الكثير من كتب الفلسفة صعبة القراءة، وحتى أقدر أساتذة الفلسفة يواجهون صعوبات مع بعضها. بعض الفلاسفة، مثل هيجل، لا يحوزون ملكة الكتابة، وكتاباتهم مثل غزلة صوف في حقل شوك- تحتاج لفك خيوطها بتأنٍ وطول بال. البعض الآخر يمتلكون موهبة الكتابة، مثل نيتشه وكيرجارد، لكن أعمالهم كقصائد مشفرة. آخرون، مثل دريدا، أعمالهم أكاديمية بشكل لا يفهمه إلا زملاءهم من الأساتذة. البعض يمتلك لغة خاصة وكأنهم لا يودون من أحد خارج مجموعتهم الدخول في هذا النقاش، مثل ابن سينا وابن رشد. والكثير منهم أعمالهم صعبة فقط بسبب المواضيع المعقدة التي يناقشونها، مثل فتجنشتاين مع تحقيقات فلسفية، وسارتر مع الوجود والعدم.
في بعض الأحيان، يبدو الأمر وكأن الفلسفة مستحيلة الفهم. ولكن لمجرد أنك لا أستطيع فهم هذه الكتب من المحاولة الأولى، لا يعني أنه يجب نسيان هذه النصوص. هذا النمط من القراءة يتطلب فقط ممارسة، وعندما تعتاد عليه؛ ستكون قادرًا على فهمها بسهولة.
حتى لو كانت قراءتها صعبة، فهي تحتوي على حقائق مهمة ووجهات نظر عن الحياة يمكن أن تغير حياتك للأفضل عند استيعابها بشكل صحيح.
وإليك بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها:
1. حتى الفلاسفة لم يفهموا بعضهم
أول شيء تحتاج إدراكه أنه لا بأس في حال وجدت بعض كتب الفلسفة مُتعبة في القراءة وصعبة الفهم. حتى الفلاسفة أنفسهم اختلفوا حول فهم النصوص الفلسفية الكلاسيكية، وكل واحد منهم يرمي الآخر بأنه لم يفهم نص الفيلسوف الفلاني، وكل عام هنالك مئات رسائل الدراسات العليا تُكتب عن تفسير الكتب الفلسفية منتقدة التفسيرات التي سبقتها. وها هو شوبنهاور نفسه يصف أسلوب هيجل بالكتابة، الذي ورثه عن كانط، بأنه صوفي ملغز، يوحي بالعمق لكن لا يمكن فهم أي شيء منه (نقد الفلسفة الكانطية).
بالتالي لا تأخذ الأمر عل محمل الجد بشدة، واطمئن أن الصعوبة التي تواجهها مر بها الكثير من قبلك…منهم الفلاسفة أنفسهم، ورويدًا رويدًا ستبدأ بفهم كل شيء.
2. ابدأ بكتب تعريفية
الفلسفة ليست كالرياضيات، حيث يتفق الناس عمومًا على أنك بحاجة إلى البدء من مكان ما واتخاذ سلسلة من الخطوات التي تعتمد بشكل ثابت على بعضها البعض. إنها أشبه بمدخل به العديد من المحادثات الجارية. لكن لا يمكن أن أشدد على أهمية هذه النقطة بما فهي الكفاية- قراءة كتب الفلسفة الأساسية الصعبة ستعجلك تكره الكاتب وربما الفلسفة كلها. وكم كنت أتمنى لو نصحني أحدهم بهذا سابقًا، فلكثرة ما سمعت في الجامعة عن عظمة كتاب نقد العقل المحض وكيف غير الفكر الغربي، ذهب إلى مكتبة الجامعة وباشرت بقراءته وأنا لم أقرأ أي كتاب في الفلسفة سابقًا. غنيٌ عن القول أني لم أفهم شيئًا، وأُصبت بصداع من كثرة التركيز ومحاولة استخلاص معلومة مفيدة، وبالتالي كرهت الكتاب ونقمت على كل من أدعى أنه عظيم ومهم، حتى أعدت قراءته بعد سنوات عدة بعد أن قرأت العديد من الأعمال غيره، فوجدت كل ما أشكل علي سابقًا واضح، وأن مشكلتي معه كانت في عدم فهم المصطلحات المفتاحية.
هنالك اليوم العديد من الكتب المبسطة التي تفتح الباب لدخول الفلسفة ومن هناك تستطيع أن تتعرف على مراجع أخرى، ثم أخرى حتى تصل إلى أمهات الكتب بطريقة منهجية. أنصح بكتب هذه القائمة بشدة.
ولكن ربما تكون النقطة الأكثر أهمية التي يجب وضعها في الاعتبار أنه لا يوجد كتاب واحد أو أفضل طريقة للبدء. ابدأ من أي مكان، واتبع اهتماماتك من هناك.
3. راجع توقعاتك من الفلسفة
أتذكر مرة كنت في المكتبة عندما دخل شاب، وبعد جولة سريعة في المكتبة سأل البائع إن كان يملك أي كتب فلسفية، فسأله البائع لمن مثلاً، ورد الشاب: “لإبراهيم الفقي”. البائع لم يتعرف على الاسم فسأله من يكون هذا، ورد الشاب ليزيد الطين بلة: “فيلسوف كبير يكتب عن علم النفس وما شابه”!
للأسف ليس الشاب وحده من يحمل هذا التصور، فتجد على انستغرام الكثير من الكتب مثل: حديث الصباح والمساء، العادات الذرية، حوار مع صديقي الملحد، فن اللامبالة، تحت مظلة الفلسفة. هذه كتب مساعدة ذاتية وليست فلسفة. قد يكون بعضها مفيدًا في منحك منظورًا أفضل للتغلب على العقبات التي تعترض طريقك أو التعايش معها.
هذا رائع، ولكن بقدر ما قد تكون كتب المساعدة الذاتية مفيدة، فهي ليست فلسفة. عادةً ما تثير الفلسفة أسئلة شخصية بشكلٍ أقل وعامة أكثر، مثلما إذا كان الزمن حقيقيًا، أو ما إذا كان بإمكان البشر إعفاء أنفسهم من قوانين الطبيعة، أو ما إذا كان الشخص هو عقله أو روحه، أو ما إذا كانت لدينا التزامات أخلاقية تجاه الآخرين. والفلسفة لا تريد فقط معرفة الإجابات، ولكن أيضًا لماذا هي أفضل الإجابات، ولماذا تكون بعض الإجابات خاطئة.
والأهم أن الفلسفة لا تتعامل مع وصفات جاهزة وحلول سريعة، وليس هذا ما تهدف ليه. على عكس التنمية الذاتية، تتعمق الفلسفة في القضايا التي تناقشها وتحاول معرفة جذورها، ولماذا نراها بطريقة معينة دون غيرها. ومن هنا يأتي الكثير من صعوبتها، فهي ليست حلول مقترحة بقدر ما هي دعوة للتفكر في الأمور.

4. تتطلب الفلسفة قراءة فاضلة
قراءة الفلسفة ليست كقراءة قصة ذات أحداث مترابطة. عليك أن تتعقب المصطلحات غير العادية، والاختلافات الدقيقة، والأمثلة المحورية والمبادئ العامة. عليك أن تستخدم قلمًا لتمييز مقاطع مهمة أو محيرة، وللتأكيد على الادعاءات المهمة.
قيل أنه في النهاية هناك ردان على أي ادعاء فلسفي: “أحقًا ما تقول؟” و “إذن ماذا؟!”. هذان السؤالان يجب أن يكونا على أهبة الاستعداد عندما تقرأ أي نص فلسفي. يجب أن تفكر في أمثلة معاكسة للادعاءات العامة المقدمة، أو التفسيرات المحتملة الأخرى، اعتبر الأمر كحوار بينك وبين المؤلف، مع العلم أن هذا ما يفكر الفلاسفة عند تأليف كتبهم؛ فهم يفكرون بحجة والحجة المضادة ثم يردون عليها.
يجب عليك أيضًا أن تسأل عما إذا كانت هذه الادعاءات لها أي عواقب مهمة، وكيف ستؤثر المعرفة الجديدة على حياتك وقراراتك ومعتقداتك.
هذا يعني تبني أسلوب مصارعة مع النصوص الفلسفية. عليك أن تصبح قاضيًا متشددًا ومتشككًا، يدافع أمامه المحامي بحماس عن قضيته المثيرة للجدل. لكن من الجيد أيضًا مع هذا النهج القاسي، تبني النية الحسنة. إذا وجدت بعض الأمور غير منطقية فمن حسن النية الاعتبار أنك لم تلتقط وجهة نظر المؤلف قبل رميه بأنه لا يفهم.
لاحظ كيف يختلف هذا عن العديد من أنواع القراءة الأخرى. تسعى العديد من الكتب الواقعية لإخبارك بالتاريخ أو العلوم أو السياسة أو أي شيء آخر، ولا تحاول إقناعك بشيء بقدر ما تعطيك الفكرة الأساسية لما هو حقيقي. بالطبع، قد تكون هناك أوقات تريد أن تشكك فيها بادعاءات هذه الكتب. لكن يجب قراءة كتب الفلسفة مع وضع السؤالين السابقين في الاعتبار، لأنك ببساطة لن تفهمها ما لم تتخذ هذا الموقف التفاعلي. لا يمكنك أن تصبح قويًا من خلال مشاهدة الآخرين في صالة الألعاب الرياضية. عليك أن تمارسها.
بالإضافة إلى ذلك، تساعد القراءة الفاضلة على الاحتفاظ بالمزيد مما تقرأ. وسرعان ما تُنسى الكتب التي تُقرأ بسرعة.
5. أعد القراءة
يجب تناول كتب الفلسفة عدة مرات. يمكنك قراءة العمل أولاً بسرعة نسبيًا، بحيث يكون لديك فكرة عامة عما يقال. ثم يجب أن تقرأه مرة أخرى عندما تتشكل لديك صورة عامة عن الموضوع، وهنا تبدأ بالانتباه إلى التفاصيل: هذا هو الوقت الذي يجب عليك فيه تدوين الملاحظات، حتى تتمكن من فهم ما يقال ولماذا بشكل أوضح. بالنسبة لبعض الكتب، قد تشعر أنك قد انتهيت أو تفقد الاهتمام في هذه المرحلة. بالنسبة لأخرى، قد ترغب في تكرار هذه العملية: اقرأ بسرعة مرة، واقرأ مرة أخرى ببطء، ثم كرر.
6. خذ وقتك
كلنا نريد أن نلحق بالركب وأن نفهم ما يتحدث عنه غيرنا بثقة. ثقافتنا بأكملها مبنية على الإشباع الفوري والمعرفة السريعة والسهلة.
الفلسفة ليست كذلك. يستغرق تطوير مجموعة المهارات المطلوبة لقراءة واستيعاب الفلسفة بشكل صحيح وقتًا.
هناك سبب وراء عدم الاهتمام الشعبي بالفلسفة. ذلك أنه من الصعب فهمها بسرعة؛ والناس في الوقت الحاضر ليسوا مستعدين لقضاء الوقت في مصارعة الأفكار. لكن هذا يجعل الفلسفة مجزية أكثر- أنك تكتسب تقديراً أعمق للواقع، تمتلكه قلة قليلة من الناس.
نعم، تتطلب الفلسفة سنوات، إن لم يكن عمرًا، لتنميتها. لكن جهودك ستكافأ. هناك كنوز مخفية في الفلسفة. خذ وقتك، وانظر عن كثب، وستجدهم.

7. كنًا منفتحًا على التناقضات
قد تفاجأ عند قراءة أعمال نيتشه، أو كيرجارد، أو سيوران أو غيرهم أنها مليئة بالتناقضات، وما يقولونه في مقطع ما يسارعون للإتيان بضده في كتاب آخر أو حتى في مقطع آخر من نفس الكتاب. لم يفت هذا الأمر هؤلاء الفلاسفة ولا فعلوه عن جهل أو قلة ذاكرة منهم، بل هو مقصود. قد يكون لإظهار التناقضات في حياتنا اليومية أو مبادئنا الأخلاقية أو إظهار نسبية الأمور أو أي سبب آخر حسب طبيعة الموضوع.
ما عليك فعله هنا هو الانفتاح على التفسيرات المختلفة والتأني في الحكم على الأمور، وكونك اكتشفت هذه التناقضات فإنك على الطريق الصحيح لان تصبح فيلسوفًا يلاحظ ويربط، وما عليك فعله الآن لإتمام المشوار هو أخذ الصورة الكبرى في الاعتبار، والتفكير بروية في وجهة نظر المؤلف.
8. لا تتسرع بلوم المترجم
من الشائع، للأسف، في عالمنا العربي لوم المترجم وعمله على عدم استيعاب الأعمال الفلسفية. بالتأكيد بعض الترجمات سيئة جدًا، ولكن يجب أن نفرق هنا بين خطأ المترجم الواضح في كسر قواعد اللغة العربية مثل تقديم الفاعل دائمًا، أو بناء الفعل للمجهول ووضع الفاعل مضافًا كأنه يترجم آليًا أو تقابليًا عن لغة المصدر، وبين ركاكة أسلوب المؤلف ذاته؛ فالنصوص الفلسفية ليست كالأعمال الأدبية، قد لا يمتلك الفيلسوف هذه السلاسة مع اللغة، مثل هيجل مثلاً، ويصعب عليه شرح أفكاره المعقدة بكلمات سهلة. زد على ذلك أنه غالبًا ما تكون الفلسفة كتابة سيئة للغاية لأنها تتطلب بالضبط هذا النوع من الكتابة “الغير تجميلية”. من الصعب تحويل الأفكار المعقدة إلى كلمات منمقة، وهنا يُطر المترجم لتفضيل الدقة المنطقية على التركيب السلس للكلمات، كما يواجه المترجمون مشكلة كبيرة مع المصطلحات الفلسفية واختيار الكلمات المناسبة لها. لذلك عندما تقرأ عملاً فلسفيًا معربًا لا تستعجل بلوم المترجم، وحاول فهم السياق أو قراءة الجملة بطريقة مختلفة عم اعتدت عليه. كما أن الاستعانة بمعجم فلسفي هنا مفيدة جدًا، فحتى أبسط التعابير مثل “العقل” قد تعني في قاموس الفيلسوف أمرًا محددًا بدقة، ومختلفًا تمامًا عم اعتدنا عليه في اللغة الدارجة.
خاتمة
قراءة الفلسفة هي أفضل طريقة للتعامل مع الأسئلة الكبرى. مع أنه، مرة أخرى، لا توجد إجابة واحدة صحيحة- أو بالأحرى، هناك الكثير من الإجابات الصحيحة! والمحادثات مع الفلاسفة العظماء ستساعدك على اكتشاف ما تعنيه لك الأسئلة الكبيرة وكيف يمكن أن تجيب عليها بنفسك. كل ما تحتاجه هو الوقت وبعض الفضول والصبر.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.