لطالما اعتبر البشر أنفسهم الحيوان الوحيد الذي يمتلك فكرة عن الفناء. مفهومنا عن الموت هو إحدى تلك الخصائص، مثل الثقافة أو العقلانية أو اللغة أو الأخلاق، التي اعتُبرت تقليديًا على أنها تعريف للجنس البشري – مما يفصلنا عن العالم الطبيعي ويبرر استخدامنا واستغلالنا اللامحدود له. هذه بعض الخصائص العامة في المحاولة لتعريف الموت.
1. التغيير
الموت هو تغيير يطرأ على الأحياء فيمسوا من الأموات. أول علامات هذا التغيير هو الغياب. غياب الميت عن الأحياء، وغياب الميت عن الدنيا، وفي بعض التصورات العدمية هو غياب الميت عن ذاته، وحتى في التصورات المابعدية التي تفترض عالم آخر بعد الموت، هناك لحظة غياب برزخية مجهولة يعبر فيها الميت من عالم الأموات إلى عالم الأحياء. ومن التغييرات التي ترافق الغياب، صفة السكون، أي غياب تام عن الحركة.
ولأننا غير قادرين على الإمساك بلحظة الموت تلك، حيث اللحظة التي يحدث فيها فعل الموت، ويموت الإنسان، ونحن لا نقصد لحظات الاحتضار فهي مدرجة ضمن ما قبل الموت. لأننا عاجزين عن الإمساك بهذه اللحظة، نحن غير قادرين على مراقبتها، وحتى الميت كما وضحنا في مقال آخر، يعجز عن إدراكها، نستعيض عن ذلك بدراسات مسهبة للأحياء والتغييرات التي تطرأ عليهم قبيل موتهم، وهي دراسات مصنفة بوصمة اللاإنسانية، وهو ما أختلف فيه ولكن ليس تماما. لذا هناك الطريقة الأخرى، وهي أيضا تصنف عادة بأنها غير إنسانية. أي دراسة التغييرات بعد الموت. وفي ذلك تخصصت علوم طبية كثيرة. بدئا بالتشريح مرورا بالفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) وصولا إلى البيولوجيا (علم الأحياء).
2. الحتمية
الصفة الثانية، والتي تبدوا لنا واضحة أكثر من اللازم مثل سابقتها، هي حتمية الموت. أي أن الموت هو حدث واقع لا محالة. وهو حقيقة يقينية يصعب التشكيك فيها. فإذا كان ديكارت قد بلغ ذروة الحقيقة الوجودية التي تقطع الشك باليقين في كون الإنسان موجود أو غير موجود عبر صك الكوجيطو الشهير (أنا أفكر إذن أنا موجود). فإن الموت بلغ قمة اليقين في مظهرين:
أولاً، في كونه يشكل غياب تام لهذا الوجود، وهذا الإدراك بوجود الذات.
وثانيًا، في كونه لا يحمل رفاهية التفكير فيه بعد الموت، فبغض النظر عن أي نقاشات بيزنطية أو سفسطائية حول ماهية الحياة وجدواها وحقيقتها، لن يخاطر أحد (إلا فيلسوف أو ملحد أو مجنون أو يائس) بالتخلي عنها لمعرفة الإجابة حول ماهية الموت، وممارسة تحليل الموت من أقرب نقطة له، اي الموت نفسه. إن الموت له سطوة تجبر الجميع على الاعتراف به. رغم أن أحدا لم يذقه، إلا أنه كأس يتذوقه الجميع. ورغم أن أحدا لم يرى الموت (لم يرى ظاهرة الموت نفسها عدا بعض التخيلات التي تجسد الموت مثل شبح أو ملاك أو كيان ما) إلا أننا نرى مظاهره في كل مكان، مثلا في رؤية شخص يموت، أو في سماع أخبار الموت. أو أن شخصا كان معك أمس عرفت أنه مات اليوم (ياه .. كان أمس يتحدث معي وحالته الصحية ممتازة، لا حول ولا قوة إلا بالله!).

3. اللاعودة
الموت واقع ولا شك، واحدة من الحقائق المفزعة حوله، غير الغياب، وغير الحتمية، أن الموت حدث لا عودة فيه ومكان لا عودة منه. مكان سرمدي أو أثيري مجهول نحاول إلغاء خاصية الغياب بالكشف عن سرّه أو معرفة ماهيته أو اليقين بما بعده. ولكن هيهات. نحاول في بعض المحاولات الساذجة أن نلغي وقوعه، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو (ومن ناحية طبية لكن لو حان أجلك فأنت ميت لا محالة) أن نطيل أعمارنا قليلاً. سنوات أو ساعات أو دقائق أو مجرد لحظات. وهناك بعض المحاولات الأكثر سذاجة لاسترجاع الميت من الموت، وهي في أكثرها جموحا (ومقدر جهدهم) لا تتجاوز عن كونها عملية إنعاش لشخص لم يمت تماما، لم يمت فعليا، وأصبح هناك مسميات أخرى مثل الموت السريري أو الموت الإكلينيكي أو الموت الدماغي، أو حتى ظاهرة العودة من الموت. وفي أكثر تخيلاتنا شططًا نعجز عن استرجاع الميت إلا في صورة زومبي أو أشباح أو أحلام أو ذكريات باهتة. وحتى تلك الأعمال التخيلية (أدبية أو سينمائية) التي استرجعت ميتا كما كان وهو حي كان الميت إما لم يمت أصلاً، وحدث سوء فهم كبير، وإما كان في ذلك وقوع لا محالة غالبا لمصيدة (تهميش الموت) ولنا مقال في ذلك بعنوان هامشية الموت.
4. التعدد
قد يبدوا كلامي مكررًا هنا. لكن أولاً كون الميت مات، هذا تغيير في حد ذاته. وربما يتمثل ذلك التغيير بشكل أساسي في فعل الغياب. وكنت سأدرجه في قائمة صفات الموت لأتممها سبعة لولا أن خفت تكرار الأمر وغياب المنطق. لذا سنفصل دراسة للفصل في ذلك لاحقًا. لذا وعودة إلى صفات الموت هي حقائق عنه.
الصفة الأولى هي أن الموت غياب عن الحياة. هذا الغياب هو التغيير الأساسي والبارز.
الحقيقة الثانية هي أن الموت أمر حتمي وواقع على كل حي.
الحقيقة الثالثة، لا عودة من الموت. الذين يموتون يذهبون إلى الأبد.
الحقيقة الرابعة، تعددت الأسباب والموت واحد.
فالموت تختلف أسبابه، وأنواعه، وظروفه، ومسمياته، مما نتناوله في مقالات أخرى عديدة غير هذه. وإذا كانت ميتة مريحة أو مؤلمة تتفق جميعها على شيء واحد؛ الموت.

5. الروحانية
هذا هو الجانب الأكثر غرائبية من الموت، أي الروحانية. فحتى أكثر العلماء تعنتًا وإصرارًا على كون الموت ليس أكثر من عملية بيولوجية يمر بها أي كائن حي، فأنه لن يصمد أمام هيبته. وأمام افتراض أن الموت يحمل معاني أكثر من كونه نهاية لكل الأحياء. بل إن بعض الأشخاص ذوي النزعات الإلحادية يتمسكون بفكرة أن الموت يحمل وراءه عالم آخر، فقط لأنهم لا يتصورون كونهم فقدوا أحبابهم إلى الأبد. وهذا (الموت بتصوريه نهاية أم بداية) ينقلنا إلى الصفة السادسة والأخيرة في مقالنا. والتي تجمع كل خصائص الموت في نتيجة واحدة.
6. الرعب
الموت مخيف.
لا شك في ذلك.
كتبها:
رايفين فرجاني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.