قامت مجموعة من المسيحيين السوريين بدراسة جادة للفلسفة والطب اليوناني في القرن الرابع. في نهاية القرن الخامس، أغلق الإمبراطور زينو مدرستهم بدعوى نشر البدع، فانتقلوا إلى بلاد فارس. بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس وسوريا، دخلوا في حماية أهل الذمة، وبين 750 و900 قام هؤلاء السوريون بترجمة أرسطو إلى العربية، وأتاحوا للعالم الإسلامي الأعمال العلمية والطبية لإقليدس وأرخميدس وأبقراط وجالينوس. في الوقت نفسه، استوردت الأعمال الرياضية والفلكية من الهند وتم اعتماد الأرقام “العربية”.
هنا ظهر العديد من المفكرين المسلمين المهتمين بالفلسفة والذين تأثروا بهذا الانفتاح المعرفي. أكثرهم شهرة وتأثيرًا في الفلسفة العالمية وليس العربية فقط، هو أبو علي الحسين ابن علي بن سينا. الذي يحكي عن نفسه:
“إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح من منصور. واشتغل بالتصرف وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية خرمبتن… وتزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها وسكن، وولدت منها بها، ثم ولدت أخي. ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن، ومعلم الأدب، وأكملت العشر من العم، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب، وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية. وقد سمع منهم ذكر النفس، والعقل على الوجه الي يقولونه ويعرفونه هم. وكذلك أخي، وكانوا ربما تذاكروا بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي، وابتدأوا يدعونني أيضًا إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة، وحساب الهند. وأخذ يوجهني إلى رجل يبيع البقل، ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه”.
قرأ ابن سينا أعمال أقليديس وحل مسائله وقرأ حول المنطق بنهم حتى أنه لم ينم ليلة واحدة كاملة كما يخبرنا، لكنه وجد صعوبةً في فهم فلسفة أرسطو لولا شروحات الفارابي. يقول: “وقرأت كتاب (ما بعد الطبيعة) فما كنت أفهم ما فيه، والتبس على غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي. وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه” ثم يروي كيف عثر عن طريق الصدفة على كتاب الفارابي أغراض كتاب ما بعد الطبيعة بثمن زهيد، “ورجعت إلى بيتي، وأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان محفوظًا لدي على ظهر القلب، وفرحت بذلك”.
ومن هنا، اعتمد نظام ابن سينا الميتافيزيقي على نظام أرسطو، لكنه عدّله بطرق كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأرسطية اللاحقة. تولى عقيدة المادة والشكل وشرحها بطريقته الخاصة. يدعي أرسطو أن جسم وعقل البشر (والحيوانات الأخرى) ليسا شيئين منفصلين، بل وحدة واحدة، وأن العقل هو “شكل” جسم الإنسان. على هذا النحو، فهو مسؤول عن جميع الأنشطة التي يمكن للإنسان القيام بها، بما في ذلك التفكير. لهذا السبب لا يبدو أن أرسطو يعتقد أنه من الممكن لأي شيء أن ينجو من موت الجسد. يقف ابن سينا على النقيض من ذلك، وهو واحد من أشهر “الثنائيين” في تاريخ الفلسفة، أي أنه يعتقد أن الجسد والعقل مادتان متمايزتان. سلفه العظيم في هذا الرأي كان أفلاطون، الذي اعتبر العقل شيئًا مميزًا مسجون في الجسد. اعتقد أفلاطون أنه عند الموت، سيتحرر العقل من سجنه، ليتم تجسيده لاحقًا في جسد آخر. في سعيه لإثبات الطبيعة المنقسمة للعقل والجسد، ابتكر ابن سينا تجربة فكرية تُعرف باسم “الرجل الطائر” أو الرجل المعلق في الهواء. تظهر هذه التجربة في رسالته عن النفس من كتاب الشفاء ويهدف إلى تجريد أي معرفة يمكن دحضها، وتركنا فقط مع الحقائق المطلقة. وتبشر الرسالة بشكل ملحوظ بعمل ديكارت، الثنائي الآخر الشهير من القرن السابع عشر، الذي قرر أيضًا عدم تصديق أي شيء على الإطلاق باستثناء ما يمكن أن يعرفه هو على وجه اليقين. يريد كل من ابن سينا وديكارت إثبات أن العقل أو الذات موجودة لأنها تعرف أنها موجودة؛ وأن العقل يختلف عن جسم الإنسان.
في تجربة الرجل الطائر، يريد ابن سينا فحص ما يمكننا معرفته إذا اختفت حواسنا تمامًا، ولا يمكننا الاعتماد عليهم للحصول على المعلومات. يسألنا كل منا أن يتخيل أنه أتى للتو للوجود، لكن مع كل ذكائنا الطبيعي. لنفترض أيضًا أننا معصوبو العينين وأننا عائمون في الهواء، وأطرافنا مفصولة عن بعضها البعض، لذا لا يمكننا لمس أي شيء. لنفترض أننا تمامًا من دون أي أحاسيس. ومع ذلك، سنكون على يقين من أننا أنفسنا موجودون.
ولكن ما هذه النفس التي هي “أنا”؟ لا يمكن أن يكون أي جزء من أجزاء جسدي، لأنني لا أحس بوجود أي جزء. النفس التي أؤكد أنها موجودة لا طول لها أو عرض أو عمق. ليس لها امتداد، أو جسدية. وإذا استطعت أن أتخيل قدمًا، على سبيل المثال، لن أعتقد أنها تنتمي لهذه الذات التي أعرف أنها موجودة. ويترتب على ذلك أن الذات البشرية – ما أنا – تختلف عن جسدي أو أي شيء مادي. يقول ابن سينا أن تجربة الرجل الطائر هي وسيلة لتنبيه وتذكير الذات بوجود العقل كشيء آخر غير الجسم ومميز عنه. لدى ابن سينا أيضًا طرقًا أخرى لإظهار أن العقل لا يمكن أن يكون شيئًا ماديًا. يعتمد معظمها على حقيقة أن نوع المعرفة الفكرية التي يمكن للعقل استيعابها لا يمكن احتواؤها بأي مادة. من السهل أن نرى كيف تتلاءم أجزاء الأشياء المادية ذات الشكل مع أجزاء الجهاز الحسي المادي، على شكل: صورة الجدار التي أراها ممتدة فوق عدسة عيني، كل جزء من أجزائها يتوافق مع جزء العدسة. لكن العقل ليس عضو حاسة؛ ما يدركه هو تعريفات، مثل “الإنسان حيوان عقلاني بشري”. يجب استيعاب أجزاء هذه العبارة مرة واحدة معًا. لذلك لا يمكن للعقل أن يكون بأي شكل من الأشكال مثل أو جزء من الجسد.
يذهب ابن سينا إلى استنتاج أن العقل لا يفنى عندما يموت الجسد، وأنه خالد. وبطبيعة الحال لم يجد ذلك صدىً جيد لدى علماء الدين المسلمين. وتعرض ابن سينا للهجوم في القرن الثاني عشر من العديد من العلماء ليس أقلهم الإمام الغزالي. ولكن في القرن نفسه، تُرجم عمل ابن سينا أيضًا إلى اللاتينية، وأصبحت ازدواجيته شائعة بين الفلاسفة واللاهوتيين المسيحيين. لقد أحبوا الطريقة التي جعلتها تفسيراته لنصوص أرسطو متوافقة بسهولة مع فكرة الروح الخالدة. ومن هنا وجدت فلسفة ابن سينا شعبية في الغرب أكثر من العالم الإسلامي.
اعتراض قوي جدًا على ازدواجية ابن سينا -وديكارت لاحقًا- هو الحجة التي يستخدمها الأكويني. يقول أن الذات التي تفكر هي نفسها التي تشعر بالأحاسيس في الجسد. على سبيل المثال، لا ألاحظ فقط وجود ألم في ساقي، بالطريقة التي قد يلاحظ بها بحار حفرة في سفينته. الألم ينتمي إلي بقدر ما أفكر في الفلسفة، أو ما قد يكون لدي لتناول طعام الغداء. يرفض معظم الفلاسفة المعاصرين ازدواجية العقل والجسد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى زيادة المعرفة العلمية للدماغ. كان ابن سينا وديكارت مهتمين جدًا بعلم وظائف الأعضاء وأنتجوا حسابات علمية لأنشطة مثل الحركة والإحساس. لكن عملية التفكير العقلاني لم يكن بالإمكان تفسيرها بالأدوات العلمية لعصرهما. ينقسم الفلاسفة اليوم بين عدد صغير من الثنائيين، وعدد أكبر من المفكرين الذين يقولون أن العقل هو مجرد دماغ، والأغلبية، الذين يوافقون على أن التفكير هو نتيجة النشاط المادي للدماغ، ولكن لا يزالون يصرون على وجود التمييز بين الحالات المادية للدماغ (المادة الرمادية، والخلايا العصبية، وما إلى ذلك)، والتفكير الناشئ عنها. لا يزال العديد من الفلاسفة، وخاصة المفكرين الأوروبيين القاريين، يقبلون نتائج تجربة الفكر ابن سينا بطريقة مركزية واحدة. إنها تظهر، كما يقولون، أن لكل منا رؤية من منظور الشخص الأول للعالم (“الأنا”) لا يمكن استيعابها من خلال النظرة الموضوعية للنظريات العلمية.
في نظرية المعرفة، طور ابن سينا فكرة أن البشر يولدون بدون حبرة عقلية فطرية أو مسبقة، مما أثر بقوة على التجريبيين اللاحقين مثل جون لوك، ونقاش الطبيعة مقابل التنشئة في الفلسفة الحديثة وعلم النفس. طور نظرية المعرفة على أساس أربع كليات: الإدراك الحسي، والتذكر، والخيال والتقدير. كما كان أول من وصف طرق التوافق والاختلاف والتغير المصاحب التي تعتبر حاسمة للمنطق الاستقرائي والمنهج العلمي، والتي كانت ضرورية للمنهجية العلمية اللاحقة.
بالإضافة لعمله المهم والمؤثر في الفلسفة، طور ابن سينا نظامًا طبيًا يجمع بين تجربته الشخصية مع تجربة الطب الإسلامي، والنظام الطبي اليوناني لأبقراط (460 – 370 قبل الميلاد) وجالينوس (129-200 ميلادي)، وبلاد ما بين النهرين والطب الهندي. ينسب له على وجه الخصوص: 1) إدخال التجريب المنتظم والقياس الكمي في دراسة علم وظائف الأعضاء؛ 2) اكتشاف الطبيعة المعدية للأمراض وإدخال الحجر الصحي للحد من انتشار الأمراض المعدية؛ 3)إدخال الطب التجريبي ووضع قواعد ومبادئ لاختبار فعالية الأدوية (التي لا تزال تشكل أساس علم الصيدلة السريرية والتجارب السريرية الحديثة)؛ 4) اكتشاف مفهوم المتلازمات 5) تحديد أهمية علم التغذية وتأثير المناخ والبيئة على الصحة؛ 6) ريادة العلاج بالروائح العطرية؛ 7)توقع وجود كائنات دقيقة 8) العمل المبكر في علم النفس والطب النفسي العصبي والفيزيولوجيا النفسية (وصف لأول مرة العديد من الحالات النفسية العصبية مثل الهلوسة والأرق والهوس والكابوس والكآبة والخرف والصرع والشلل والسكتة الدماغية والدوار).
في العلوم الفيزيائية، يعتبر والد المفهوم الأساسي للزخم (جزء من نظريته المتقنة للحركة)، وكان أول من استخدم مقياس حرارة الهواء لقياس درجة حرارة الهواء في التجارب العلمية. كان أول من نجح في تصنيف الآلات البسيطة ومجموعاتها. واعتبر أن سرعة الضوء محدودة، على أساس أن إدراك الضوء يرجع إلى انبعاث نوع من الجسيمات، وهي فكرة شديدة الوعي. وفي علوم الأرض، كانت فرضياته حول الأسباب الجيولوجية للجبال قريبة جدًا من الحقيقة قبل عدة قرون من إثباتها.
توفي ابن سينا نتيجة مرض ألم به وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، ورصد سيرته الذاتية أقرب المقربين إليه تلميذه الطلعة أبو عبيد الجوزجاني الذي كان لا يفارقه.