في إحدى انتقاداته العديدة لـ “الفلاسفة”، يسخر نيتشه من الإيليين والأفلاطونيين لإيمانهم بالواحد وعالم الوجود، “عالم حقيقي” مضاف إلى العالم الفعلي “بالكذب”. يلوم الفلاسفة على مِصْريتهم، لأنهم يكرمون الشيء عبر تحنيطه.
في “في الموسيقى والكلمات” (1871)، ترمز كلمة “مصري” لاعتيادية النص الأوبرالي السيء، على عكس جودة الموسيقى الديونيزية. وفي “الفلسفة خلال العصر التراجيدي لليونانيين” (1873)، ينتقد نيتشه محاولة النزول من تعدد الآلهة عند اليونان إلى طبقة أكثر أصالة مثل عبادة الشمس، بأنها مُضللة وبربرية. في إنسان مفرط في إنسانيته (1878)، مصر هي رمز للجمود والتحجر، على الرغم من أنها أيضًا للعلم والأدب، والتنظيم والعقلانية. ومن المفارقات، أنها ظلت على هذا النحو في الفجر (1881) وإرادة القوة (نشر بعد وفاته عام 1901). ربما مصر متحجرة في تفكير نيتشه كرمز للوحدة والثبات العلمي الغير ذكوري والغير ديونيزي نتيجة تأثير وصف هيرودوت الشهير للتحنيط، على الرغم من أنه إذا كان هذا هو الحال، فإنه سيتذكر أيضًا ادعاء هيرودوت أن المصريين كانوا أول من يؤمن بدورة من التناسخ في أجساد وأشكال مختلفة.
كان الخلود بالتأكيد مصدر قلق مصري، لكن أي نوع من الخلود؟ أساء نيتشه فهم (أو أساء عرض) سبب تحنيط المصريين، أي التمتع بشيء يشبه إلى حد كبير عودة نيتشه الأبدية أكثر من هروب أفلاطوني إلى وجود نقي. بهذا المعنى العميق، نيتشه مصري، ومصر القديمة نيتشيه.
في “دير المدينة” في طيبة (الأقصر)، يصور قبر الحرفي ’باشدو بشكل جميل جبلًا من الحجر الجيري يرتفع في الغرب خلف تمثال ’أوزيريس، إله الموتى. هذه الصحراء هي الارض الحمراء وهي أيضًا أرض الاموات. في أسطورة طيبة المصرية الضيقة للغاية والمادية للغاية، مصر هي مركز العالم، ونهرها هو مركز المركز، وهي مرتبطة بالسهول الفيضية الخصبة (الأرض السوداء) والصحراء (الأرض الحمراء) غربًا، حيث “تموت” الشمس. منطقيًا، تُسن الدراما النفسية لولادة الشمس من جديد عبر الليل، والحياة الآخرة للبشر، على الضفة الغربية للنهر.
يمكن ترجمة المجموعة الأساسية لنصوص المملكة الحديثة حول الحياة الآخرة، المعروفة باسم “كتاب الموتى”، بدقة أكبر بـ “الاستمرار في اليوم”. تعويذة 179، على سبيل المثال، تصف الذهاب بالأمس والعودة اليوم. تقدم ترجمة حديثة الكتاب من خلال وصف هذه العودة: فهي تشير إلى “الشوق والأمل في العودة يومًا بعد يوم من أي مكان قد تتمركز فيه الآخرة- لزيارة المشاهد المألوفة للأرض مرة أخرى عندما تريد”.
باختصار، النظرية المصرية هي شكل من أشكال التكرار الأبدي للشيء نفسه. على الرغم من عدم ذكر مصر في دراسات لورنس حطب ولا كارل لو المستفيضة عن التكرار الأبدي عند نيتشه، إلا أن المقارنة مثمرة. يحلل حطب اليونانية ما قبل سقراط باعتبارها المصدر الأكثر صلة بتكرار نيتشه، ويصف المسيحية على أنها الانقطاع التاريخي العالمي لـ “النموذج اليوناني للتكرار الأبدي والدوري”. تكمن قيمة التكرار اليوناني في إضفاء الطابع الأخلاقي على عالم الصيرورة. عودة نيتشه، بالنسبة لحطب، ليست “واقعية” بقدر ما هي “تقييمية”، وتتعلق العودة بالتأكيد. كما كتب نيتشه في “ما وراء الخير والشر”، فإن العودة هي لأولئك “الذين يريدون أن يحصلوا على ما كان وما يتكرر إلى الأبد”.
نيتشه مصري، ومصر القديمة نيتشيه
في كتابه الأول المنشور، يوري نيتشه ما هو ثابت بشكل زائد بمصر. في القسم التاسع من كتاب “ولادة التراجيديا”، يصف كيف أن الأشكال المتغيرة تتجمد إلى “صلابة وبرودة مِصْرية”. أيا كان مصدر هذه الملاحظة، فهي ليست من فن طيبة لنحت القبور الحجرية. كما هو موضح في لوحات طيبة، فإن الموت في مصر يشبه إلى حد كبير الحياة في مصر، وفي حين أن هناك جوانب متنوعة من الأساطير مع نصوص أكثر أو أقل ديمقراطية تضع الموتى الملكيين مع الآلهة الراسخة أو مع النجوم الثابتة، بشكل عام، الحياة الآخرة هي عالم من الإيقاع والحركة والصيرورة. إنها تأكيد على الحياة اليومية، وليس هروبًا منها.
في إحدى نسخ هذا التاريخ، تخط الصحراء نفسها تصورًا للنسخة المصرية من الحياة الآخرة. يقدم الجسم الجاف، المستخلصة رطوبته الطبيعية والمحفوظ في حفرة صحراوية، الاقتراح الأول لفكرة أننا يمكن أن نعيش بعد الموت الجسدي. تُرجع نسخة أخرى، تستند إلى أدلة تحنيط يعود تاريخه إلى فترة ما قبل أُسر نقادة الثانية (3500-3150 قبل الميلاد)، الفكرة إلى الدين وليس للعلوم الطبيعية.
عملية التحنيط هي طريقة لتحسين التجفيف الطبيعي. في المدافن الصحراوية المبكرة، تم الحفاظ على شكل الجسد ولكن ليس اللحم. خلال الفترة الانتقالية الثالثة، القرنين الحادي عشر والثامن قبل الميلاد، لم تحافظ عملية التحنيط المتقنة على شكل الجسم فحسب، بل حافظت أيضًا على اللحم والأعضاء الحيوية اللازمة للحياة الآخرة – الرئتين والكبد والمعدة والأمعاء. وتم التخلص من الدماغ. غير مدركين لأهمية الدماغ للعدالة (ماعت)، حافظ المصريون القدامى على الأعضاء الخطأ.
تستند أساطير طيبة المصرية إلى عبادة إله الشمس، الذي يختفي كل ليلة في سفوح الحجر الجيري على الجانب الغربي من نهر النيل، ويولد من جديد بعد اثني عشر ساعة طويلة من الليل قضاها في الإبحار على متن مركبه وجره براً عبر العالم السفلي (دويت). الشمس الواهبة للحياة مهدَدة من جميع الجوانب من قبل الثعبان الرهيب أبوفيس، الذي يرتبط أحيانًا بالضفاف الرملية وربما يمثل ميل السفن للجنوح في السهول الفيضية للنيل. يقتل أبوفيس الإله ’باستت ذو رأس القطة، بأقوى صوره بأذني أرنب وعين رب الشمس كما يمكن للمرء أن يرى في مقبرة إنركاو بوادي العمال. ليس من الواضح ما يرمز له هذا لكن موت أبوفيس يبشر بحياة متجددة.
كانت الحياة الآخرة في الأصل للملوك الذين انضموا إلى حاشية إله الشمس. بدأ إضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة الآخرة في نهاية الدولة القديمة. النسخة الجديدة من الحياة الآخرة هي حقل قصب (Iaru) برئاسة ’أوزيريس، ملك كل الذين يحتملون تكلفة الدفن والتحنيط المناسبين. وربما كان عشرة بالمئة من المصريين القدامى قادرين على تحمل ذلك.
بالنسبة للأثرياء والمتميزين، كما هو الحال الآن، لم يكن البقاء الجسدي كافيًا؛ يمكن للمرء أيضًا أن يأمل في حياة أخرى مليئة بالوفرة والسهولة. قُدمت القرابين لـ روح-كا: توأم الروح الذي يجب أن يلتصق بالقرب من الجسد، على عكس طائر-با الأكثر قدرة على الحركة. شكل كلٌ من الكا والبا آخ الغامض، الصورة الحية للمتوفى. دفن البضائع المفيدة لإطعام الكا فتح الباب للسرقة، بالطبع. ولم تكن المجامع الجنائزية وكهنتها، وكذلك ورثة الموتى الذين دفعوا ثمن هذه الطقوس، دائمًا مصادر معولة موثوقة. لذلك طُور الفن التمثيلي ليحل مكانهم، وعن طريق السحر دبت الحياة في اللوحات الجدارية لتلبية احتياجات الموتى. وهكذا، عن طريق وضع المواد الغذائية والأدوات في المقابر، أتى تطور التحف الجمالية لطيبة.
كما نلاحظ، فإن الرؤية المصرية القديمة للآخرة هي مصر مزدوجة– نفس الصحراء، نفس المياه المهمة. يمكن القول أنه من خلال تمثيل هموم ومخاطر هذا العالم في العالم التالي، ينجح المصريون في إغلاق دائرة الحياة. للدين إيقاع، مثل الموسيقى، وليس عدم معرفة. يتربع الموتى الملكيون مع الآلهة. يزرع الموتى الطيبون الحقول، أو يسحبون مركب الشمس بفرح، بينما يحاول الموتى الأشرار إحباط مرور الشمس. إن الحياة الآخرة هي عمل، وعمل هرمي كذلك، مما يشير إلى أن العمل مصاحب لمصر، والحياة الآخرة هي “فعل كل ما يُفعل على الأرض”.
تؤدي إضافة أوزوريس إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على أرض الموتى وإضافة عنصر الحكم. يُسمح فقط للمستحقين بالدخول إلى مملكة الموتى؛ بينما يلتهم البقية على الفور الوحش المركب المرعب أميت، وهو بين تمساح وأسد وفرس النهر. وهكذا، فإن الديموقراطية تعمل على تأكيد العدالة، لكنها تستثني بقسوة بعض الناس من النظرية الموسيقية الإيقاعية لمسلك الشمس الغربي.
قد يتأمل نيتشه في أسطورة الشمس على النحو التالي: عودة نفس العالم، ونفس الشريط الزراعي وسهل الفيضان، ونفس الشمس، ونفس المحاصيل، ونفس الأطعمة، كافية. الإيقاع الأساسي هو دورة الولادة المادية والموت. يضاف إلى ذلك الشمولية الديمقراطية والحصرية الأخلاقية. هناك أيضًا نقطة بداية، عندما ظهر الإله أتوم الذاتي الخلق في شكل تل من ماء نوو غير المتمايزة. وهناك قصة اندماج أخير بين أتوم وأوزوريس والعودة إلى الفوضى البدائية. بعبارة أخرى، فإن الوحدة والإيقاع الأساسيين لهما انقسامات وانفصال، ولكن على عكس رؤى الجنة لا تشير إلى خارجها.
للأسف، فإن الفن المصري الديونيسي، النابض، المليء بالحياة والألوان والشكل الجسدي غير المقيد قد فات نيتشه. تبدو مقبرة نفرتاري ذات اللون والوجوه الخضراء في وادي الملكات ذات ذوق رديء، بأشكال مريضة، حتى يُسمح للرموز بالتحدث. الوجوه سوداء للخصوبة (الأرض السوداء)، وخضراء لإحياء المحاصيل الجديدة. تشير الوجوه الخضراء إلى المحاصيل التي تزيد في بعض الأحيان عن الحاجة في السهول الفيضية شرقًا، ولكن ليس أبعد من ذلك. لا أبعد مما وراء الشرق والحياة اليومية. وإذا ما كانت هناك مرحلة أخيرة وراء مصر المزدوجة المتخيلة هذه، نحو واقعية شاملة -لا أوزوريس ولا دوات، ولا حقل قصب، دمقرطة كاملة وتجسيد الجسم، محدود ومسكون بالحياة القصيرة والكلية بنفس الوقت- هو سؤال صعب. إذا كنا جميعًا “غربيين” بالمعنى المصري لكائنات تمارس التوفي والوفاة، فإننا لا نسعى بطبيعة الحال إلى الواقعية النهائية ونهاية الأسطورة. سأل نيتشه: “لماذا لا نسمح لأنفسنا بأن تنخدع؟” في بعض الأحيان، ما يكون محجوبًا ومستتر وغير مضاء له أسباب للبقاء كذلك، كما كتب نيتشه، منتقدًا الشباب المصري الذين يتسللون إلى المعابد. قد تكون الطريقة الأكثر حكمة للعيش هي المضي قدمًا “بشكل أسطوري” وليس بطريقة عقلانية. في الواقع، كما يمكن لأي مسافر عائد من طيبة (الأقصر) أن يخبرك، فإن الشيء الذي يتكرر هو فعل صناعة الأسطورة بحد ذاته.
كتبها:
Chris Barker
أستاذ تاريخ الفكر السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. مؤلف كتاب عن ليبرالية جون سيتوارت ميل بعنوان: Educating Liberty.
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مجلة The Philosophical Salon وقد ترجمت هنا بترخيص منهم.