التصنيفات
مجتمع اقتصاد العمل

ما-بعد وظائف الهراء

أخلاقيات العمل وعلاقتها بالوظائف التافهة في المجتمع

فيما يلي سأناقش “أخلاقيات العمل”. معظم إشاراتي تتعلق بأخلاقيات العمل على النمط الأمريكي، لأن أمريكا تقمصت أخلاقيات العمل البروتستانتية بشكل كامل عمليًا أكثر من أي مجتمع آخر. هناك أشكال أخرى من أخلاقيات العمل، على سبيل المثال النوع الذي تجده في اليابان، لكنها في الواقع مختلفة تمامًا من الناحية الأيديولوجية. تعني أخلاقيات العمل على الطريقة الأمريكية أن ما تفعله من أجل لقمة العيش هو أمر أساسي لهويتك الشخصية، وهو اعتقاد قوي بأن العمل المنضبط يبني الشخصية. غالبًا ما يكون العمال الأمريكيون تحت الطلب في جميع الأوقات ويعتبرون ذلك أمرًا مفروغًا منه. هذا يغذي ما سأسميه “إدمان العمل الأدائي” – أي القدوم للعمل وإثبات أنك تعمل بجد أكثر من أي شخص آخر في المكتب. بالإضافة لذلك، هناك وصمة عار قوية للغاية مرتبطة بالبطالة والحصول على “الأشياء المجانية” من الحكومة.

من أبرز النقاد الجدد لأخلاقيات العمل عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جريبر. في كتابه الصادر عام 2018 Bullshit Jobs: A Theory، نجد تعريفًا لـ “وظائف الهراء” على أنها “شكل من أشكال العمل المأجور الذي لا طائل منه تمامًا أو غير ضروري أو مؤذي لدرجة أن الموظف نفسه حتى لا يمكنه تبرير وجود العمل رغم شعوره، كجزء من ظروف العمل، بأنه ملزم بالتظاهر بأن هذه ليست القضية”. من المهم مقارنة وظائف الهراء بما يسميه Graeber ببساطة “الوظائف القذرة”- أي الوظائف مثل تنظيف المراحيض أو جمع القمامة. يجب القيام بهذه الوظائف، وهي مهمة جدًا لعمل المجتمع. يمكن أن يكون هذا النوع من العمل شكلاً من أشكال الكدح، ولا يحظى بتقدير كبير، ويتقاضى العامل أجورًا منخفضة بشكل عام، وغالبًا ما يكون العمال في هذه الوظائف في حالة غير مستقرة. على النقيض من ذلك، تميل وظائف الهراء إلى أن تكون وظائف الطبقة الوسطى، وعمل إداري لذوي الياقات البيضاء، وغالبًا ما يكون لها مكانة أعلى ودخل لائق وأمن وظيفي لائق – لكنها بلا معنى بشكل تام أو حتى ضارة. بناءً على استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وهولندا، يشير جرايبر إلى أن حوالي 40٪ من العمال يعتقدون أنهم يعملون في وظائف الهراء.

يعمل جرايبر مع تقليد طويل من نقد أخلاقيات العمل التي بدأت، على الأقل، مع ماكس ويبر، المنظر الاجتماعي الألماني العظيم الذي وضع أخلاقيات العمل على الخريطة كمسألة أخلاقية خطيرة في عمله: الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية، عام 1920. بالنسبة لويبر، انتهى الأمر بأخلاقيات العمل البروتستانتية إلى ترشيد الاستغلال الرأسمالي لرغبة العمال في العمل. ومع ذلك، لم يعتقد أن هذا هو سبب اختراعها. ويقول إنه تم اختراعها، بدلاً من ذلك، لأسباب لاهوتية، لكنها أصبحت علمانية بمرور الوقت. في حين أن العمال كانوا في الأصل منغمسين في المعتقدات الدينية، إلا أن هذه العادات نجت من علمنة المجتمع. استفاد الرأسماليون من دافع العمل المرتفع الذي أنشأته العادة واستوعبه العمال، ووَلدوا نظامًا استغلاليًا للغاية. أود أن أسرد قصة مختلفة عن الأصول الدينية لأخلاقيات العمل من داخل تقاليد الفكر السياسي الأنجلو أمريكي، بدءًا من الوزير البيوريتاني الشهير ريتشارد باكستر في القرن السابع عشر. بالنسبة لباكستر، فإن الواجب الرئيسي لأخلاقيات العمل هو الانخراط في عمل منظم في دعوة، أي مهنة اختصاصية دعاك الرب لتكريس حياتك العملية لها. البيوريتانية عقيدة تَزهُدية مع الكثير من إنكار الذات، لذا فإن أخلاقيات العمل لدى باكستر تمقت أي وقت ضائع، أو أي تباطؤ، أو أي إهدار للبضائع المادية، أو أي انغماس في الغرور أو الملذات الدنيوية- كل ذلك آثم. مع ذلك، وجنبًا إلى جنب، وربما في تعارض، مع بعض عناصر صورة الزهد، جادل باكستر أيضًا بأنه يجب على كل رجل “الحصول على مقتصد وخزن قدر ما يستطيع”، وبذلك عند النظر إلى الاختيار بين راتب عالي ومنخفض، يجب عليك دائمًا اختيار أعلى راتب.

لكن لماذا نتبنى أخلاقيات العمل؟ تبرير باكستر لاهوتي: أنت تعمل بجد لإثبات أن لديك إيمان، والإيمان هو بالطبع ضروري للخلاص. أي لحظة من الخمول هي علامة على أنك تتراجع عن إيمانك وتتجه نحو الخطيئة. القلق الداخلي لضمان الخلاص هو ما يحفز الناس على العمل بجد بهذه الطريقة المنضبطة دون أي تراجع. جادل ويبر أنه بمرور الوقت أصبحت أخلاقيات العمل البروتستانتية علمانية، ولكن بطريقة محافظة للغاية لتكون قاسية تجاه العمال. خلافي الأساسي من ويبر هو أنه يتجاهل نسخة من علمنة أخلاقيات العمل تقف في صف العمال، وهذا ما سأقوم بإلقاء الضوء عليه قريبًا.

لكن دعنا نبدأ بعرض كيف يبدو المسار المحافظ الذي وصفه ويبر:

  1. تبدأ النسخة اللاهوتية لأخلاقيات العمل بفكرة أن الفقراء يقفون أمام الأغنياء كالخطاة الكسالى أمام المؤمنين الكادحين، وهي فكرة مألوفة جدًا بأن الفقر يُنظر إليه على أنه علامة على الكسل والبطالة وبالتالي الخطيئة. الصيغة العلمانية لهذا هي أن حصول الناس على الشرف مشروط بالاكتفاء الذاتي، وعدم الاعتماد على المعونة، وعلى فرضية أن الفقراء لا يستحقون التقدير.
  2. تقول النسخة اللاهوتية لأخلاقيات العمل إنه من الواجب البرجوازي لأصحاب الأعمال زيادة أرباحهم إلى الحد الأقصى، لأنه يجب “الحصول على مقتصد وخزن قدر ما يستطيع”. وعُظمت الأرباح هنا من خلال تأديب العمال. النسخة العلمانية من ذلك هي رأسمالية المساهمين، فكرة أن الغرض من الشركة هو تعظيم الأرباح. تمكنت الشركات من القيام بذلك عن طريق الضغط على العمال وأيضًا عن طريق الضغط على الدولة من أجل السياسات العامة التي ترفع بشكل منهجي مصالح الرأسماليين فوق مصالح العمال.
  3. مع كل هذا الضغط على الأجور من أجل زيادة الأرباح إلى الحد الأقصى، من المحتم جدًا أن تنشئ طبقة من الفقراء العاملين، الذين هم فقراء على الرغم من أنهم يعملون. واحدة من المقاطع الكتابية المفضلة لدى البيوريتانيين هي “من لا يعمل فلن يأكل”. النسخة العلمانية من هذا هو الاعتقاد بأنه يجب عدم تقديم صدقات للأشخاص الذين لا يعملون. بدلاً من ذلك، فأنت تشترط تلقي مدفوعات الرعاية الاجتماعية بالعمل (أو ربما تفضل أن تتحمل مؤسسة خيرية خاصة مسؤولية الدولة برعاية الفقراء).
  4. تقول النسخة اللاهوتية لأخلاقيات العمل أنه لا يحق لك التمتع بأي وقت فراغ لم تكسبه- يجب أن يلحق اللعب ووقت الفراغ والراحة العمل دائمًا، وليس قبله. في النسخة الأمريكية العلمانية من هذا، لا يوجد حق في العطل الغير المكتسبة أو الإجازات. الولايات المتحدة هي الدولة الرأسمالية الغنية الوحيدة في العالم التي ليس لديها ضمان حكومي للإجازة مدفوعة الأجر. ما يقرب من نصف العمال الأمريكيين لديهم حق تعاقدي في أيام الإجازة. يستخدم العامل الأمريكي النموذجي حوالي نصف أيام الإجازة التي يحق له تعاقديًا الحصول عليها، لأنه يخشى أنه إذا أخذ كل الأيام، سيلاحظ رئيسه أنه يمكن الاستغناء عنه في المكتب وربما يطرده من العمل.
  5. أخيرًا، اعتبر البيوريتانيون أن العمل ذا قيمة كشكل من أشكال الانضباط الزاهد: إذا كنت تعمل بجد وتبقي أنفك فيما يخصك، فلن يكون لديك أي وقت للأفكار الآثمة. النسخة العلمانية من هذا هي “ديكتاتورية البرجوازية”، وهو ما أصفه في كتابي “الحكومة الخاصة” على أنها فكرة أن مكان العمل نفسه هو نوع من الدكتاتورية حيث يحكم أرباب العمل عمالهم.

كما ذكرت، مع ذلك، أعتقد أن صورة ويبر لعلمنة أخلاقيات العمل البروتستانتية نصف صحيحة فقط. هناك جانب آخر من أخلاقيات العمل، يمكن أن نجده عند باكستر وزملائه القساوسة البيوريتانيين، له جانب مؤيد للعمال بشكل ملحوظ، وهذا ما أريد أن أوضحه الآن. ألقى الوزير روبرت ساندرسون، أحد زملاء باكستر، محاضرة منتشرة جدًا أعيد طبعها عدة مرات حول كيفية اكتشاف المرء للمهمة الإلهية الخاصة به. يقول ساندرسون أن الرب لن ينزل ببساطة في المنام ويكشف لك ما يجب أن تكون عليه مهنتك. بدلاً من ذلك، يمكنك معرفة هدفك من خلال النظر في مواهبك، ومعرفة التعليم الذي لديك، والمهارات التي طورتها، والتشاور مع أذواقك، والنظر في نوع العمل الذي تستمتع به أو تجده مُرضيًا. بالإضافة إلى ذلك، يمكنك التحدث إلى والديك لأنهم يحبونك ويعرفونك وربما لديهم بعض النصائح الجيدة. بمعنى آخر، اخترع ساندرسون في هذه العظة الإرشاد المهني الحديث!

الشيء الرائع في هذا هو أن البيوريتانيين لديهم طريقة لتحويل الواجبات إلى حقوق. يقع على عاتق كل شخص واجب صارم يتمثل في العثور على المهمة التي دعاهم الرب للقيام بها، لكن هذا يتحول إلى حق في الاختيار المهني الحر لأنه من حقك أن تستشير أذواقك وتطلعاتك الخاصة كعامل لاكتشاف مهمتك، وهكذا لمتابعة أي مهنة تزيد من اهتمامك. في دليله المسيحي المكون من خمسة مجلدات، كان لدى باكستر نفسه الكثير ليقوله عن العمل والتوظيف. كان أحد الأشياء التي أصر عليها هو أن جميع العاملين الذين يعملون في دعوتهم يقومون بعمل الرب، وهذا يشمل حتى أكثر العمال وضاعة. إنه عمل الرب لأنه عمل ضروري اجتماعيًا، وبالتالي فإن كل هؤلاء العمال، حتى الأقل شأنًا، يستحقون الكرامة. كما يجادل باكستر بأنه يحق للعمال الحصول على إعفاء من سوء المعاملة من صاحب العمل. لديه فصل كامل يلقي في العظات لأرباب العمل حول ما لا يُسمح لهم بفعله: لا تحكم موظفيك بشكل استبدادي؛ لديك واجب صارم لتوفير ظروف آمنة ومفيدة لعمالك؛ يحق للعمال الحصول على أجور عادلة ومعيشية. هناك أيضًا واجب صارم وحق مقابل في الأعمال الخيرية- لا يمكنك ترك الفقراء يتضورون جوعاً أو يعانون في فقر مدقع. أخيرًا، قال باكستر إن المكافأة النهائية لتحقيق أخلاقيات العمل هي ما أسماه “راحة القديسين الأبدية”. صحيح أنك لا تحصل على قسط كبير من الراحة في هذه الحياة. لكن في الحياة القادمة هي عطلة أبدية!

لدى باكستر أيضًا الكثير من الأشياء الشديدة لقولها للأثرياء. لديهم واجبات صارمة للغاية وواجبهم الرئيسي هو العمل المنتج. بعبارة أخرى، إنه ينتقد الأغنياء العاطلين، وهو ما كان في الأساس كل الأغنياء في القرن السابع عشر. تمامًا كما أمر الرب آدم بعد الهبوط من الجنة بالعمل بعرق جبينه حتى نهاية أيامه، كذلك يخبر باكستر الأرستقراطيين أنهم أيضًا يتحملون هذه المسؤولية: “لقد أمر الرب الجميع بصرامة [بالعمل]”، حتى لو أمكنهم تحمل نفقة العيش. علاوة على ذلك، ينتقد باكستر النشاط الذي يتمثل فقط في انتزاع الثروة من النظام أو من أشخاص آخرين. يقول إن هذا النوع من النشاط هو “سجن وكارثة مستمرة”، وإنه زلقة أخلاقية لشخص ما أن ينتزع ثروة من أناس آخرين. إنها كارثة “أن يُقيض المرء بقضاء حياته في فعل القليل من الخير للآخرين، على الرغم من أن ذلك ما يجب أن يُغنيه”. لديه فصل كامل حول ما يسميه “القهر”، والذي يرقى أساسًا إلى نماذج للأعمال الغير عادلة والاستغلالية. يقول للأثرياء: “لا تطأوا على إخوتكم كنقطة انطلاق نحو تقدمكم الشخصي. لاتؤذي من هو أدنى منك وغيرقادر على المقاومة”- بعبارة أخرى، لا يمكنك المساومة بقسوة مع الأشخاص اليائسين والفقراء والضعفاء، بل عليك أن تمنحهم شروطًا لائقة وعادلة في أي عقد. لقد انتقد المحتكرين والمرابين وجميع أنواع الباعة المتجولين والاستغلاليين- كل أولئك الذين يحاولون جني الأرباح عبر إرغام السوق ببعض السلع. لقد جادل ضد عمليات الإخلاء غير العادلة للمستأجرين (ننظر اليوم إلى عملية إحلال طبقة أغنى مكان طبقة أفقر). قال تحديدًا أنه إذا اعتاد المستأجر لديك على إيجار معين للأرض، فلا يُسمح لك برفعه فجأة حتى لو أمكن للسوق تحمل هذا السعر، لأن ذلك سيكون غير عادل بالنسبة لهم.

إذًا هناك أيضًا جانب مؤيد للعُمال في أخلاقيات العمل البروتستانتية. بمرور الوقت تعرض هذا أيضًا للعلمنة. يمكنك أن ترى بعض هذه الموضوعات تظهر عند الليبراليين الكلاسيكيين مثل آدم سميث و (المفضل لدي) توم باين. تم تبني عناصر أخلاقيات العمل هذه أيضًا من قبل كارل ماركس، والحركة العمالية، وفي النهاية من قبل الديمقراطية الاجتماعية.

مرة أخرى، سأعرض بالتوازي النسخة اللاهوتية المؤيدة للعمال وأظهر كيف صارت علمانية بمرور الوقت:

  1. قال باكستر إنه يجب تكريم جميع العمال، حتى أكثرهم وضاعة، على أنهم يتبعون دعوة مهمة مقدسة. يُترجم هذا، من الناحية العلمانية، إلى فكرة أن جميع العمال يستحقون الكرامة والعمل الهادف- وهو العمل الذي يحدث فرقًا إيجابيًا. لا توجد وظائف هراء هنا!
  2. في رؤية باكستر، يحق للعمال حرية الاختيار المهني- لا يمكن تكليفهم بوظيفة لا يحبونها. هذه الفكرة موروثة في النسخة العلمانية.
  3. اعتقد باكستر أيضًا أن العمال يستحقون أجرًا معيشيًا (على الرغم أنه قليل فهو لا يؤمن بالكثير من الإنفاق على الرفاهية!). بين يدي آدم سميث وثروة الأمم، تحول هذا إلى استحقاق للعمال بأجور عالية ومتنامية. الفرق هنا هو أن سميث يتخيل (لأول مرة تقريبًا) أن الاقتصادات يمكن أن تنمو إلى أجل غير مسمى بحيث لا يوجد فقراء، بينما في القرن السابع عشر لم يكن لدى الناس حقًا هذه الفكرة عن النمو المستمر لـ الاقتصاد بأكمله. تتمثل النتيجة الطبيعية العلمانية لصورة باكستر في فكرة أنه مع نمو الناتج المحلي الإجمالي لكل عامل، يجب أن يحق للعمال زيادة أجورهم في تناسق مع ثروة المجتمع.
  4. اعتقد باكستر أن العمل الخيري حق وواجب. النسخة العلمانية من هذا ليست صدقة بمعنى الاضطرار إلى أن تطلب من شخص معين أن يساعدك إذا كنت في وضع يائس، بل بالأحرى حق في التأمين الاجتماعي- تنخرط في المجتمع وتؤمم الحق في التأمين ضد جميع الأنواع من النكبات والمخاطر على اختلاف أنواعها.
  5. وعد البيوريتانيون بأوقات فراغ في الحياة التالية. إذا علمنت هذه السلعة، فستحصل على تشريع الحد الأقصى من ساعات العمل الذي تحدده الدولة، والإجازة مدفوعة الأجر، وحقوق الإجازة الوالدية، وما إلى ذلك كاستحقاقات قانونية للعمل.
  6. أخيرًا، هناك تطور مثير للاهتمام مع باكستر. اشتهر البيوريتانيون في الغالب باعتقادهم أن المختارين، أي الأشخاص الذين حصلوا على الخلاص بالفعل، يشكلون عددًا ضئيلًا من الناس. لكن باكستر نفسه كان بيوريتاريًا جدًا. لقد ألقى خطبة لقيت سمعة سيئة في يومها بسبب كونيتها، وفكرتها بأن الخلاص مفتوح للجميع، وأن كل من يحقق أخلاقيات العمل يحصل على الخلاص. بعبارة أخرى، كان يعبر عن نوع من الثقة بأن أي شخص يمكن أن يستوعب الانضباط الذاتي المطلوب للارتقاء إلى معايير أخلاقيات العمل وبالتالي الحصول على خلاصه، أو على الأقل اليقين بالخلاص. عندما تصبح هذه الفكرة علمنة، فإن الفكرة هي أن كل عامل يمكنه أن يحكم نفسه، إما بشكل فردي كعامل لحسابه الخاص، أو بشكل جماعي عبر الشركات التعاونية أو التي يديرها العمال. القدرة على استيعاب أخلاقيات العمل، والحكم الذاتي وفقًا لهذا المعيار الأخلاقي، هو شيء يستطيع جميع العمال القيام به، ومن ثم يحق لهم الحكم الذاتي. لا يحتاجون لرؤساء يضغطون على أعناقهم للعمل بجد أكبر.

بالنظر إلى هذه التواريخ المتناظرة لأخلاقيات العمل، التي ضعفتها الحركة العمالية والديمقراطية الاجتماعية، فإن ما ظهر للمقدمة في النيوليبرالية المعاصرة هو نسخة معززة من أخلاقيات العمل المحافظة. لقد فقدنا رؤية أخلاقيات العمل المؤيدة للعمال التي قدمتها هذه التقاليد الأخرى. تتمتع الولايات المتحدة بأكبر قدر من عدم المساواة مقارنة بأي ديمقراطية رأسمالية غنية في العالم، حيث هنالك نقطة انعطاف رئيسية في أوائل السبعينيات. منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1972 تقريبًا، كانت أجور العمال ترتفع بنفس معدل نمو الإنتاجية تمامًا. كان العمال يستمتعون بالأجور المرتفعة والمتزايدة التي اعتقد آدم سميث أنها كانت التوقعات المشروعة لكل عامل. النقطة التي يبدأ عندها نمو الإنتاجية ونمو الأجر بالساعة بالانفصال هي أيضًا لحظة ظهور أيديولوجيا رأسمالية المساهمين، وهي الفكرة القائلة بأن الغرض من الشركة هو خدمة المساهمين فقط وليس العمال أو المستهلكين. في هذه المرحلة، يتدهور تعويض العمال بالساعة حتى مع استمرار زيادة الإنتاجية بشكل هائل. الفجوة التي فُتحت هي الحصة المتزايدة من الدخل التي يتم حجزها من قبل رأس المال أو من قبل كبار المديرين التنفيذيين للشركة.

قفزت رواتب الرئيس التنفيذي متجاوزة نمو الإنتاجية بكثير. سيبرر الكثير من كبار المديرين التنفيذيين ذلك بالإشارة إلى مدى جدية عملهم، وأنهم ليسوا مثل الأرستقراطيين من كبار السن الذين جلسوا مكتوفي الأيدي أثناء جمع الإيجارات. والفكرة هي أنهم إذا كانوا يعملون بجد فعلاً، وبجدية أكبر في الواقع من عمال الخطوط العاديين، ألا يستحقون مهما كان عدد الملايين من الدولارات سنويًا على سبيل التعويض؟ هنا أود الاستعانة بريتشارد باكستر وأناقش أنه لا ينبغي لنا أن نخلط بين الانشغال الشديد والمشاركة الفعلية في العمل الذي يعزز رفاهية الأشخاص بخلاف الذات وربما بعض المساهمين العاطلين. هناك أنواع شتى من الأشخاص المشغولين جدًا، لكننا لا نفكر بهم على أنهم منخرطون في عمل منتج. ضع في اعتبارك على سبيل المثال المزور. قد يقضي الكثير من الوقت في إتقان النقش على ورقة نقدية مزيفة بقيمة مائة دولار، لذا فهو مشغول للغاية بلا شك. لكن هذا لا يعني أنه يضيف قيمة أو يعزز الرفاهية الاجتماعية؛ إنه يملأ جيوبه ببعض المخططات الاحتيالية فقط. أعتقد أن الكثير من الأنشطة والعمل الإضافي الذي يقوم به كبار المدراء التنفيذيين هذه الأيام في البلدان الرأسمالية المتقدمة ينطوي أيضًا على الكثير من الانشغال ولكن بالحد الأدنى من العمل الفعلي الذي يعزز الرفاهية الاجتماعية.

الصورة من مكتبة الكونغرس

دعونا نفكر في بعض نماذج الأعمال البارزة في عالمنا الرأسمالي:

  1. هل نموذج العمل مجرد استخلاص للثروة؟ يمكننا أن نلقي نظرة على سبيل المثال على قيمة رأسمال العقاب. في هذا النموذج، لديك عملية استحواذ على الرفع المالي تقوم فيها بتخفيض 10٪ من قيمة الشركة. إذا كان بإمكانك استخراج 20٪ من قيمة الشركة عن طريق إهانة منتجاتها على سبيل المثال، وقطع أجور العمال ووضعها في حالة محفوفة بالمخاطر، ومنح نفسك رسوم إدارة باهظة، فعندئذ حتى لو دفعت الشركة إلى الإفلاس، مع ترك الآلاف من العاطلين عن العمل، لا يزال بإمكانك تحقيق أرباح بمئات الملايين من الدولارات. إنه مجرد استخراج للثروة. جنى المرشح الرئاسي السابق ميت رومني الذي يطلق عليه “عبقري” باين كابيتال مئات الملايين من الدولارات على الرغم من إفلاس أربع من أكبر عشر صفقات له. ولكن حتى عندما أفلست، كان لا يزال يجني ملايين الدولارات.
  2. هل يستغل نموذج العمل الضعفاء؟ في الولايات المتحدة هناك أمثلة لا حصر لها على ذلك. على سبيل المثال، يمتلك الأشخاص تأمينًا صحيًا ويذهبون إلى مستشفى يُفترض أنه مشمول بالتأمين الخاص بهم. لكن الجراح المدرج في القائمة يدعو صديقًا للقيام ببعض الغرز لإغلاق الجرح. هذا الشخص خارج الشبكة ويفاجأ المريض الفقير بفاتورة 60 ألف دولار. هذه الأشياء تحدث في أمريكا! الائتمان المفترس شائع جدًا في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، والناس غارقون في الديون التي لا نهاية لها ولا يمكنهم الخروج منها.
  3. هل يربح نموذج العمل من خلال تضليل الناس؟ خذ على سبيل المثال مدارس الاحتيال مثل تلك التي يديرها الرئيس ترامب: شركة عقارية مزيفة لم يتمكن أي شخص تخرج منها من بيع قطعة عقار واحدة!
  4. هل ينقل نموذج العمل المخاطر إلى الضعفاء؟ على سبيل المثال، من الشائع جدًا في عمليات الاستحواذ بالرافعة المالية أن يدفع المعاش التقاعدي إلى الإفلاس بشكل متعمد عن طريق تجريده من أصوله. هناك طرق قانونية للقيام بذلك في الولايات المتحدة.
  5. هل يقوض نموذج العمل المستقبل؟ ضع في اعتبارك قطاع الوقود الأحفوري بأكمله.
  6. هل يستفيد نموذج العمل من نشر الكراهية والدعاية وتقويض الديمقراطية وتدمير الصحافة؟ خذ في الاعتبار فيسبوك.

أود أن أختم بالعودة إلى انتقادات غريبر لوظائف الهراء. بالنسبة لغريبر، تفرض وظائف الهراء نوعًا من العنف الروحي على العمال الذين يعملون فيها. ويستشهد بالإهانة الناتجة عن الانشغال عديم الفائدة على أنها تقوض قدرة الناس، لأنهم غير قادرين على القيام بعمل مفيد حقيقة لأي شخص. كما أنه من المهين أن يُطلب منك أداء مهام لا قيمة لها حقًا، ربما لمجرد التخلص من غرور صاحب العمل. ويشير إلى أن حرمان المسجونين من العمل في السجون، حتى لو كان عملاً وضيعاً مثل العمل في مغسلة السجن، يعتبر عقوبة للسجناء. يبدو لي أن هذه الأفكار مدفوعة عبر خلال الأخلاقيات الموالية للعمال بشكل أفضل من الرفاه المثالي لدى Graeber. يعتقد غرايبر أنه إذا كان 40٪ من جميع الأعمال عبارة عن وظائف هراء، فعلينا أن نقدم المجتمعات المرفهة من خلال إسقاط كل تلك الوظائف، وترسيخ حالة رفاه أكثر سخاء، ومن ثم يمكن للجميع العمل نصف ساعات عملهم الحالية.

لكن يبدو لي أنه في أعماق هذه الشكاوى حول العنف الروحي، هناك فكرة أنه سجن وكارثة حقيقة أن يعيش المرء حياة لا يكون فيها مفيدًا للناس. وهذا هو بالضبط الفكر الكامن وراء أخلاقيات العمل التقدمية. بكل الوسائل علينا إلغاء نماذج الأعمال المفترسة والاستغلالية. ولكن من المهم والمفيد حقًا أن تشارك في نشاط ضروري ومفيد اجتماعيًا. هذا يختلف تمامًا عن المثل الأعلى لمجتمع الرفاه حيث تصبح الحياة ملعبًا ونقلل من العمل تمامًا. يعد العمل مصدرًا مهمًا لمعنى حياة الناس إذا كان يتوافق مع أخلاقيات العمل المؤيدة-للعمال. ما يجب أن نتمناه هو أن تكون جميع الوظائف ذات مغزى حقًا. لا أعتقد أننا في وضع جيد لتقديم مجتمع الرفاه، على الأقل حتى الآن، لأن البشرية تواجه أزمة تغير المناخ الكبرى. سيتطلب هذا مشاركة الجميع بشكل كامل حيث سيتعين علينا تغيير البنية التحتية للطاقة والنقل والتصنيع بالكامل.

هناك الكثير من العمل الهادف الذي يتعين القيام به لإنقاذ البشرية والكوكب. إذا وجد الرفاه المثالي، فأعتقد أنه ليس قبل قرن أو قرنين على الأقل في المستقبل سنكون قادرين على التفكير فيما قد يكون عليه ذلك. يجب أن يكون هدفنا إذن هو استبدال العمل القمعي الذي لا معنى له بالعمل الذي يعزز حياة الناس والأشخاص الآخرين وكذلك الأشخاص الذين يشاركون في هذا العمل.

كتبتها:

Elizabeth Anderson

متخصصة في الأخلاق، والفلسفة الاجتماعية والسياسية، والنظرية النسوية، ونظرية المعرفة الاجتماعية، وفلسفة الاقتصاد والعلوم الاجتماعية. وهي مؤلفة كتاب “حتمية التكامل”، ومؤخراً كتاب “الحكومة الخاصة: كيف يحكم أصحاب العمل حياتنا”. تعمل حاليًا على كتاب ضخم عن تاريخ المساواة.

ظهرت هذه المقالة في مجلة  The Philosopher العدد 108 رقم 2. وقد ترجمت ونشرت هنا بترخيص منهم.

ترجمها: رافاييل لايساندر