بعد بضعة أشهر من زمالة ما بعد الدكتوراه المريحة في جامعة برينستون، حيث كانت الجدران بلون سمك السلمون الأصفر المريح وكان السلمون المسلوق عنصرًا أساسيًا في وجبة الغداء، اتضح لي أنني يمكن أن أُعتبر بشكل معقول حقيرًا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تخطر ببالي الفكرة: في النهاية، أنا من النوع البريطاني الذي يصر على الفرق بين الحمار، والحقير. لكن في هذه المناسبة، لم يكن الدافع وراء تفكيري هو النظر في المرآة أو سماع صوتي ولكن من خلال تجربة كوني فيلسوفًا في بيئة غير فلسفية. وصف نفسك بالفيلسوف يجعلك تبدو غريبًا بعض الشيء، لكن الحقيقة تظل أنني قضيت معظم حياتي المهنية في دراسة ومناقشة وكتابة وتدريس الفلسفة – وهذا، كما أعتقد، جعلني أبدو كحقير حقيقي.
في كل يوم جمعة، استضافت جمعية الزملاء سلسلة عروض لباحثي ما بعد الدكتوراة وكبار الأساتذة، والتي كانت بمثابة غداء فاخر. كان الحضور إلزاميًا، وحُظرت الإلكترونيات، وكانت هناك سياسة صارمة تتمثل في سؤال واحد لكل شخص دون إسهاب. كانت الفكرة هي خلق بيئة داعمة حيث يمكن للعلماء من مختلف التخصصات في العلوم والإنسانيات- كانت الغالبية العظمى من المؤرخين- أن يساعدوا بعضهم البعض في أبحاثهم. بشكل عام، اعتبرت سلطة مقدم العرض فيما يتعلق بالموضوع أمرًا مفروغًا منه، أو على الأقل لم يتم التشكيك فيها بجدية.
في أحد الأيام، كان هناك عرض تقديمي من قبل عالم آثار لتحليل الاكتشافات من الفترة الرومانية في شمال إفريقيا. لقد كان واحدًا من هؤلاء الكلاسيكيين اللطيفين الذين يبدو رصيدهم اللامتناهي من الحماس محببًا ومعديًا، وافترضَ بمرح أن قطعة حجرية تم اكتشافها مؤخرًا ربما تم استخدامها كجزء من طقوس قبلية تهدف إلى استدعاء المطر عن طريق بعض التعاويذ. قال في الخطاب إن الحجر كان تقنية القبيلة لجلب المطر، وكان التعويذة أداءً بالمعنى الذي وضعه الفيلسوف جيه إل أوستن.
غرقت أذناي في إساءة استخدامه لمفهوم الفلسفة. كانت ملاحظة أوستن أنه في ظروف معينة يكون مجرد قول شيء ما كافيًا لتحقيقه: عندما يقول المسؤول المناسب “أعلنكما زوجًا وزوجة”، هناك اتفاقيات مسبقة تجعل الزوجين متزوجان الآن، دون الحاجة إلى إجراء تجارب لتأكيد نجاح أو موثوقية الإجراء. مهما كانت نية القبيلة في العرض التقديمي الذي قدمه عالم الآثار، بدا لي أن أقوالهم لم تكن أدائية بهذا المعنى. ولم يكن حجرهم قطعة تقنية، مهما كانت بدائية. لكي يتم اعتبار عنصر ما على أنه تقنية، يجب أن يكون نوع الشيء الذي تكون فعاليته موضع تساؤل بطبيعته، بحيث يميل مستخدموه للبحث عن تحسينات إذا لم يبدوا أنه يعمل – وتعاويذ الطقوس ليست كذلك.
عندما أشرت إلى ذلك، أجرى زميلي مقارنة بين استخدام القبيلة للحجر وميلنا للضغط على زر “إغلاق الباب” في المصعد على الرغم من أنه (يزعم) غير ذي تأثير- تمامًا كما يظل الزر قطعة للتكنولوجيا، فكذلك حجر القبيلة. “ولكن إذا لم يكن الزر متصلاً فعليًا بأي شيء، فمن المؤكد أننا مخطئون في الضغط عليه؟” انفجرت في حماستي. “وإذا اكتشفنا أنه ليس لها أي تأثير فعلينا تغيير سلوكنا، أليس كذلك؟”
كتب الفيلسوف آرون جيمس أن الحقير هو شخص “يسمح لنفسه بالاستمتاع بمزايا خاصة في العلاقات الاجتماعية من خلال إحساس راسخ بالاستحقاق يحصنه ضد شكاوى الآخرين”. في الطرف الآخر من الطيف، يوجد الشخص المتعاون تمامًا الذي يعترف بالآخرين على أنهم مساوون له وبالتالي يتصرف باحترام. من وجهة نظري، كنت أحترم عالم الآثار: بدا لي أن عدم الاحترام الحقيقي يكمن في افتراض أن مُحادثك يحتاج للتعامل معه كالأطفال. وإذا كنت قد انتهكت قاعدة عدم الإسهاب، فذلك يرجع إلى فشل في ضبط النفس بدلاً من الشعور الراسخ بالاستحقاق: وهنا تبدأ المتعة، فقد أحسست برغبة بالصراخ. ومع ذلك، عند النظر في جميع أنحاء الغرفة، كان من الواضح أنني قد خربت الحفل. لقد تحدثت بعشوائية، ولكن الأهم من ذلك أنني كشفت عن نفسي كنوع من الأشخاص المستعدين لإحراج زميل لإثارة نقطة تافهة.
لم يكن هذا بأي حال من الأحوال حادثًا منفردًا: كل بضعة أسابيع أجد نفسي أثير الدهشة من خلال طرح أسئلة متشككة من نوع أو آخر. بدأت في بذل جهد واعي لتقييد الطريقة التي عبرت بها عن نفسي، وأبدأ كل شيء بالثناء والاعتراف بجهلي حيثما أمكن، ولكن عندما خرجت الكلمات، كان لا يزال لدي شعور بأنني أبدو متعجرفًا ومتغطرسًا، كما لو كان أفضل ما أستطيع إظهاره هو العدوان. يبدو أن الطريقة الوحيدة لتجنب الظهور كحقير هي التزام الصمت- ولم أكن متأكدًا من أن ذلك سينجح. لأنه كان يتضح لي ببطء أن عيون الآخرين ربما كانت تراني على ما كنت عليه حقًا: إذا بدت مثل بطة، سبحت مثل بطة وأخرجت صوتًا مثل بطة، فعلى الأغلب أنها بطة.
***
أحد المعايير التي تحكم المحادثة العادية هو أن المعارضة كثيرًا تعني أن تكون غير مقبول. مثلما يميل الأفراد الأكفاء اجتماعيًا إلى تشجيع كل من يتحدث بالإيماء أو إعطاء إشارات إيجابية أخرى، فإنهم يميلون أيضًا إلى الاتفاق مع معظم ما يقال ما لم يكن هناك شيء مهم حقًا على المحك. إذا قال شخص غريب إن الأيام القليلة الماضية كانت قاسية بسبب الأمطار، فقد يقترح المتحدث اللبق وجهة نظر بديلة (“سيجعلنا ذلك نقدر عطلة نهاية الأسبوع أكثر!”) ولكن من غير المرجح أن يعترض على الاقتراح بالأكمل (“في الواقع أنت مخطئ: كان هناك الكثير من الغيوم ولكن لم يكن هناك الكثير من المطر. غالبًا ما يرتكب الناس هذا الخطأ.”) الاتفاق هو وسيلة للحفاظ على الود بين الناس، لذلك عليك أن تزن أهمية الحقيقة مقابل أهمية هذا الود. غالبًا ما تكون الروابط بين الأصدقاء قوية بما يكفي لتحمل الكثير من الخلافات، ولكن قد يظل من الضروري تجنب موضوعات معينة، مثل السياسة أو الدين أو أخلاقيات تناول اللحوم، من أجل التوافق.
تكمن مشكلة الفلاسفة أنهم يجدون المتعة في الاختلاف. جزء من متعة الفلسفة، بالنسبة لأولئك تذوقوا الأمر، هو الحماس والاندفاع في الجدل؛ بالنسبة للشخص الذي يقترح القضية، يكمن التشويق في محاولة التعبير عن نفسك ومعرفة أن خطوة في الاتجاه الخاطئ يمكن أن تسبب لك زلة؛ وبالنسبة للمستجيب عن القضية، يكمن التشويق في محاولة تكريس هندسة الجدال لايجاد ثغرة في الدرع. من حيث المبدأ، لا يوجد شيء شخصي في هذا الأمر، تمامًا كما لا يوجد شيء شخصي في محاولة استغلال نقطة ضعف في لكمة شخص ما. في الممارسة العملية، تميل الأشياء إلى أن تكون أكثر تعقيدًا. لنأخذ مثالًا واضحًا، غالبًا ما يختبر الفلاسفة حجة ما لمعرفة ما إذا كانت تتضمن شيئًا سخيفًا أو ما إذا كانت تستند إلى افتراضات. لكن المسافة القصيرة من وصف حجة شخص ما بأنها سخيفة إلى السخرية منه- وفي معظم السياقات، حتى التساؤل عما إذا كانت وجهة نظر شخص ما قد توحي بشيء مثير للسخرية هو بالفعل انتهاك للثقة والاحترام المتبادل. إن الادعاء بأن هذه مجرد طريقة لخدمة الشخص الآخر هو المخاطرة بأن يُنظر إليك على أنه ما يسميه جيمس بالحقير “المتعجرف”، الشخص الذي يستذرع بالأسباب الأخلاقية من أجل تعزيز سلطته. ولكنك تخاطر أيضًا بأن تكون واحدًا بمقدار ما تستمتع بعملية يراها شخص آخر مهينة.
هذا سبب أهمية السياق. الفصول الدراسية والمؤتمرات الخاصة بالفلسفة هي مساحات خاصة مصممة للسماح بحدوث الخلاف المستمر على خلفية من الاحترام المتبادل. تميل فترة الأسئلة بعد الخطب، على سبيل المثال، إلى التنظيم بحيث يصعب على المتحدث تفادي الأسئلة بأكبر قدر ممكن: عادةً ما يُسمح للجميع بسؤال واحد على الأقل، وغالبًا ما يتم تشجيع الآخرين على المشاركة. بالطبع، في الواقع، بعض الناس مهذبون للغاية والبعض الآخر عدواني للغاية. إذا فشلت في التعبير عن شكوكك بشأن موقف المحاور الخاص بك، أو إذا افترضت أن سبب عدم اقتناعك هو أنك لست ذكيًا بما يكفي لفهم ما يقوله، أو إذا كنت تستهل كل ملاحظاتك بالاعتراض على الحجة التي توشك على طرحها، من المحتمل أن تعتبر مهذبًا بشكل مفرط بالنسبة للمعايير الاجتماعية للفلسفة. من ناحية أخرى، إذا أخطأت عن عمد في وصف موقف المحاور، أو ملاحقته بلا رحمة على الرغم من وجود فجوة في القدرة أو الخبرة، أو انحرفت باستمرار عن المحادثة نحو هوايتك الخاصة، فإن احتمالات أن تعتبر حقيرًا كبيرة. لكن طبيعة المسعى الجماعي هي أن الفلسفة كنظام من المرجح أن تتمتع بدرجة عالية من التسامح مع أولئك الذين هم حقراء حتى بالنسبة لمعاييرها الخاصة: إذا كنت أحد هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من هوس تحطيم آمال الآخرين فقد تكون معتلًا اجتماعيًا، ولكن بشكل متوازن، ربما تساعد الآخرين على تحسين حججهم.
مثلما توجد مساحات مخصصة للجدالات الحماسية، فهناك مساحات من الواضح أنها غير مناسبة- اجتماعات كويكر، على سبيل المثال، أو منح جوائز المدرسة. في كثير من الأحيان، على الرغم من ذلك، لا يوجد فرق واضح بين الفضاءات الفلسفية وغير الفلسفية. لا يقضي الأشخاص الذين ليسوا من علماء الفيزياء الفلكية عادةً أمسياتهم في الجدل حول المادة المظلمة أو نظرية الأوتار، ولكن على مستوى ما، يتجادل الجميع حول ما يجب تصديقه وما يجب فعله. وعندما تأخذ محادثة عادية منعطفًا فلسفيًا، تصبح مسألة أن يبدو الفيلسوف وكأنه كائن طبيعي أمرًا حرجًا. عليك أن تتخلص من العبارات المحورة التي أصبحت عادة، وخاصة العبارات المنمقة مثل “في ضوء عبارتك” وعليك أيضًا التوقف عن التعامل مع كل شيء على أنه “مقلق” (“أنا قلق من أن هذا قد يفتح لك اعتراضًا ثانيًا “أو” هذا يذكرني بقلق هيوم بشأن السببية “). لكن هذه التعديلات لا تُقارن بتعلم الأوقات التي يكون فيها التفكير الفلسفي مسموحًا به تمامًا أوغير مرغوب فيه تمامًا. تدربك الفلسفة على افتراض أن الاستماع الحقيقي، والمحادثة الحقيقية للغاية، تتضمن مساعدة الناس على توضيح أفكارهم، وبينما قد يكون هذا صحيحًا في بعض السياقات، يمكن أن يكون له أيضًا تأثير تحويل العفوية لإسلوب رسمي متخشب. “أعلم أنك مستاء، لكنك قلت ثلاثة أشياء مختلفة متناقضة مع بعضها البعض” ليست دائمًا الطريقة الأكثر فائدة للرد على ضائقة أحد أفراد أسرتك، كما اكتشفتُ مرارًا وتكرارًا- لكن العادات القديمة لا تموت بسهولة.
***
إن ولع الفيلسوف بالجدل ليس مجرد عادة، بالطبع، أو متعة خاصة – إنه يرتكز على مفهوم الحياة الجيدة. قيادة حياة نشطة، بدلاً من مجرد عيش حياة، يتطلب اختيار ما يجب متابعته وكيفية متابعته، وهذا بدوره يتطلب تحديد ما يجب أن نقدره. ولكن كما جادل جون ستيوارت ميل، فإن أولئك الذين لم “يلقوا بأنفسهم أبدًا في الموقف العقلي لأولئك الذين يفكرون بشكل مختلف … لا يعرفون، بأي معنى مناسب للكلمة، العقيدة التي يتبنونها”. يبدو من الطبيعي أن نستنتج أن الدور الاجتماعي للفلاسفة هو مساعدة الناس على التفكير في الأمور من خلال مواجهتهم بحجج مضادة لآرائهم الحالية. ولكن نظرًا لعدم وجود طريقة لفعل ذلك في سياق غير فلسفي دون الظهور بمظهر الحقير، فلا توجد طريقة للفيلسوف ليكون مواطنًا صالحًا دون أن يكون لديه الشجاعة ليبدو كشخص سيئ. وهو ما يقودنا، بشكل مألوف، إلى شخصية سقراط، الذي أدخل العقل الفلسفي في الجسد السياسي الأثيني وحُكم عليه بالإعدام بسبب ذلك.
كتبت راشيل بارني في مقالها الرائع الساخر من الأرسطية، “عن الترول”: “إن أنماط الترول كثيرة”. تشمل الأساليب المعروفة التعامل مع المشكلات الصغيرة كما لو كانت كبيرة، والتنازع حول ما يتفق الجميع على حقيقته، وانتقاد ما يراه الجميع مثيرًا للإعجاب، وإخفاء العداء بادعاءات الصداقة. إذا كان هذا يبدو وكأنه نوع من الأشياء التي قام بها سقراط، فهذا ليس من قبيل الصدفة- لأنه مثل سقراط، يدعي الترول أنه “ثرثار ولكن مفيد، وفي غياب وجوده لإشعال الإثارة ستصبح الأمور مملة”. يقول بارني إن الفارق هو أنه بينما قد يكون سقراط قد أزعج الناس، لم يكن هذا هدفه أبدًا. لقد أراد ببساطة إقناع زملائه الأثينيين بأنهم يفتقرون إلى الحكمة وأنهم بحاجة إلى رعاية أرواحهم. على النقيض من ذلك، يهدف الترول عن قصد لتوليد “الارتباك والصراع في مجتمع متوافق حقًا”، سواء للتسلية أو للربح أو لتحقيق مكاسب حزبية. بعبارة أخرى، كان سقراط فيلسوفًا؛ الترول هو مجرد حقير.
ومع ذلك، من المؤكد أن هناك شعورًا كان سقراط يحاول عبره إثارة الارتباك والصراع بين الأثينيين (وبالتالي، من منظور معين، “إفساد الشباب”). في النهاية، الخلاف ليس عرضيًا في الفلسفة: عندما يجبر الناس على التفكير بجدية في حجة ما، فإنهم يميلون إلى إدراك أنهم يختلفون مع بعضهم البعض أكثر بكثير مما كانوا يعتقدون. كما أنه لا ينبغي دائمًا الأسف على تحطم الإجماع من منظور سياسي. في رسالته من سجن برمنغهام، الموجهة إلى رجال الدين البيض الذين طلبوا منه الحد من الصراع الاجتماعي من خلال قصر معركته من أجل الحقوق المدنية على المحاكم، استدعى مارتن لوثر كينغ الابن سقراط لدعم حجته بأن “التوتر غير العنيف البناء … ضروري للنمو “. كتب: “تمامًا كما شعر سقراط أنه من الضروري خلق توتر في العقل حتى يتمكن الأفراد من الارتقاء من عبودية الأساطير وأنصاف الحقائق إلى عالم غير مقيد من التحليل الإبداعي والتقييم الموضوعي، لذلك يجب أن نرى الحاجة إلى وجود ثرثارين لإحداث نوع من التوتر في المجتمع من شأنه أن يساعد الرجال على الارتقاء من الأعماق المظلمة للتحيز والعنصرية إلى أعلى المستويات المهيبة للتفاهم والأخوة “.
يشير تشبيه كينج إلى أن الفيلسوف والناشط يشتركان في مأزق مشترك، على الأقل إلى حد ما: كلاهما على استعداد لتعطيل التقاليد الاجتماعية وإحراج الآخرين باسم قضية أسمى يمجدونها، وبالتالي كلاهما يخاطر بالنظر إليه على انه حقير، بل ذلك ما يجري في الواقع. ادعى هنري ديفيد ثورو -وهو مفضل لدى كينغز وكذلك ناشط فلسفي مثله- أن المواطن لا مبرر له “ليسلم ضميره” للقوانين والأعراف التي يختلف معها. وكتب في مقالته بعنوان “العصيان المدني”: “لن يترك الرجل الحكيم الحق في رحمة الصدفة، ولا يرغب في أن ينتصر بقوة الأغلبية. الالتزام الوحيد الذي له الحق في تحمله هو أن يفعل في أي وقت ما يعتقد أنه صحيح.” بعد فوات الأوان، من السهل الإعجاب ببطولة ثورو -فقد كان يرفض دفع الضرائب إلى حكومة تتسامح مع العبودية- ولكن في ذلك الوقت كان يُنظر إليه عمومًا على أنه لا يطاق: في جنازته وصفه إيمرسون بأنه رجل لم يهتم كثيرًا “بخيبة أمل عائلته وأصدقائه الطبيعي به” – وهذا هو، الحقير.
إذاً ما العمل؟ كيف لنا أن نعرف متى تتطلب منا المواطنة الصالحة الاحتجاج على التقاليد، أو إغلاق أفواهنا ومسايرتها؟ قدم كانط حلاً واحدًا: رسم حدود صارمة بين النقاش الفلسفي والمواطنة المسؤولة، حيث تم عزل الأولى في مساحات محددة بوضوح حيث لا يمكنها تقويض الثانية. ستذهل هذه الفكرة الكثيرين على أنها متطرفة- إذا كُنت تمنع الفلاسفة من إزعاج الحياة الاجتماعية، فإنك تحرمهم أيضًا من أي فرصة لتحسينها. لكن قد تبدو النسخة المخففة أكثر جاذبية: حيث يكون موضوع معين محفوفًا بالمخاطر بشكل خاص، يمكننا أولاً معالجته في المساحات التي تم إنشاؤها عمداً كمساحات آمنة للمناقشة الحرة، مثل الفصول الدراسية بالجامعات أو المجلات الأكاديمية، وبعد ذلك فقط نحاول لسد الفجوة بين السياقات الآمنة والمحفوفة بالمخاطر من خلال الكتب التجارية ومقالات الرأي والندوات والمحادثات العامة والظهور الإذاعي وما إلى ذلك.
يتوافق هذا مع الفكرة الشائعة القائلة بأن الطريق أمام الأكاديميين للمساهمة في المحادثة العامة هو ترجمة عملهم إلى مصطلح شائع. تكمن مشكلة هذه الصورة في أنها تنطوي حتماً على فجوة بين المثقفين والآخرين، والحالة النموذجية هي TED Talk، حيث يتنازل الخبراء لإبلاغنا بآخر النتائج من جناح معين في مجمع البرج العاجي بينما ننظر بإعجاب منذهل، ممتن للتفكير العميق الذي قام به هؤلاء العمالقة نيابة عنا. من الواضح أن هذا يبدو مناقضًا للمثال الفلسفي المتمثل في التفكير في الأشياء من خلال أنفسنا. علاوة على ذلك، فإن الصورة كاملة ترتكز على خيال يتعلق بالحياة الفكرية داخل البرج العاجي. يعرف أي شخص يعمل في الأوساط الأكاديمية جيدًا أن الفصول الدراسية والمجلات لا تزال تتخللها مطالب المواطنة المسؤولة – لدرجة أنه في الواقع، يمكن أن يتطلب الأمر شجاعة أكبر بكثير للتعبير عن وجهات نظر معينة في سياق أكاديمي مما هو عليه في العالم الأوسع.
البديل هو النهج السقراطي الذي يساهم فيه الفلاسفة في الحياة العامة من خلال صياغة نموذج التساؤل الجاد عن الذات والآخرين الذي قد يكون ضروريًا في بعض الأحيان للمواطنة الصالحة. تعامل سقراط مع التساؤل الفلسفي باعتباره جزءًا طبيعيًا من الحياة، شيء يمكن أن يظهر بسهولة في صالة الألعاب الرياضية أو في حفلة كما يحدث بعد محادثة من قبل المتحدث الزائر؛ قدم نفسه كمتعلم وليس كمدرس. وقد اقترب من قناعاته بريبة. ومع ذلك، قد لا تكون طريقته الشهيرة كافية لتطلعاته العميقة. لأنه إذا كان يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه حقير، فإن هذا يرجع جزئيًا على الأقل إلى أن أسلوبه في استجواب الآخرين يبدو أنه يضعه في موقع تفوق لا يمكن مقابلته، مثل القاضي الذي لا يُحكم عليه أبدًا. كان هذا مؤسفًا، لأنه حجب التزامه بفحص نفسه، والذي بدأ بالاعتراف بجهله:
ما زلت غير قادر، كما تقول دلفي، على معرفة نفسي؛ ويبدو من السخف حقًا النظر في أشياء أخرى قبل أن أفهم ذلك…. هل أنا وحش أكثر تعقيدًا ووحشية من تيفو، أم أنني حيوان بسيط ووديع، له نصيب في طبيعة إلهية لطيفة؟
لحسن الحظ، فإن الاحتمالات التي توفرها الكلمة المكتوبة جعلت من الممكن لأتباع سقراط أن يجدوا طرقًا جديدة وأكثر فاعلية يمكن القول إنها سقراطية. على سبيل المثال، اخترع أفلاطون (أو على الأقل أتقن) شكل الحوار، والذي سمح لكل من المؤلف والقارئ بفحص قناعاتهما من خلال مواجهة العديد من وجهات النظر المتنافسة، بما في ذلك آراء حقراء مثل Callicles و Thrasymachus. ثم قدم مونتين المقالة الشخصية، مصورًا ذلك التعدد على أنه موروث داخل الراوي نفسه، وبالتالي، ضمنيًا، داخل القارئ أيضًا: “في كل إنسان بذاته التجربة الإنسانية بأكملها”. كلا الشكلين يسمحان للمثقفين بالتعبير عن الأفكار التقليدية دون الموافقة الكاملة عليها، وبالتالي يسمح كلاهما بدرجة من الصدق التي قد تنتهك المعايير الاجتماعية في سياقات أخرى. من خلال اقتراح أن أهم الخلافات هي تلك التي لدينا مع أنفسنا، علاوة على ذلك، فإنهم يقدمون لنا طريقة لنكون مواطنين صالحين بالمعنى الفلسفي والسياسي – لنختلف دون أن نكون مستاءين، كما كان باراك أوباما مولعًا بالقول.
الجزم غير ممكن بالطبع. لسبب واحد، سيبقى الفيلسوف دائمًا حقيرًا ببعض المقاييس. من ناحية أخرى، تتطلب أشكال الكتابة التي ذكرناها للتو صفات لا يمتلكها سوى القليل منا. تشير تجربة أكثر من ألفي عام إلى أنه من المستحيل إجراء الحوارات الفلسفية عن طريق أي شخص يفتقر لعبقرية تاريخية عالمية: كونك على مستوى شيشرون لن يفي بالغرض. وعلى الرغم من أن معيار المقالة الفلسفية أقل ولله الحمد، إلا أن النجاح الحقيقي لا يزال يتطلب شيئًا ما كنت دائمًا أجده بعيد المنال: القدرة على الجمع بين الصرامة الجدلية والصرامة الذاتية بدلاً من مقايضة أحدهما بالآخر أو الفشل في كليهما. بعبارة أخرى، إذا كانت بداية الفلسفة تكمن في إدراك افتقارك للحكمة فإن بداية كتابة المقالات الجيدة قد تكمن في شيء أكثر صعوبة: الاستعداد الحثيث للسؤال عما إذا كان الحقير الحقيقي هو أنت.
كتبها: Jonny Thakkar
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مجلة The Point وقد ترجمت هنا بترخيص مباشر منهم.