التصنيفات
أفكار ثقافة

الموسوعية: مدخل تعريفي

محاولة للخوض في مفهوم الموسوعية

يحاول هذا مقال أن يخوض قليلاً في بحر “الموسوعية”، وتقابلنا إشكاليتان أساسيتان حول هذا المفهوم.

في الكيف والكم

فأما الكيف؛ تتمثل المشكلة في بيان ماهية الموسوعة، وما هي المصادر التي يمكن أن نستقي منها معلومات صحيحة، أو نستند إليها في دعم رأي من آرائنا.

وهنا نفرق بين الرأي والرؤية، الأخيرة هي كل مصدر لمعلومات شبه مؤكدة، لا مجال لإبداء الرأي فيها. أما الرأي، فهو يختلف بحسب طريقة تفكير كل واحد منا. ويمكن للرأي والرؤية أن يمتزجا في الحالات المستنيرة. ولكن نعني هنا بالفارق بينهما، وعليه يورد شكري محمد عياد في كتابه (المباحث الأدبية والنقدية) ملاحظة حول عدم جدوى المصادر في دعم الرأي، وأن وظيفتها لا تفيد سوى تحصيل رؤى مختلفة حول ما نجهل. وقد تحدث عزت بيجوفيتش عن هذا أيضا. حتى أن ذكري لاسم الباحث، ليس إلا نوع من الاستغلال الخاطئ للمصادر لدعم رأيي بذكر إسم باحث له ثقله. رأيي حول عدم جدوى الإستناد والإتباع العمياني إلى المصادر. ويتفق معه الكثير من المشككين في المنظومات الفكرية النقلية التي تعتمد النقل أساسا لتحصيل المعرفة. مما يحيلنا إلى قضية أخرى هامة وشائكة، هي التبعية والقدسية التي ينزلها المتلقي على النص، خاصة النص الديني، فطالما هو المصدر الأول للإيمان، ما المانع في كونه هذا النص المصدر الأول للمعرفة! إلا أن مناقشتها يقتضي منا مقالا آخر. كما أن تبعية النص لا ترجع بالضرورة إلى لا جدواه، بل إلى تشوه عملية التلقي وفقدانها للأساسيات المعرفية اللازمة لتحقيق الإستفادة القصوى من هذا النص.

أول هذه الأساسيات هي التفريق بين المصادر والمصادر المرجعية، أو المصادر والمراجع. فكلمة المصادر تطلق على أي مكان نقلت عنه المعلومة، دون التثبت من صحة هذه المعلومات ومدى مصداقية المصادر الحاضنة لها. إلا للباحث المختص الذي يفند هذه المصادر مما قد يجعل منه هو نفسه مصدرا مرجعيا للمعلومات المستخرجة عن بحثه. وهو (أي الباحث المحترم المتخصص في مجال معين) ليس إلا نوع من المرجعيات الضرورية التي نؤكد على مصداقيتها الكبيرة، وتحريها القواعد العلمية في تنفيذ بحث معرفي من نوع ما. وذلك إذا ما توافرت فيها الشروط التي تحددها النوعيات الأساسية في هذه المراجع. وكل ما عدا ذلك، لا يؤخذ منه إلا بمزيد من الحرص الذي يفترض تواجده كصفة أساسية إلى جوار الشك والنقد في أي باحث.

المرجعية

وهي نوعين أساسيين:

  • المرجعية العامة
  • المرجعية الخاصة

أولاً: العامة

وهي المراجع التي تقطف من كل بستان زهرة.

أي أنها تورد معلومات متناثرة مجمعة وفق منظومة معينة. وانقسم النظام الموسوعي إلى نظامين رئيسيين:

1-الموسوعة العامة

وهو أي نظام موسوعي مبني على خطاب فكري ينظم فكر أمة أو مجموعة عرقية / إجتماعية / فكرية ما. وهو نظام يتراوح بين الشمولية التي ندرجها وحدها في البند الثاني. وبين العشوائية التي تساق وفق أطر خطابية محددة ومعقدة ومتشابكة ومتنوعة حاول ميشيل فوكو تبيانها وتصنيفها وتعريفها في مؤلفه الرئيس (الكلمات والأشياء). ومن ذلك أن الترتيب الأبجدي نظام منظم رغم فوضويته / عشوائيته ولازال فعالا إلى اليوم.

2-دائرة المعارف

يورد عبد الوهاب المسيري خاصية أساسية وشرطا يجعل الموسوعة (أو دائرة المعارف) عمل بحثي جدير بالإهتمام “أن تعني بتقديم المعرفة بشكل منهجي من خلال دراسات يكتبها متخصصون، كل في حقل تخصصه، تكون في العادة حسب تصنيف ألفبائي -مع التفريق بين دائرة المعارف والمعجم- فتعرف الموسوعة بأنها سجل للمعرفة الإنسانية في المستوى الذي وصلت إليه وقت ظهورها.” [الموسوعة / المقدمة، ص31].

وهي الشروط الملائمة، والذي يجب نظم أي موسوعة وفقا لهذا المبدأ، وغير ذلك قد لا يعدوا كونه عبثا دعائيا، أو نوع من التثقيف السطحي.

وعليه، تنقسم الموسوعات إلى سبع فئات كبرى:

1-القاموسية

وهي التي تجمع كل المصطلحات أو المفاهيم أو المشكلات العامة أو الخاصة، بدئا من آخر ما وصل إليه هذا الزمن (زمن إصدار الموسوعة) إلى كل ما سبقه، وفقا لترتيب أبجدي / معجمي، من الألف والياء. وهي عشوائية ساحرة كما يصفها ميشيل فوكو وأمبرتو إيكو، وربما يكمن سحرها، في كونها جامعة مانعة، دون السقوط في أي فجوات قد تحدث بسبب التدرج التصنيفي.

2-الموسوعية

وهي التي تجمع الأعلام أو المدارس الخاصة باتجاه فكري معين، أو الخاص بكل شيء في هذا العصر، ولكن ربما وفق إطار مجتمعي ما. مثل أعلام العرب، وأعلام الغرب. أو المعارف الكبرى (التي تجمع أبرز الإتجاهات الفكرية في هذا العصر).

3-التاريخية

هو ترتيب تاريخي عام، ربما يسرد تاريخ العالم كله، أو تاريخ مجتمع ما. وفي سياق هذا التاريخ يجمع كل ما يتعلق به من مواد ومعلومات هامة تفيد الباحث التاريخي وغير التاريخي. ومن ذلك موسوعة الحضارة لـ ويل ديورانت.

4-المدخلية

وهو كتاب موسوعي يعد مدخلا للثقافة أو التاريخ أو المعارف عامة، وهو يميل للنوع الأول وفق خطاب فوكو، أو يميل للموسوعات المتخصصة إذا ما أراد مدخلا في حقل معرفي معين.

5-الدورية

دورة متكررة، نشطة وفاعلة من إلقاء الضوء على آخر ما وصلت إليه المعرفة البشرية.

وللأسف، الدوريات الثقافية / الفكرية / المعرفية، ورقية أو رقمية، لا تلقى العناية اللازمة في مجتمعنا العربي، وكذلك الدوريات العلمية، مما نخصص لها الكثير من جهدنا لاحقا.

6-الأطلسيات

وهي أي موسوعة مصورة في أطلس أو تصميمات جرافيكية أو خرائط تعليمية، وتميل عادة لكونها موسوعات مدخلية.

7-الأنطولوجيا

مختارات أو منتخبات فكرية أو فنية تفيد مسارا محددا يتصف عادة بإنحياز أيديولوجي.

ثانيًا: المتخصصة

وهي كل ما ينطبق عليه الأقسام السبعة السابقة، ولكن داخل حقل معرفي محددا إفادة للتخصص.

ونبين هنا أول ما يميز الموسوعات المتخصصة عن الأخرى، وهو أنه ليس بالضرورة كتابا جامعا مانعا، بقدر ما هو كتابا معرفا وباحثا وناقدا. ويطرح أو يعرض عدد من المسائل والقضايا في الحقل الذي تخصص فيه الباحث.

وعادة يمكن أن ننظر إلى الباحث (المعترف به في تخصصه) من خلال زاويتين

إما كان باحثا جرت معالجة أعماله مرارا من باحثين آخرين، أو جرى مناقشتها مرارا في الجامعات المعنية. وهذا يعد اعترافا (مؤيدين أو معارضين لمنجزه البحثي) بقيمة هذا الباحث.

وإما باحث قضى وقتا قد يكون سنين من عمره، وجهدا واضح فيما أنجز من أعمال غزيرة الإنتاج أو عالية القيمة. مما يعطيه قيمة كبيرة تمثلت في منجزه الفكري حتى وإن أصابه التجاهل أو التهميش.

ولا يعنينا هنا أي بحاثة معترف بهم من مؤسسات أو جهات معينة، دون أن يكون هذا الاعتراف إنعكاسا لمنجز بحثي أو فكري قدمه هذا الباحث، والأمثلة عن ذلك كثيرة. من ذلك

-عبد الله إبراهيم وموسوعة السرد العربي

-عبد الوهاب المسيري وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية

وفي العادة يخرج المنتج البحثي لهذا الباحث في إحدى صورتين؛ إما محصلة تاريخية، أو رسالة جامعية. وقد يستمر في نهج هذه الرسائل الجامعية عبر أطروحاته البحثية، ولهذا يحصل الكثير من البحاثة على شهادات فخرية من الجامعات الكبرى تقديرا لجهودهم الفكرية.

والصورة الثالثة هي موسوعة جامعة، تجمع كل ما ورد في حقل معين، ويعنيني من تلك الموسوعات حاليا، الموسوعات الفلسفية، التي لا تلقى العناية الكافية مع الأسف. فلم أجد سوى كتابا واحدا يناقش هذا الموضوع، وهو كتاب (الموسوعات الفلسفية المعاصرة في العربية).

هناك صورة مغايرة، مختلفة، وفريدة من نوعها، للموسوعات المعرفية، وهي التي ربما ينتمي إليها نوعية مقالنا هذا -من باب الدراسات المعرفية- وهي الدراسات المفاهيمية. التي تخص بدراساتها صياغة المفاهيم واشتقاقاتها، تعريفاتها وتصنيفاتها. وهو دور أوكله إلى بحاثة اللغويات واللسانيات، مع عدم انفصاله عن الحقول المعرفية الكبرى، مثل علم المكتبات والمعلومات. وعدم إفتراقها عن الفلسفة والميتافيزيقا / الإبستمولوجيا. هذه دراسات تلعب وتمارس دورها في بنية الموسوعات نفسها، لهذا راعيت ذكرها هنا. كما أنها معنية وتجمع أو تربط ثلاث أنواع من الدراسات؛ الموسوعات الفلسفية، والمشكلات الفلسفية، والمصطلحات الفلسفية. (يرى أحمد عبد الحليم عطية) صاحب الكتاب المذكور أن علم الموسوعات الفلسفية هو ذاته علم المصطلحات الفلسفية، وربما علم المشكلات الفلسفية لا يخرج كثيرا عن دائرة الإلتباس تلك.

والباحث هو قارئ أولا، وكاتب ثانيا، وقد يشتمل على صفات أخرى بتعدد أنواع القراءة الفاعلة، فنجد الباحث الناشر، الذي يمارس دورا تطبيقيا هاما تعد الوجه الآخر لتنظيره البحثي. ومن ذلك نذكر بعض دور النشر في العالم العربي

-مركز دراسات الوحدة العربية

-المنظمة العربية للترجمة

-دار تكوين

-منشورات ضفاف

-منشورات الاختلاف

-دار أزمنة

-دار الكتاب الجديد

مثلاً لا حصرًا

ويمكن وفق كل الشروط المعروضة أعلاه، أن نبين فوائد المصادر / المراجع:

فوائد المرجعية

1-الإحالة إلى طرف آخر

2-الاستشهاد بالمصادر

3-تفسير النصوص

4-التصديق بآراء الآخرين

5-جمع المعلومات

الفائدة الأخيرة، هي التي تمثل لنا الإشكالية الثانية، أي كم ما يمكن تحصيله من معرفة، وأنا هنا أتحدث عن هذا الكم بالنسبة لفرد واحد.

بالطبع، وللأسف، لا يمكن تحصيل سوى مقدار ضئيل من المعرفة، وهي نوعين؛ المعرفة البشرية التي يمكن تحصيل كم هائل منها، ولكن قطعا ليس كلها ولا نصفها، وربما ولا حتى بنسبة تتعدى الواحد في المائة. والمعرفة الغير بشرية، ولا أحيل الأمر إلى أي قوى ميتافيزيقية هنا، وإن لم أخرج عن إطار الميتافيزيقا بشقها الأبستمولوجي / المعرفي. أي أنني أقصد المعارف التي لم نتحصل عليها بعد. وأيضا لا يمكن سوى لواحد، أن ينال المجد لأنه اكتشف مساحات معرفية جديدة. حتى لو حقل معرفي واحد. إلا أنه لا يمكن له تحصيل كل تلك المعرفة الغائبة، ولا حتى مقدار حصاة وسط الصحراء. (نعم هذه تشبيهات نمطية لكنها الحقيقة).

يبقى القياس على مقدار البشرية، وكل ما تحصلت عليه البشرية، هي عارفة له، حتى لو كانت تلك المعرفة غائبة عن قطاعات كبيرة منها. أما المعرفة الغير بشرية فلا يستطيع البشر أجمعين، ومنذ فجر التاريخ إلى اليوم تحصيلها كلها، فما بالك بإنسان واحد.

ولكن هذا الواحد، يمكنه أن يتحصل على كم هائل من المعارف المتوفرة حاليا بين يديه بالفعل، خاصة مع تسهيل كبير للطرائق المتنوعة للحصول على المعرفة.

لذا تظهر مشكلتنا هنا في شقين:

الأول، في توفر كم مناسب من المعارف أكثر من قدرة المرء على التحصيل، حتى ينهل حاجته بحيث أنه مهما عظمت مقدرته على التحصيل والقراءة لا تنفد الخيارات أمامه. وهذا يحيلنا بالضرورة إلى مسألتين؛ الإنتاج الفكري، والترجمة. ولذلك مقالات في حينها.

الثاني، هو توفر رصيد معرفي هائل في اللغة العربية التي يبدوا أنها تعيش أزهى عصور ترجمتها اليوم، وفي هذا نفصل مقال. كما أنها تحتوي على مكتبة معرفية عملاقة الكثير من الكتب فيها غير معروفة بعد. كما أن القارئ يحتاج برنامجا معين، وحينها ربما لن يصيبه قصور مستمر رغم عدد وتعدد قراءاته. لأن المطلع يجد أن بعض الكتب مثلا في حقل معين (ولنقل علم النفس المعرفي) لا تفيد ولا تزيد بأكثر مما جرى وضعه بالفعل. ومن ذلك كتب كثير. ولهذا نفصل مقال آخر. ثم وإذا نفذت خياراتك في العربية (وهذا مستحيل، الخيارات قد تضيق وتتسع لكنها لا تنفذ أبدا في المكتوب بعربيتنا) لا يجب أن نجيد عديد من اللغات، ويكفينا فقط -فقط إذا لم نتمكن من التوسع اللغوي، ولكن إذا رأيت في نفسك القدرة فبذلك أنصح- اللغة الإنجليزية التي يصفها سعد البازعي بأنها “أكبر حاضن لغوي لتراث الإنسانية، نتيجة للكم الهائل مما ترجم إليها من ذلك التراث” [مجلة القافلة].

كتبها:

رايفين فرجاني

فيسبوك