يحتاج التاجر إلى معرفة غشوش الكيالين والوزانين والمُساح والعدّادين… ويجب أن لا يصدق لأحد من السماسرة قولاً ولا يقبل لهم نصحًا فإنها صناعة مبنية على الكذب ولو كان قد تقدم بينك وبينه أعظم صداقة وآكد جوار فإن الدلال تارة يصف البضاعة وجودتها ويباهت أهل الخبرة بها، وتارة يذكر أنها ستغلو ويرتفع سعرها… ولا يتورعون عن هذا العمل وإن كانوا ممن يُنسب إلى صلاح وأمانة وذلك أنهم في صناعة الماهر عندهم فيها من باع بالزيادة وهم يفتخرون بهذا ويشتهون أن يشيع عنهم لأنه من أبواب المعيشة.
واعلم أن المصدق بغير دليلٍ مقلد والمقلد مذموم عند سائر العقلاء وقابل المحال مخدوع، والمخدوع ليس بحكيم، والعرب تقول لا رأي للكذوب. وذلك أن المصدق بالمحال يبني تدبيره على حسب ما قيل له فيكون رأيه فاسدًا لأنه مبني على الكذب.
ويجب أن يحترس أيضًا من التصديق بأحاديث كثير من التجار فإن منهم من إذا أراد شراء بضاعة وانكشف له نفاقها في بعض البلاد التي يريد السفر إليها حدث وأشاع أن تلك البضاعة في تلك البلد بائرة قد سقط سعرها وقل طالبها ووقع عنها وربما زور كتابًا بخط مجهول وضمنه ذلك وذكر أنه وصل إليه من قريب له أو صديق ونصب هو من يشتريها له، وربما كان قد تواطأ هو وصاحب في ذلك الموضع على مثل هذا فقال له: “إذا كتبت إليك وأنا أقول الله الله احذر أن تشتري البضاعة الفلانية لكسادها فلا تشترها فاشتراها، وإذا ذكرت لك أن قيمتها عندنا دينار فاعلم أنها ديناران فربما وقع الكتاب في يد غيرك قبل وصوله إليك فإنه لا يؤمن ولا يكاد يسلم من ذلك فتفوت الفرصة”…
والتاجر إذا اشترى الأثقال يحتاج إلى أن يكون معه أصحاب ثقاتٌ وأعوان كفاة يعينونه وقت الشراء ووقت الجزم والحمل، ووقت التقليب والبيع فإنه إن كان وحيدًا تأذى قلبه وجسمه وطمع في سرقة ماله الجمالون والحمالون والبحرية وكل من يجري مجراهم ممن يحتاج إلى معونته بسببها في التنقل، فالأصلح لمن كان وحيدًا من التجار أن يعتمد على الخفيف الذي مكنه الاحتياط عليه بنفسه.
وأصل التجارة في البيع والشراء أن يشتري من زاهد أو مضطر إلى أخذ الثمن ويبيع من راغب أو محتاج إلى الشراء لأن ذلك من أوكد الأسباب إلى مكان الاستصلاح في المشتري وتوفر الربح. ويحتاج التاجر أن يكون معه من سوء الظن مثل ما معه من حسن الظن فإنه إذا ساء ظنه كان سببًا لحفظ رأس ماله وإن حسن ظنه أخطر به وكان ما يخشى عليه زائدة على مقدار ما يرجي له.
وليعلم أن إفراط الحرص في طلب الفائدة ربما كان سببا للحرمان وأن شدة الاجتهاد في طلب الربح طريق إلى الخسران. والدليل على ذلك أن بين شراء الراغب الحريص وبين شراء قليل الرغبة الشافي نفسه من كلب الحرص المعتق لها من رق عبودية الشهوة بونة بعيدة وتفاوتًا كثيرًا، وبمثله تكون التجارة لأن من اشتد حرصه عمي عن جميع مراشده وفقد الحكمة ومال إلى الهوى وعدل عن حكم العقل، وخير الأمور ما سر عاجله وحسنت عاقبته.
ويجب على التاجر إذا رأى البركة في نوع من الأنواع أو جهة من الجهات أن يلزم ذلك الشيء ما خلا ما فيه إشراف على خطر أو خوف استدراج فإنه قد يكون من قسمة الإنسان توفر الحظ له في ذلك النوع.
وقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قام إليه في بعض الأيام رجل فقال إن معيشته التجارة وهو محارف فيها لا يشتري شيئًا إلا كسد أو فسد عنده، فقال له: “هل ربحت قط في شيء اشتريته وتجاسرت به ربحًا سررت به؟” فقال: “ما أذكر أنه اتفق لي ذلك إلا في القرض، قال: “فالزم القرض”، فلزمه فاستغنى وأثرى وحسنت حاله، فبلغ ذلك النبي، فقال: “من بورك له في شيء فليلزمه”.
ويجب على التاجر أن يعتمد المسامحة في البيع فإنها أحد أبواب المعيشة ومجلبة للرزق وذلك بأن يقرر التاجر في نفسه أنه إذا ربح دينارًا واحدًا، مثلاً، كان نصفه موقوفة على المسامحة إما في وزن أو نقد أو هبة لواسطة أو حطيطة إن سأل المشتري فيها، فإن المشتري إنما باله وذهنه مصروف إلى ذلك، فإن كان التاجر شرهًا وقال في نفسه قد فرطت في البيع بربح دينار ولو كنت شددت لكان أربحني دينارًا، وربما لأنه راغب في الشراء ولكن الرأي الآن أن استوفي في الوزن جدًا واستخرجه راجحًا واستجيد النقد وأتحكم فيه ولا أدفع لسمسار ولا لواسطة شيئًا. فإذا حدثته نفسه بذلك وفعله وقع الاختلاف إذ كانت الضمائر متباينة وانصرف المشتري عنه ففاته الجميع وعاد يمني نفسه بأن يرجع إليه فانتقل من حاصل إلى مأمول وليس كان مثل يكون، إلا في رفع الأسماء ونصب الأخبار على ما قرره النحويون.
ومن أمثال العامة قولهم: “الدهن يبيع الهريسة”.
كتبها:
أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي
من كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة وغشوش المدلسين فيها.
حررها: الحارث صقر. تشير النقاط الثلاث لتجاوز بعض الجمل التي لا تزيد كثيرًا في المعنى.