ذلك سيكون مستحيلاً طالما أننا نعيش في سياقات أيدولوجية، وفي ظل تطور العلم ودخوله في مجالات حياتية عميقة تدعو لتطبيق منظومات أخلاقية معه. لكن ما أوضحته هذه المقالة أنه رغم حتمية وجود الأيدلوجيا يجب ألا ندعها تصبح أساسية وبالتالي تُـشوه أو ترفض الحقائق العلمية، ولا أن تصبح إقصائية. يحدث ذلك عن طريق تقبل وجود وجهات نظر أخرى وإبقاء النقاش مفتوحًا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.