التصنيفات
فن العيش مجتمع أفكار علم نفس

عن مشاركة الأحلام والهدف منها

العقد الاجتماعي للتخيل الحسي

من الشائع بين عدد من الفلاسفة أن الأحلام أمر خاص بشكل جذري، ولا يمكن لأحد أن يتبعك إليها. تلخص شذرة لهيراقليطس المشكلة: “الكون بالنسبة لأولئك المستيقظين هو واحد وعام، بينما في النوم يذهب كل شخص إلى عالم خاص”. يقول هيجل، في تعليقه على هذا المقطع نفسه، أن “الحلم هو علم بشيء أعرفه بمفردي”. فكر في كيفية تعليم الطفل فهم معنى كلمة “حلم”. لا يمكنك أن تشير إلى أي شيء وتقول: “هذا حلم”. ولا يمكنك أن تقول للطفل في أي لحظة وأنت تفعل ذلك: “انظر، أنا أحلم”.

لقد وَرثَ علم الأحلام -أولاً كالتحليل النفسي، ثم علم الأعصاب- هذا الإطار المرجعي. عام 1900، كتب فرويد أن الأحلام “غير اجتماعية بشكل تام”. بعد مائة عام، كتب يوفال نير وجوليو تونوني، وهما رائدان في أبحاث الدماغ الحديثة، ” تُظهر الأحلام … أن الدماغ البشري، المنفصل عن البيئة، يمكن أن يُنشأ بذاته عالماً كاملاً من التجارب الواعية”. الأحلام هنا هي، بالتعريف، تلك الحياة الليلية الكاملة التي لا يمكنك مشاركتها، تلك الحياة الثانية كما كتب نيرفال، بأشرارها وعشاقها غير المتوقعين، ومناظرها القمرية التي لا توصف وتسلسلها الخيالي للذاكرة، ومركباتها وأبراجها المحصنة التي لا يمكن فهمها، ووسائل الطيران، والأزمات الجسدية عندما تصبح الأطراف متيبسة بينما يجثو الوحش عليك. الأحلام تعني الانفصال وفك الارتباط عن إطار عالمنا المشترك هذا، والانغماس في الأحلام غريب ومحزن للغاية، ومربك جدًا، وأحيانًا مخجل جدًا، لدرجة أننا بالكاد نستطيع إخراجها إلى الضوء حتى لو أردنا ذلك.

رغم هذه الرؤية للأحلام على أنها بعيدة بشكل نموذجي مع ذلك، فإن العديد من ثقافات العالم -خاصة خارج الغرب الحديث- قد طورت بروتوكولات مفصلة يمكن من خلالها مشاركة الأحلام. إن تعقيد هذه البروتوكولات هو تأكيد، بمعنى ما، للادعاء بأن الأحلام شخصية بشكل خاص، وحتى أكثر من أشكال التفكير الأخرى. على المجتمع أن يعمل بجد بالفعل لجعلها قابلة للمشاركة؛ يجب أن يصارعوا الأحلام لإحضارها لهذه الحياة من حياة الليل. لكن هذه البروتوكولات هي أيضًا توبيخ إلى حد ما لتشكيك الفلاسفة: يبني الناس أكوانهم الخاصة في الأحلام، إلا أنهم يذهبون، كما سنرى، إلى أبعد الحدود لإعادة بنائها ودمجها في عالم مشترَك أثناء اليقظة. يبدو أن هذا يثير سؤالين على الأقل. لماذا نبذل هذا الجهد لمشاركة الأحلام؟ وماذا يحدث لثقافة لا تمارس مشاركة الأحلام، وتخلت عن هذه الممارسة إلى حد كبير (بصرف النظر عن بعض التطبيقات المنعزلة، التي ربما كان أهمها التحليل النفسي)؟

تتمثل مهمة هذا المقال في النظر في أشكال مشاركة الأحلام عبر العالم، لا سيما في بعض المجتمعات الصغيرة حيث تم رفع منزلة مشاركة الأحلام إلى مستوى فني (أو ربما أبعد من ذلك). في مشاركة الأحلام، يتم حصد شيء ما من أعماق النوم للاستخدام في العالم العام، في مجتمع المستيقظين. تعد مشاركة الأحلام بالنسبة للعديد من الثقافات، كما سنرى، بمثابة بروتوكول لإعادة التفاوض المنتظم لما يمكن تسميته بالعقد الاجتماعي للتخيل الحسي، ومجموعة الصور والعواطف والحقائق غير المرئية التي تحكم علاقة الفرد مع المجتمع والكون، حتى أكثر من الأفكار المجردة.


في أكثر الحالات المألوفة، تتضمن بروتوكولات مشاركة الأحلام إعادة سرد الحلم، ثم مطالبة شخص ما بتفسيره. حلمتُ بجمع القمح تحت ضوء البدر. التفسير: سوف تتزوج خلال العام الجاري. إنها عملية لا يزال يمارسها الأشخاص في ثقافتنا، سواء على أريكة المحلل أو على طاولة المطبخ- على الرغم من أن المشاركة مع الصحبة الخطأ قد يؤدي إلى تجاهل الحلم باعتباره مملًا، وقد يؤدي تفسير أحدها إلى السخرية منك لكونك مؤمن بالخرافات.

تاريخياً، تطورت تقاليد فكرية حاذقة لتفسير الأحلام، واعتبار ما يعنيه تفسير الحلم حقيقةً. في التلمود الفلسطيني، على سبيل المثال، من الواضح تمامًا أنه عندما يتعلق الأمر بالأحلام النبوية، فإن سبب تحقيق النبوة ليس الحلم نفسه (أو منشئه، الرب) ، بل تفسير الحلم. إذا فسر حاخام حلمًا على أنه تنبؤ بموت الحالم ثم مات الحالم، فهذا خطأ الحاخام أنه مات. وبالمثل، كتب شيشرون أن مواطني تلميسوس المهووسين بالأحلام يلومون المفسرين وليس الحالم، إذا تبين أن تنبؤات الحلم غير صحيحة؛ لم يكن الحلم بحد ذاته خاطئًا -مثل هذه العبارة لن تكون منطقية بالنسبة للحالمين في تلميسوس- لقد كان التفسير هو الذي فشل. بالفعل في هذه الحالات يتم تقديم بعض المبادئ المعرفية غير المتوقعة. الحلم وتفسيره لا يتبعان بعضهما البعض مباشرة كما السؤال وإجابته. لكل منهما حياته الخاصة، وسبيله السببي الخاص، وعلاقته الخاصة بالحق. يتداخلان في أماكن، وينفصلان بشكل حاسم في أماكن أخرى. وفي بعض الحالات، يربك التفسير الحلم ويعيد توجيهه.

لكن هذه ليست سوى البداية، فهناك العديد من الثقافات التي لا تمثل فيها إعادة الروي والتفسير نموذجًا لمشاركة الأحلام على الإطلاق. بدلاً من ذلك، تُفهم الأحلام على أنها أماكن للعمل؛ ليست نصوصًا بل أماكن، وليست لغة مشفرة بل جزء من الواقع. غالبًا ما تربط هذه الثقافات الأفراد بالكونيات التي تحني المكان والزمان بطرق أقرب إلى أينشتاين من نيوتن. الحقيقة المختبرة للحلم -وليس معناه المزعوم، ولكن فضاءاته، والجداول الزمنية، والتحولات، والخبرة المحسوسة- هي ما يُستحضر، وما يُجلب إلى المجال العام لحياة اليقظة، وما يستفاد منه. قد يُنجز العمل الرئيسي -الصيد، على سبيل المثال- في الأحلام قبل أن يتم إنجازه في اليقظة. أو كما هو الحال بالنسبة لقبائل وايو في كولومبيا وفنزويلا، فإن مسار الحلم يتغير من خلال إعادة سرده في حياة اليقظة، مع توقع أنه في الليلة التالية، سيتغير الحلم نفسه، ونتيجة لذلك، ستظل حياة اليقظة أيضًا. (ابتكر المعالج باري كراكوف تقنية مشابهة للعمل مع ضحايا الصدمات: من خلال تدوين نهايات سعيدة لكوابيسهم المتكررة، يمكن للمرضى السيطرة على مخاوفهم أثناء النوم).

من المفهوم بين العديد من الشعوب الأصلية في أستراليا أن الأحلام هي قنوات مهمة في نظام ميتافيزيقي غالبًا ما يُطلق عليه باللغة الإنجليزية Dreamtime (مع ذلك من المهم الملاحظة أنه على الرغم من هذه التسمية، فإن علاقة المصطلح الدقيقة بأحلام النوم تختلف اختلافًا كبيرًا بين تقاليد السكان الأصليين المختلفة، وهي مسألة نقاش أكاديمي). عالم-الأحلام هو عالم الأساطير البطولية، وأيضًا عالم القوانين والتقاليد والمثل العليا. فلسفة السكان الأصليين دقيقة ومعقدة، وفي كل الاحتمالات لا يمكن للمبتدئين استيعابها؛ علاوة على ذلك، تفشل تعميمات علماء الأنثروبولوجيا حتمًا في تصوير واقع المجتمع الذي يتم فيه إنشاء الأساطير والأغاني والأفكار والتفاوض عليها وتعديلها من قبل الأفراد، كل منهم له طابع فكري مميز، وبعضهم على وجه الخصوص حالمون رائعون ومميزون. لكن يمكننا تتبع بعض سمات هذا العالم الفكري، مع الأخذ في الاعتبار أنها (والتقاليد الأخرى الموضحة في هذا المقال) تتعلق بالممارسة الفردية بالطريقة التي قد يرتبط بها التاريخ العريض للرواية بالتعقيد المحدد لبروست أو ديكنز.

الحلم هو العالم الأساسي، الخليقة، وأيضًا العالم الذي يستمر في الوجود من حولنا، انفصاله عن الحياة اليومية هو مسألة منظور مؤقت وليس حقيقة مستعصية. في العديد من الثقافات الأسترالية، توفر الأحلام نقطة اتصال أساسية. تولد الفكرة عندما تعبر الروح من عالم إلى آخر في الأحلام؛ ولا يقع الموت حقًا حتى يُرى الشخص للمرة الأخيرة في المنام؛ تُنتج الأحلام رؤى حول مكان الصيد، أو تجيب على سؤال حول النسب؛ في بعض الأحيان تلد أغانٍ وطقوس جديدة؛ وغالبًا ما توفر مرحلة يمكن للحالمين أن يلمحوا فيها الحركات الأبدية والتخليقية لأسلافهم، الذين احتوت أجسادهم على جوهرهم الداخلي. ذكرت عالمة الأنثروبولوجيا سيلفي بوارير أنه يجب عند شعوب Pintupi في الصحراء الغربية إعادة تنظيم عالم الأحلام وعالم اليقظة مع بعضهما البعض بانتظام. كتبت أنها ذات مرة كانت تركب مع عائلة في سيارة تعطلت في الصحراء. أُصِلحت السيارة، ولكن لكي يتم إصلاحها حقًا، يجب أن تعمل مرة أخرى في عالم الأحلام بالإضافة إلى عالم اليقظة. تتذكر بورييه: “عندما بدأ المحرك في العمل مرة أخرى، أشارت امرأة شابة إلى طفلها الصغير وقالت: ربما كان هذا الصبي يحلم بهذه السيارة ورآها تعمل بشكل صحيح”.

سيكون تشويهًا للمصداقية أن يُقال للبينتوبي أن الأحلام مجرد تنبؤات. فالشيء الذي يتنبأ به الحلم قد حدث بالفعل. بدلاً من ذلك، يجب أن تكون أحداث الأحلام وأحداث اليقظة متوافقة بطريقة ما. وما هو أكثر من ذلك، إذا كان الصبي قد حلم بالفعل بعمل السيارة، فعندما تبدأ العمل، يكون أفراد عائلته قد أنجزوا الشيء ذاته الذي لا يقبله هيراقليطس وهيجل: لقد رأوا حلمه، يمكنهم أن يقولوا “إنه يحلم بسيارة تعمل” وكذلك يشاهدون سيارة تعمل، ويمكن أن يفهموا هاتين الظاهرتين على أنهما واحد ونفس الشيء.

في هذا المجتمع، حيث يجب أن يحلم الصبي بسيارة تعمل حتى تعمل السيارة، شيءٌ يسير من ذلك يشبه ما يمكن أن نطلق عليه تفسير الأحلام. تقول سيلفي بويرير، أيضًا: “ما يمكن رؤيته، في البداية، على أنه انعدام الاهتمام بتفسير الأحلام، يكشف عند الفحص الدقيق عن واقع محلي آخر- الدور الأساسي لفعل الحلم نفسه في مسار حياة الفرد وفي اكتشاف الواقع”.  حياة-الحلم وحياة اليقظة لا توجدان في علاقة تأويلية لبعضهما البعض– عوضًا عن ذلك، هما مستويات متداخلة ومتكاملة للوجود. إن العمل في إحداهما له تأثير في الآخر- والذي بدوره له تأثير مرة أخرى في الأول، وهكذا في دورة مستمرة.


أحلام الصيد لـ Célestin Nanteuil من متحف الميت

أظهر روبن ريدينغتون، في سلسلة من الكتب والمقالات الرائعة، كيف يستخدم شعب دينه في الداخل الكندي، أو دان-زا (أو دن-زا)، الحلم لإضفاء شكل على جوهر وبنية حياتهم. بناءً على سنوات من العمل مع Charlie Yahey حالم دان-زا وغيره من حاملي التقليد، كتب ريدينغتون، “أقيمت مخيمات دان-زا بحيث كانت هنالك أحراش لا تقطعها ممرات البشر في اتجاه شروق الشمس. نام الناس ورؤوسهم في ذاك الاتجاه وتلقوا رؤى في أحلامهم. يُعتقد أن رؤى الأحلام هذه قد نزلت إليهم عبر مسار الشمس. لعبور الأدغال من أجل الحيوانات، كان على الصياد أولاً الاتصال بمسار الشمس عبر السماء”. ؛ في الواقع، كان الصيد الحقيقي يحدث في الأحلام، وكان المطاردة في اليقظة مجرد تحقيق أو إدراك. كانت التفاصيل التي تشكل نظام معرفة الأحلام في كل حالة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمهارات العملية المطلوبة للبقاء على حافة حد البيئة التي هي الغابة الشمالية. (أخبرني أحد علماء النباتات ذات مرة، ” ذاك بلد جائع. الطعام أقل من الصحراء”) تمامًا كما كان على الصيادين تلقي الأحلام عبر مسار الشمس، كذلك اعتمدوا في اليقظة على الشمس، على سبيل المثال، للتوجيه وسط مساحات شاسعة من مستنقعات التايغا. لا يحتاج الصياد لتحسين وضعه فقط من خلال تقديم الهدايا وأداء الأعمال البطولية؛ كان بحاجة لهزيمة منافسيه في معارك الأحلام.

بالنسبة لـدان-زا، كما هو الحال بالنسبة للعديد من ثقافات مشاركة الأحلام، امتزجت الأحلام وحياة اليقظة بالفعل في منابع التاريخ. في الأساطير، يتخلى أب عن ولده في جزيرة وينجو الطفل لأنه يتواصل مع حيواناته الشافية في الأحلام. يعلمونه كيف يصطاد في مكان بعيد حيث تُرك ليموت. ثم يهزم والده ليعود من الجزيرة لإخضاع الحيوانات العملاقة التي جابت الأرض تأكل البشر ذات يوم. تكتسب الشخصية اسم Tsáyaa ويصبح بطلاً ثقافيًا، حيث يرسل الحيوانات تحت الأرض حتى تصبح أجسامها ملامح الطبيعية النائمة وتنفسها. الحيوانات المتبقية أصغر حجمًا، ويمكن للبشر اصطيادها، منذرين بحقبة جديدة. في هذا العصر الجديد، جعلت تصرفات تسايا من الممكن للبشر أن يصبحوا صيادين بدلاً من أن يبقوا طرائد. في الواقع، أصبحت أحلامه نموذجًا للتواصل من خلال الرؤى مع عمالقة الحيوانات النائمة، وتجنيد مساعدتهم في مطاردة أقربائهم الأصغر.

لا تحتمل ثقافة الرُحل تكلفة التعبير عن نفسها عبر أعداد هائلة من القطع المادية الثقيلة. لكن نظام الأحلام والرؤى، وشبكة من الصور، وخرائط لصورة العالم، وترتيب العالم المدرك، المنقولة عبر اللغة، ومحفوظة في الخيال- يمكن حملها بسهولة، دون أي عبء إضافي على الظهر (رغم أنه من المفترض أن الثقل على العقل والذاكرة مذهل ويتطلب تدريبًا كبيرًا لتحمله). بالنسبة لمجتمع من الرُحل، فإن الكون والأحلام المُعبرة عنه هي بمثابة كنيسة محمولة ومتحف عديم الوزن ومستودع للمعرفة والتاريخ والنصائح لتغيير حياتك أو الاحتفاظ بها كما هي، وكل ذلك معبرٌ عنه بنموذج حسي وعالمي. يُدخل إلى هذا المكان الشاسع كل ليلة ويُلتقط في الذهن كل صباح، وهو صورة للممكن ومسرح للعمل في نفس الوقت. إن الحلم بالحيوانات العملاقة التي تساعدك على اصطياد صغارها يغير بشكل عميق علاقتك بالحيوانات التي تراها في حياة اليقظة. لذا، قد يؤدي الفشل في أسر حيوان إلى إحداث تحول في علاقتك -ولاءاتك، والتماساتك- مع الحيوانات العملاقة التي تحلم بها. كتب رايدنجتون: “كان الفن الحقيقي لهؤلاء الأشخاص هو علاقتهم بالعالم نفسه” – على الرغم من أن الفن ربما يكون تشبيهًا باهتًا لشكل أهم من البيان، هو صورة للعالم ومكون حاسم وسببي داخل العالم ذاته.

وهنا ندخل إلى اللغز المركزي لمشاركة الأحلام، المفتاح لكونها السبيل إلى الروحية وآلية القانون في وقت واحد: صورة العالم التي هي أيضًا العالم. لقد اعتدنا على تقليد يعتبر الأحلام نصوصًا في الأساس تنتظر فك شيفرتها. ولكن على العكس في الأمثلة السابقة، اعتبرت الأحلام رباعية الأبعاد بشكل تام، واقعي حسي كامل يعيش فيه الحالم كما العالم الحسي الرباعي الأبعاد الذي يعيشه وهو مستيقظ. في واقع الأحلام المعاش هذا مع ذلك، ظهرت صفتان متناقضان بطريقة لا تحدث في حالة اليقظة. من ناحية، تبدو الأحلام مرنة بشكل غير عادي عند رؤيتها من الخارج، مثلاً ما تم وصفه في الأوبنشاد: “هكذا يحلم. إنه يأخذ المواد من العالم بأسره، ويفككها بمفرده ثم يعيد تجميعها بمفرده، يحلم في إشراقه ونوره الخاص”. من ناحية أخرى، وكما يرى من داخله، بمجرد أن يصبح الحالم في الحلم، لا يوجد مهرب تقريبًا، ولا قوة، كما في الوصف الذي قدمه إسحاق تينز، شامان تسيمشيان، الذي يُغمى عليه في الغابة بعد رؤية بومة عملاقة تنقض وتمسك به: “حلمت أنني أطير الآن في السماء، وهنا رأيت الكثير من الأشياء الغريبة. وعرفت أن البومة هي التي كانت تطير بي من خلال إمساك رأسي. ثم استيقظت فجأة … عندما عدت إلى منزل والدي، أخبرته بما حدث لي. فقال لي: سبب حدوث هذا لك، أنك ستكون شامانًا عظيمًا”.

يبدو أن هذه الخصائص تنطبق على جميع أحلام البشر، رغم فكرة المجتمعات التي تشارك الأحلام بأنها تميل إلى تحقيق مجمل صفاتها. ما هو الغرض من هذا التفكير الدقيق في طبيعة ومضمون الحلم؟ إن الحديث عن الأحلام في حياة اليقظة هو الحديث عن الحالة الذهنية التي تتمتع فيها صورة العالم التي استوعبناها (وحتى تأليفنا لها بمعنى ما) بسلطة مطلقة علينا. لا تخطئ: مثل هذه الحالة الذهنية لا تقتصر على الأحلام. كم مرة في حياة اليقظة تختفي قدرتنا على التفكير البعيد، ويتلاشى وعينا الذاتي في مواجهة الخوف، رد الفعل، الرغبة، الانغماس؟ لكن الانغماس في صورة العالم أمر بعيد المنال في حياة اليقظة، ندخل ونخرج، متنكرين على وجه التحديد لأننا لا نستطيع وضع أي مسافة منه عندما نشعر به. الأحلام، من ناحية أخرى، هي مظهر منفصل للعالم يولده الخيال، ومقفول بغلاف النوم، و (على الأقل في بعض الأحيان) متاح للذاكرة بعد ذلك. (وليكن واضحًا أن الخيال لا يقصد به هنا كلمة انتقاص معادلة للخرافات، بل لوصف تلك الأشكال الحسية -الصور، والأصوات، والمشاع – التي لا تدركها الحواس الجسدية). الأحلام هي حالات ينشر فيها الخيال قوته الكاملة علينا، وقدرته على وضعنا داخل كون بأكمله. تُظهر الأحلام كيف يتوسط الخيال بين الإدراك والفعل، وكيف يأخذ تجربتنا للواقع وينقلها مباشرة إلى مجموعة من المشاعر والرغبات والسلوكيات المحتملة. والأحلام هي حالات يمكن فيها لاحقًا التفكير في قوى الخيال هذه، عبر مسافة، أثناء الاستيقاظ. مناقشة الأحلام، وضبطها، والعمل بها، ومحاولة تعديلها والتلاعب بها في حياة اليقظة- هي محاولة للوصول إلى مسافة عن صورة الخيال للعالم من أجل دراستها وتحسينها.

ما هو ضروري لفهمه أن هذه ليست مجرد مسألة أيديولوجية. تمتلك ثقافة الجامعات الحديثة العديد من المفردات المعقدة للغاية لمناقشة التجريدات وعلاقتها بالتجربة. لكننا، في المقابل، فقراء في أي ممارسة قد تساعد في تداول العلاقة بين أنماط الإدراك الحسي (الصور والأشكال والأصوات والذكريات) والعالم الإدراكي والمادي الذي نعمل فيه جميعًا أثناء اليقظة. لأن هذه الأشكال الحسية من التفكير غالبًا ما تغذي مباشرة الفعل أو التفاعل، والتأثير والعاطفة، متجاوزة تمامًا المفردات المجردة التي يمكننا من خلالها وصف بنيتها التحتية. (يمكن لشخص ما أن يكتب أطروحة عن العنصرية البنيوية ولا يزال يجد نفسه خائفًا من رجل أسود يسير خلفه في الشارع.) كانت الأحلام تاريخيًا مكانًا تم فيه تطوير مثل هذه الممارسات، حيث يمكن التفكير في صورة العالم بشكل منفصل، وتعديلها عند الحاجة.


أحد أكثر الأمثلة التي أعرفها عن الأحلام التي تُشارك اجتماعيًا في حياة اليقظة وضوحًا -وجمالاً- كانت تنتمي حتى وقت قريب لشعب Ongees في جزر Andaman. عمل فيشفاجيت بانديا في الثمانينيات بين هذه القبائل التي تشكل واحدة من آخر ثقافات الصيد والجمع في خليج البنغال .يوضح بانديا أنه قبل الذهاب إلى النوم، يروي شعب الأونغيز لبعضهم البعض أحلامهم من الليلة السابقة، وتجاربهم في اليوم الذي انتهى لتوه، لا سيما الوقت الذي قضوه في الغابة في الصيد وجمع الطعام. ولكن عند القيام بذلك، فإنهم يتفاوضون محتوى أحلامهم، ويعدلونها بحيث تتماشى أحلام الجميع تدريجياً مع بعضها البعض. قد يخبر أحد الأشخاص بأنه حلمَ بالصيد على الشاطئ الجنوبي للجزيرة، وآخر بقطف الجوز على الشاطئ الغربي، ثم قد يقترح الأول حل وسط: لقد ذهب كلانا للصيد في الحلم، ولكن على الشاطئ الغربي.

يقول بانديا إن تفسير الشعب الأصلي لهذه العملية غير العادية هو كما يلي: أثناء الحلم، تترك الذات الداخلية الذات الخارجية (الجسد) وتسافر عبر الجزيرة من أجل استعادة أجزاء الوجود التي فقدها الشخص أثناء النهار. تتجلى هذه الأجزاء من الوجود بشكل شائع في شكل روائح ضائعة، يُخلفها الجسد على النباتات والأشجار أثناء تجوله خلال النهار حول الجزيرة. عندما تجمع الذات الداخلية هذه الروائح في الحلم، فإنها تعيد تتبع مسار الجسد، وتجمع وتوطد الذكريات المهمة وتصنع الملاحظات. بعد ذلك يُنسج حصاد هذا الكائن الداخلي فوق “الجسم الخارجي” النائم، في شبكة عنكبوتية تثبت كل الروائح والأحلام وذكريات الليالي والأيام الماضية، وبالتالي تسمح باستخدامها في اليوم التالي. عندما يتحدث المجتمع بأكمله عن أحلامهم قبل النوم، تُنسج الشبكات الفردية معًا في شبكة واحدة عبر المجتمع بأكمله. يقتبس بانديا قولاً لشيخ محترم: “إن الحديث عن الأحلام والغناء عن الماضي يصنع شبكة عنكبوتية جيدة تربط كل المساحات المفتوحة لاصطياد الطعام- وكل الخطوط منسوجة جيدًا ليدرك العنكبوت أي طريدة وقعت في الشرك وأين. عبر التذكر والحلم نصنع شبكة يربح منها الكل”.

أنتج شعب أونغيز بروتوكولًا يمكن من خلاله مشاركة الأحلام. يسمح بالتفاوض وتحليل العالم غير المرئي، ونقله إلى المجال العام. عند القيام بذلك، فإنه يُمكن التفاوض حول ما يشترك فيه المجتمع: لا أفكاره أو عاداته في حد ذاتها، ولكن بالأحرى الصور والسيناريوهات والمسارات التي يمكن من خلالها تقسيم الأيام والساعات وجعلها ذات مغزى. هنا عالم من الأحلام يبدو أنه يتجاوز قلق الفلاسفة. كيف يمكنهم التأكد من أن ما يصفونه ويسمعونه هو حقًا ما حلموا به؟ قد يسأل الفلاسفة. يستجيب الأونغيز على هذا عبر رفض التمييز القاطع بين التمثيل والواقع بحيث يبدو، على الأقل بالنسبة لهذا الشخص الخارجي البعيد، أنهم يفعلون ذلك بوعي ذاتي. الحلم ليس موجودًا كشيء مغلق تحاول اللغة وتفشل في الوصول إليه. على العكس من ذلك، فإن التحولات التي تؤثر بها اللغة والخطاب على الحلم تصبح جزءًا من جوهره. يساعد هذا في توضيح سبب وجوب إجراءات مشاركة الحلم هذه في المساء، وليس في الصباح. تهدف هذه العملية إلى تحقيق أحلام المستقبل والاستيقاظ في المستقبل: فالتوفيق بين التجارب السابقة لا يعني إعادة كتابة التاريخ؛ هو بناء مستقبل أكثر تماسكًا. يمكن للمرء أن يتخيل أن عملية كهذه تتم على مدى أجيال ستجعل أحلام المشاركين أكثر انسجامًا مع بعضها البعض.

لا يقل هذا عن بروتوكول لبناء عالم أحلام ديمقراطي توافقي، للتفاوض (مرة أخرى، بسبب الافتقار إلى صفة أفضل) حول العالم الخيالي الذي يحكم العديد من السلوكيات والقرارات في العالم المادي. بين شعب أونغيز، تقاسم الأحلام هو رقص باليه لفظي: تُردد هذه الروايات، مع طرق خاصة للإشارة إلى كيفية قبول شيء ما أو تكثيفه أو تعديله أو استبعاده من الذاكرة الجماعية.

أصبحت عملية تقاسم الأحلام هذه الآن، بحسب بانديا، من الماضي. تراجعت مع بدأ الحكومة الهندية في نقل الأونغيز إلى مزارع جوز الهند، ومنعتهم من النوم في دوائر وبدلاً من ذلك حددت جدولهم اليومي على إيقاع صناعي للعمل والنوم. “عام 1993 عندما سألت أونغيز الذين يعيشون في المستوطنة، ولكني أعرفهم منذ أيام مخيمات الغابة، لماذا لم ينجحوا في الصيد بعد الآن، كنت أتوقع سماع تفسير مثل فقدان الغطاء الحرجي بسبب النمو المتزايد للغرباء، لكن الأونغيز أوضحوا أن الانخفاض في ممارسة الصيد كان بسبب عدم وجود مكان مناسب للنوم لتوليد أحلام حول مساحة الصيد”. أصدقاء بانديا أخبروه:

للقيام بعمل جيد في الغابة مثل الصيد، نحتاج لمناقشة أحلام الغابة. لم نعد نحلم بالغابات! ننسى العمل في الغابة لأننا نتذكر النهوض والعمل في المزرعة! نحن الآن نحلم فقط بزراعة جوز الهند. ليس لدينا أي tonki ti megegatebeh [جلسات مناقشة الأحلام والغناء] فقط عدد قليل من “اللقاءات” الصغيرة.

كما هو الحال مع دان-زا، فإن عمل الأحلام يجعل عمل اليقظة ممكنًا. يضع عالم الأحلام نموذجًا للسلوك في عالم اليقظة، ويحدد المعايير التي يمكن للبشر التصرف من خلالها. لكن هذا لا يعني فقدان القدرة في عالم اليقظة. إنه لا ينطوي على استسلام حياة اليقظة لتقلبات الحلم، تحديدًا لأن عالم الأحلام هذا يتم تداوله بوعي ذاتي وتعمد.


يبدو أن مثل هذه المجتمعات التي تشارك الأحلام تمتلك قدرًا كبيرًا من الوعي الذاتي حول طبيعة الحلم -قدرة أكبر بكثير على الاستفادة منها، والتلاعب بها، والتحقيق في وظيفتها والغرض منها- أكثر مما نملكه نحن. لقد عمينا عن روعة إنجازهم من خلال الأحكام الجائرة، التي صدرت منذ فترة طويلة في الغرب ضد المجتمعات الأخرى، بحيث أن إعطاء الأحلام أهمية كونية وروحية يعني أننا عبيد للخرافات. تمثل ملاحظات نيتشه الغير سخية حول ما يمكن أن نطلق عليه حلم السكان الأصليين هذا الموقف: “كان الرجل من عصور الثقافة البدائية البربرية يعتقد أنه يتعرف في الحلم على عالم ثانٍ حقيقي: هنا أصل كل الميتافيزيقا. لولا الحلم لما كان للمرء فرصة لتقسيم العالم إلى قسمين”. من الحلم تأتي الميتافيزيقيا، ومن الميتافيزيقيا، في وصف نيتشه، إنكار الحياة، والعدمية، والخوف، والتفكير السحري من كل نوع، والعوائق أمام تطور الذات. ولكن كما رأينا، فإن الثقافات التي تأخذ الحلم على محمل الجد لا ترى أنه عالم هش من المثل العليا أو التنبؤات التي يجب النظر إليها عبر كرة زجاجية، بل مكانًا للعمل والسلوك تمامًا مثل عالم اليقظة، وهو متشابك بشكل لا انفصام فيه، مفتوح للتسوية والمنافسة. إن عزل الأحلام داخل الميتافيزيقيا في الواقع ليس خاصًا ببيئة نيتشه، بل بالنظرة العالمية للفلسفة الغربية في المرحلة التي بدأت فيها تسمي نفسها معاصرة. لقد فهم نيتشه أن العالم الإدراكي للبشر لا يكفي؛ نحن بحاجة إلى عالم آخر بجانبه لاستكشاف النطاق الكامل لأفعالنا وردود أفعالنا الممكنة. لكن خطأ نيتشه كان تخيل أن هذه العوالم لم تكن أبدًا متداخلة. كان عليه أن يخترع، في الماضي العميق، انقسامًا غير طبيعي بين العالم المادي وعالم الأحلام من أجل شرح القطيعة بين الاثنين اللذين شاهدهما من حوله.

لا يوجد وصف أوضح لهذا الانقسام من الوصف الوارد في الجزء الغير عادي في آنا كارنينا لتولستوي، حيث تحلم كل من آنا وعشيقها فرونسكي بنفس الحلم تقريبًا- ويفشلان في مشاركته. هناك فلاح صغير قذر، يفتش في كيس ويهزه، ويتمتم لنفسه بالفرنسية؛ كل شيء مليء برعب غامض. ولكن ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للخوف هو عودة ظهور الحلم في حياة اليقظة. آنا مريضة، ويبدو أنها قد تموت قريبًا (على الرغم من أنها في الواقع لن تموت حتى أربعمائة صفحة أخرى). تروي حلمها لفرونسكي بكل التفاصيل: أنها كانت في غرفة النوم، والفلاح بلحيته الشعثاء، يفتش في الكيس، ويتمتم بالفرنسية. وأمكن لفرونسكي أن يجيب فقط، “يا له من هراء! كيف يمكنك أن تصدقي …”.  لكن في قلبه يعرف الحلم، بالطبع، يُدركه بكل تفاصيله، ويمتلئ بالرعب. ترفض آنا أن تُقاطع. أن يكون الحلم حاضرًا لكليهما أمر في غاية الأهمية بالنسبة لها. حتى أنها تبدأ في تقليد أفعال الفلاح بيديها وهي على فراش المرض، كما لو كانت تشير إلى أن التحدث عن الحلم لا يكفي، بل يجب أن يُمثل، كل إحساس، ويجب أن يكون كل عنصر حسي حاضرًا ومفهومًا. كل شيء مهيأ: عاشقان، كل منهما يعاني من نفس الكابوس؛ كل ما يحتاجان القيام به الآن هو مشاركته ثم ربما (من يدري؟) تغييره، وشجبه معًا، وإطفاء مشاعر الخوف في أحضان بعضهما البعض. لكن فرونسكي ينزلق إلى الحكمة المنطقية والعقلانية ويرفض الاعتراف بأن لديه نفس الرؤية. في غضون ذلك، تعطي ممرضة آنا القديمة للحلم تفسيرًا شعبيًا. ستموت آنا أثناء الولادة، كما تقول- وهو توقع تبين أنه خاطئ. عبر وضع الممرضة وفرونسكي على جانبي آنا مُشاركة الأحلام اليائسة، يشير تولستوي إلى نقطتين على جبهتين. لا يمكنك أن تقول ببساطة أن الحلم يعني هذا، أو أن الحلم يتنبأ بذلك؛ لا يمكنك اختزال الحلم إلى نص أو رسالة نمطية. هذا هو تقاسم الأحلام المُقلص إلى خرافات. لكن القول بأن الأحلام إذًا هي هراء أو أمر غير لائق، خاصة جدًا أو تافهة جدًا بحيث لا يمكن مشاركتها- فهذا خطأ أكثر كارثيًا.

التخلي عن مشاركة الأحلام، أو حصرها فقط في أكثر الأماكن خصوصية، كما هو الحال في عيادة المعالج النفسي، أو الاعتقاد بأن مشاركة التصورات الخيالية هي فقط من اختصاص الحكايات، أو من اختصاص الشعراء نصف المجانين- ليست علامات ثقافة أطاحت بطغيان الخيال الخرافي. إنها بالأحرى علامات على مجتمع غرق في الذهول أمام القوة الهائلة لحلمه العالمي، والذي أعني به الصورة الإنسانية للواقع التي لا تنفصم عن معايير الفعل البشري. هذه هي علامات مجتمع غير قادر على تغيير هذا الحلم أو توجيهه بأي دقة أو إحكام.

في الوقت الراهن، أظن أن مشاركة أحلام النوم الفعلية ربما لم تعد الطريقة التي يمكن من خلالها إعادة امتلاك القوة على مخيلتنا. إذا كان الأمر كذلك، فنحن جهلة في هذه الأمور لدرجة أن تسمية القناة المناسبة للوصول إلى عالم الحلم الحسي خاصتنا، ناهيك عن تسخيره، أمر يتجاوزنا. عواقب هذا الجهل رغم عدم وضوحها إلا أنها وخيمة. لأننا نتحدث عن أرجحة البندول بين مسافة الإدراك الذاتي والاستجابة غير التأملية للعالم من حولنا، وهي حركة يصف قوسها إمكانات ومستحيلات حرية الإنسان.

كتبها:

Matthew Spellberg

عضو في جمعية الزملاء بجامعة هارفارد. وهو مؤسس Dream Parliament، وهو بروتوكول لمشاركة الأحلام تم تقديمه في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا.

ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مجلة Cabinet  العدد 67 وقد ترجمت ونشرت هنا بترخيص منهم.