لا يخفى على أحدٍ أنّ الذكاء من أكثر المفاهيم التي تناولها العديد من العلماء في البحث والدراسة، وعلى الرّغم من ذلك فإنّ المطّلع على التعاريف المختلفة يدرك المجال الواسع الذي تحدثت عنه ووصّفته، ممّا جعل من المفهوم مطاطيّاً لدرجةٍ مخيفة، ففي عام 1921م قامت إحدى مجلات علم النفس التربوي بسؤال 17 من العلماء الكبار عن تعريف مفهوم الذكاء، والنتيجة 14 تعريفاً مختلفاً، لم يستطع ثلاثة من العلماء الاتفاق على تعريفٍ واحدٍ مطلقاً، ولعلّ هذا يوضح لنا مدى تشعّب مفهوم الذكاء..
وبالنظر للعصر الحالي فعلى اختلاف السلبيات التي حملها لنا عصر التطور العلمي من غيابٍ للتفاعل الإنساني وسيطرة للتفاعل الالكتروني، ومن حلول مفاهيم جديدة على وعينا مكان مفاهيم قد أثبتت عدم فعاليّتها، يعدّ تشذيب مفهوم الذكاء من أكثر الأمور التي ربّما سيكتبها التاريخ لصالح العصور المتقدمة من التكنولوجيا، هذا المفهوم الذي لم يعد اليوم يحمل تلك القدسيّة التي حملها في العقود السابقة، ولربّما حلّ محلّه مفهومٌ كالإبداع أو المرونة أو القدرة على التكيّف.
ففي حين كان يقاس الذكاء تبعاً لشكل الجمجمة، ولاحقاً بات قائماً على الأذكى رياضيّاً أو لغويّاً، غدا التنافس اليوم على الأذكى في كلّ شيء منطقيّاً ولغوياً واجتماعيّاً وعاطفيّاً، إلى أن وصلنا لاختراع روبوت أذكى من البشر مع سيطرة عصر الذكاء الاصطناعي الذي يبدو أنّه سينحي العقل البشري جانباً ويستلم عنه القيادة.
وبلمحةٍ سريعة على تعامل العلماء والفلاسفة مع مفهوم الذكاء نجد أنّ تقديس المفهوم بينهم كان الأكثر شيوعاً، فأفلاطون على سبيل المثال كان يقيس ذكاءه بنفسه، أمّا عند الإغريق كان الأذكى هو الشخص المثالي البارع فيما يفعل، وعند الرومان كان الذكي هو الشجاع، وحصيلة الدراسات وجدت أنّ لا فارق في الذكاء بين الجنسين فالفرص متشابهة في الإبداع العقلي والفكري.
وأكاديمياً فأوّل اختبارٍ عقليٍ للذكاء كان في القرن التاسع عشر في فرنسا نشره ألفريد بينيه بالتعاون مع مساعده سيمون، مدفوعاً برغبته لفهم ذكاء ابنتيه مادلين وأليس، ولكن بعد شيوعه تمّ تطبيقه على طلاب المدارس بغية تحديد الطلاب المحتاجين لمساعدة خاصة في المناهج الدراسية ، الذي قد يدل أنّ الاختبار يستطيع تحديد التأخر العقلي أكثر من القدرات المتقدمة، وفي بريطانيا ظهرعالم النفس فرانسيس جالتون وهو بالمناسبة ابن عم داروين وأحد أهم عقول القرن التاسع عشر، والذي اعتقد أنّ الذكاء ينتقل من الأب لابنه ولذلك كان يتم البحث عن الأذكياء في أبناء القياديين والوجهاء وقد ساد هذا الاعتقاد فترةً طويلةً من الزمن فضلاً عن أنه كان يعتقد أيضاً أن مقياس IQ لا يكفي.
يرتبط مفهوم الذكاء بالعمر العقلي الذي ابتكره ألفريد بينيه القائم على مشاهدات عديدة من براعة فئة من الطلاب في حل المشكلات أمام عجز من يسبقونهم عمراً عن حلها، ومن هنا جاء التمييز بين العمر البيولوجي والعمر العقلي وتحديد المستوى الزمني المناسب لكل مهمة، ولاحقاً قام مقياس وكسلر بمحاولة تغطية جوانب القصور التي عانى منها مقياس ستانفورد-بينيه حتى عدّ من أهم الأدوات التي يتدرب عليها الطلاب في كليات علم النفس والتربية والإرشاد النفسي إلا أنّه كان يقيس قدرات الراشدين فقط.
والأمثلة التي توضح محدودية مقياس ال IQ كثيرة، فعلى الرغم من تمتع أشهر من قاموا بتغيير وجه التاريخ من علماء وأدباء ورؤوساء بمعدل ذكاء مرتفع إلا أنّ النسبة لا تكاد تختلف عمّن تمتعوا بمقياس ذكاء عادي أو منخفض، ففي الغرب أكثر المبدعين ينحدرون من أوساطٍ اجتماعيةٍ متوسطة ويشكلون نسبة تصل إلى 60% من مجمل عدد المبدعين وانحسار الطبقة المتوسطة في الدول النامية له تأثيرات كبيرة في انحسار الإبداع، وويليم شوكلي مخترع الترانزستور خيرُ مثالٍ على ذلك، إذ أنّ العلاقة أصلاً بين الذكاء والإبداع علاقة طردية غير عكسية كلمّا زاد الإبداع زاد الذكاء، لكنّ زيادة الذكاء لا تعني بالضرورة زيادة الإبداع.
بالنظر اليوم إلى الواقع بات الذكاء ذكاءاً تخصصياً، لم يعد محصوراً بالذكاء المنطقي أو القدرات الناتجة عن التحصيل العلمي ، بل امتدّ ليشمل الذكاء الاجتماعي والعاطفي والانفعالي، لم يعد صفة فكريّة فقط، إنّما صفة عاطفية واجتماعيّة، وهذا آخر ما توصل له العلم على يد هوارد غاردنر واضع كتاب الذكاءات المتعددة الذي حدّد 8 أنواع من الذكاءات، وأضاف إليهم سنة 1998 ذكاءاً تاسعاً عرف بالذكاء البيئي، فبرأيه المهندس القادر على الإتيان بتصماميم مبدعة ذكي، والمعالج النفسي القادر على الإنصات والتعاطف وتقديم الحلول ذكي، وكلّ من يقدم حلاً لمشكلة أو يبتكر شيئاً جديداً يملك قدراً لا بأس به من الذكاء، وعلى ذلك فمن المنطقي أنّ الذكي لغوياً مثلاً من الممكن أن يكون شاعراً او أديباً أو مترجماً مميزاً وفي الوقت نفسه يملك قدرات منطقية ورياضية محدودة.
إذاً، كان لمقياس الذكاء على مر التجارب والخبرات الكثير من الفروقات العنصرية، فبمجرد أن تختزل قدرات إنسان برقمٍ محدد نظرةٌ تملؤها السطحية والسذاجة، ولا تضع في الحسبان قدرات العقل البشري وتفرداته.

يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.