في كلّ مرّة نحاول أن نجرّب أمراً خارجاً عن المألوف نتفاجئ بكثرة الأعين المحدّقة بنا، وشدّة أمارات الاستغراب والدّهشة على الوجوه، وذلك حتّى قبل أن يعرفوا إن كان أمراً محموداً أم مذموماً، المهمّ أنّك خرجت عن المألوف، وجرّبت مالم يجرؤوا هم على تجربته، ولكن ما مردّ ذلك؟
لماذا هناك من يملك الشجاعة لتحمّل كلّ هذا الاستهجان؟
وهناك من يبقى سنيناً عالقاً في حالٍ لا تعجبه ولكنّه على الرّغم من هذا يبقى متمسّكاً بها؟
لعلّها روح المغامرة، الرّغبة في الثورة على كلّ ماهو متعارفٌ ومألوف، ربّما كنوعٍ من إثبات الذات، أو ربّما كنوعٍ من المخالفة والتّمرد فحسب، وعلى اختلاف الأسباب والدّوافع، ما يجمعهم جميعاً، أنّهم قرروا أن يملكوا زمام أنفسهم، قرروا أن يعتنقوا الحرّية …
لا شكّ أنّ الحرّية من أبرز القيم التي دافع عنها الانسان – وما زال يدافع -على مرّ التاريخ وعلى اختلاف الفئات المدَافعة، فالانطلاق الحر والعمل البعيد عن القيود والتفكير الخارج عن حدود العادات والأعراف، كلّ ذاك من أشكال الحرّية التي تأخذ بيد الإنسان نحو الابتكار والإبداع.
ولأنّ النّاس تهوى الطريق المألوف وتخشى كلّ مجهول، وتخاف الاعتراف بذلك أيضاً، فدائماً ما يُقابل من يحيد عن الطريق ويجرّب أن يخطّ طريقه بنفسه بالكثير من الاستغراب إن لم يصل الأمر للأذى والاتّهام، وذلك كلّه لمجرد أنّه اختار أن يكتشف طريق خلاصه لوحده، دون وصايةٍ من أحد و دون اتّباع طريقٍ ممهّد، ويعتبر الأنبياء والرّسل المثال الأوّل على ذلك، فلا تخلو سيرة رسول من معاداةٍ لقومه وخروجهم عليه، ولذلك كان لزاماً على كلّ من قرّر أن ينتهج هذا الطريق، أن يمتلك حداً أدنى من المعرفة والوعي والإدراك، وأن يكتسب من المهارات والقدرات ما يجعل منه قادراً على مواجهة الحياة والمرونة في فهم حقائقها بما يبعده عن التصلّب المقيت أو التّعصب القاتل.

أمّا تاريخيّاً، فلم تُعرف الحريّة بالمفهوم المتعارف عليه اليوم إلا على يد جان لوك الفيلسوف الانكليزي، الذي بلور المفهوم ليصبح أحد الشروط التاريخيّة لوجود الذات الإنسانية، وأحد أوّل الحقوق البشريّة.
و إذا تتبّعنا التّاريخ جيّداً نجد أنّ المفهوم قد عانى كثيراً حتى أصبح ما يعنيه اليوم، ففي العصور السّابقة كانت الكلمات تعرّف بضدها وحسب، وكذلك الحرية لم تكن سوى انعدام العبوديّة، أن تملك حق حياتك، أن لا تكون سلعةّ قابلةّ للبيع والشّراء، مهما كان أصلك أو جنسك أو لونك، وكون مفهوم العبوديّة أيضاً اختلف عمّا كانه، فنحن اليوم أمام حركاتٍ أخرى من الحرّية، ليست حرّية رقيق، لستَ تابعاً لسيّدٍ ما، إنّما تنوّعت وتشعّبت أشكالها، وغدت في هذا الزمن الماديّ تأخذ طرقاً لامباشرةٍ، فمن الممكن أن تكون مستعبَداً دون أن تدرك ذلك أو تعيَه، وخاصةً ونحن جميعاً نقع تحت ظلّ سيطرة الرأسماليّة.
لكنّ المطّلع على أحوال الناس على اتساع الكوكب، يرى أنّ كل التّقدم والديمقراطيّة الذي قد نراه في بقعةٍ ما من الأرض، من الممكن أن نجد ضدّه بل أكثر – من قمعٍ ولا إنسانيّة – في بقعةٍ مقابلة، نعم مع كل هذا التّطور هناك من ما زال يرزح تحت قمعٍ وظلمٍ واستبداد ولا يدركه حتّى، فكيف يمكن أن يطلب الحريّة من لا يدرك الحاجة إليها، من لا يشعر أصلاً أنه مستعبَد!
كم من البشر اليوم واقعين تحت ظلمٍ لا يدركون أنّه ظلم، يعيشون في عزلةٍ جعلت منهم لا يرون سوى ما يريهم إياه ولاة أمرهم، نقلت لنا إحدى هذه الصور “يونمي بارك” أحد أهمّ الناشطين العاملين في مجال حقوق الإنسان، الهاربة من كوريا الشمالية وهي ابنة عشر سنين، والتي قد خلّدت قصة هروبها ورحلتها نحو الخلاص والحرّية في كتاب “من أجل العيش – رحلتي إلى الحرّية” تتساءل بصوتٍ عالٍ على منصة TED – بعد كلّ ما عانته و كلّ ما وصلت إليه – و بصوت ملايين المضطهدين، الغير مدرك لمعنى الحرية، كيف له أن يطلبها؟
إذاً … ما الحرية التي حقاً ننشدها كجنس بشري؟
إنّها الحرّية القائمة على تحمّل المسؤوليّة، والاتّكال على النفس، القدرة على الوقوف بثبات والمواجهة، الحرّية التي دعا لها نيتشه فقيل عنه مجنون “الحرية هي الرغبة في أن نكون مسؤولين عن أنفسنا”.
وبالنظر لتاريخ الفكر العربي، فيعدّ الوعي الصوفيّ أكثر من عبّر عن الحرّية والتي أخذت شكل علاقة الشخص بنفسه، داخل الإطار الدّاخلي للإنسان، فالصوفيّ بحق هو من يملك زمام إرادته، القادر على التحكم بغرائزه وشهواته، ولذلك اعتبر الزهد أحد أهمّ مظاهر الصوفيّة، وممّا يُنقل على لسان أحد المتصوّفة –لا أدري مدى صحته – حينما سئل:
ماذا تريد؟
قال: أريد ألا أريد.
وحتّى مقامات التصوّف تعبّر بشدةٍ عن هذا الانعتاق والتوق للحرية، فمقام الصبر يليه مقام الرضا يجعل النّفس في تمرينٍ متكررٍ قادرة على التخلي عن نوازعها وتهذيب غرائزها فترضا بما تملك ومالا تملك، ويستوي عندها العطاء مع المنع والغنى مع الفقر.
إنّها الإرادة المتوّلدة عن التّخلي، فأيّ شيءٍ لا يمكنّنا تركه يعدّ سجناً، وكثيراً نحن من نحبس أنفسنا بكامل إرادتنا داخل أماكنٍ لا نشعر بالانتماء إليها، أعمّال لا تعبّر عنّا، وعلاقاتٍ لا تشبهنا، فنظلّ في بحثٍ دائمٍ عن الحرية، لندرك أنّها ليست إلا عين التخلي والاكتفاء بالذات…

يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.