ولد آرثر شوبنهاور في دانزيغ (جدانسك) عام 1788، ونشأ في هامبورغ، وهو ابن لرجل أعمال عالمي وأم أديبة. كان مستقلًا نتيجة ثراءه، ولم يشغل أي منصب أكاديمي مدفوع الأجر، ولم يحمل في الواقع سوى الازدراء لأولئك الذين يعيشون “من الفلسفة وليس لأجلها”، أي “أساتذة الفلسفة”. يصر شوبنهاور على أن استقلالية الوسائل هي شرط أساسي لاستقلال الفكر. عاش في فرانكفورت برفقة زوج من كلاب القلطي، ولم يتزوج أبدًا. على جدار مكتبه صورة لكانط وعلى طاولته تمثال لبوذا. من أجل المتعة، يقرأ جريدة The Times of London، ويعزف على الفلوت، ويحضر أوبرا فرانكفورت.
3:16: ما الذي جعلك تصبح فيلسوفا؟
آرثر شوبنهاور: الحياة عمل غير سار. لقد عقدت العزم أن أشغله مُفكرًا فيها. في مدى تفاهة ومحدودية الفكر البشري العادي، ومدى ضآلة الوضوح في الوعي البشري، ربما لحقيقة أنه على الرغم من قصر الحياة البشرية، وعدم اليقين حول وجودنا والألغاز التي لا تعد ولا تحصى والتي تحاصرنا من كل جانب، لا يتفلسف الجميع باستمرار ودون توقف، ولكن قلة مستثناة فقط تفعل. الفلسفة … علم، وعلى هذا النحو ليس لها شروط إيمانية؛ وفقًا لذلك، لا يمكن افتراض أي شيء على أنه موجود باستثناء ما يتم تقديمه بشكل إيجابي تجريبيًا، أو إظهاره من خلال استنتاجات غير قابلة للشك. لا ينبغي أن يكون الشاعر أو الفيلسوف مذنبًا إذا قرر التصالح مع عمره واعتزال زاويته الخاصة بلا إزعاج؛ ولا مع مصيره إذا سمحت الزاوية الممنوحة له باتباع شغفه دون الحاجة إلى التفكير في الآخرين.
3:16: لديك وجهة نظر تشاؤمية حول العالم، أليس كذلك؟
شوبنهاور: ليس هناك الكثير مما يمكن تحقيقه في أي مكان في العالم. إنه مليء بالبؤس والألم. إذا نجا رجل من هذه الأمور، فإن الملل يكمن ينتظره في كل زاوية. بل الأدهى، أن الشر له اليد العليا بشكل عام، والحماقة هي التي تُحدث أعظم ضجة. القدر قاسي والبشرية يرثى لها. ينكشف هباء الوجود في الشكل الكامل الذي يفترضه الوجود: في لانهائية الزمان والمكان المتناقضين مع محدودية الفرد في كليهما؛ في الحاضر العابر باعتباره الشكل الوحيد الذي توجد فيه الحقيقة؛ في الاحتمالية والنسبية لكل الأشياء؛ في الصيرورة بلا وجود؛ في الرغبة المستمرة دون إشباع؛ في الإحباط المستمر من الكفاح الذي تتكون منه الحياة… الوقت هو الذي بموجبه يصبح كل شيء في أيدينا عدمًا ويفقد أي قيمة حقيقية. العالم جهنم، والناس من ناحية هم النفوس المعذبة فيها ومن ناحية أخرى شياطينها.
3:16: إذن يفوق الألم المتعة؟
شوبنهاور: أوه بالفعل! سيكون اختبار سريع للتأكيد على أن الاستمتاع يفوق الألم في هذا العالم، أو أنهما متوازنان بأي معدل، كمقارنة مشاعر حيوان يأكل آخر بمشاعر الحيوان الذي يُأكل.
3:16: تمكن البعض منا من الاحتفاظ بروح الدعابة، وحتى الشعور بالتفاؤل على الرغم من ذلك. ألا تعتقد أن مواجهة هذه الحقيقة أمر شديد التشاؤم وأننا بحاجة إلى التفاؤل والاعتراف بإيجابيات العالم؟ ألا نحتاج الأمل؟
شوبنهاور: أنت أحمق. الأمل هو الخلط بين الرغبة في الشيء واحتمالية وجوده. يا إلهي يا رجل، فكر في الأمر: بهذا العالم، بهذا المشهد من الكائنات المعذبة والمكروبة، التي تستمر في الوجود فقط عبر التهام بعضها البعض، وبالتالي فإن كل وحش مفترس هو القبر الحي لآلاف الآخرين، وعنايته الذاتية هي سلسلة من الوفيات المؤلمة؛ وتزداد القدرة على الشعور بالألم مع المعرفة، وبالتالي تصل إلى أعلى درجاتها في الإنسان، وهي درجة أعلى كلما كان الرجل أكثر ذكاءً؛ لقد تُخيل تطبيق نظام التفاؤل على هذا العالم، والإثبات لنا أنه الأفضل من جميع العوالم الممكنة. يا لها من سخافة صارخة. التفاؤل ليس فقط عقيدة خاطئة ولكنه أيضًا عقيدة خبيثة، لأنه يقدم الحياة كحالة مرغوبة وسعادة الإنسان هدفها وغايتها. بدءًا من هذا، يعتقد الجميع بعد ذلك أن لديه المطلب الأكثر شرعية للسعادة والمتعة. إذا لم تقع هذه الأمور من نصيبه، كما يحدث عادة، فإنه يعتقد أنه يعاني من الظلم. الواقع أنه يفتقد الهدف الكامل من وجوده. حيث لا يقتصر الأمر على مجرد حديث طائش من شخص لديه فقط كلمات في رأسه المسطح، يبدو لي أن التفاؤل ليس مجرد عبثية، بل حتى طريقة تفكير شريرة حقًا، استهزاء مرير بمعاناة الإنسانية التي لا توصف.
3:16: ألا يعطي الإيمان أسبابًا لرفض هذا؟
شوبنهاور: لكن من المعروف أن الأديان لا تريد الاقتناع على أساس منطقي، بل الإيمان على أساس الوحي. وتكون القدرة على الإيمان في أقوى حالاتها في الطفولة: ولهذا السبب تفرض الأديان نفسها قبل أي شيء آخر للاستحواذ على هذه السنوات الرقيقة. وبهذه الطريقة، حتى أكثر من الوعيد وقصص المعجزات، تضرب المذاهب الإيمانية جذورها: لأنه إذا كان لدى الإنسان، في طفولته المبكرة، مبادئ ومذاهب معينة يتلوها مرارًا وتكرارًا بوقار غير عادي وبإحساس من الجدية الفائقة كما لم يسبق له مثيل من قبل، وفي نفس الوقت لا يتم التطرق إلى إمكانية الشك أبدًا، أو إذا كان فقط لوصفه بأنه الخطوة الأولى نحو الهلاك الأبدي، فإن الانطباع الناتج سوف يكون عميقًا لدرجة أنه في كل حالة تقريبًا سيكون الرجل غير قادر تقريبًا على الشك في هذه العقيدة باعتبارها شكوكًا في وجوده، بحيث لا يوجد من بين الألف من يمتلك صرامة عقلية بجد وصدق ليسأل نفسه: هل هذا صحيح؟
3:16: مع ذلك، ولو لم يكن صحيحًا، أليس للدين قيمة حتى في عالم مثل الذي تعتبرنا نعيش فيه؟
شوبنهاور: حسنًا، أولاً، ليس هناك عبث واضح للغاية، إلا أن تكون مزروعة بقوة في رأس الإنسان إذا بدأت فقط في غرسها قبل سن الخامسة، من خلال تكرارها باستمرار بجو من الجدية. ثانيًا، دعونا نرى أنه مثل يانوس -أو أفضل، مثل ياما، إله الموت البراهمي- للدين وجهان، أحدهما ودود للغاية والآخر قاتم جدًا. لذلك إذا كان عليك أن تعيش بين البشر، فيجب أن تسمح بحق كل فرد في الوجود وفقًا لشخصيته، مهما كانت: وكل ما عليك أن تسعى إليه هو الاستفادة من هذه الشخصية بهذه الطريقة حسب نوعها وطبيعتها، بدلاً من الأمل في أي تغيير فيها، أو إدانتها بسبب حقيقتها. هذا هو المعنى الحقيقي لمبدأ: عش ودع غيرك يعيش.
ومع ذلك، فهذه مهمة صعبة بما يتناسب مع كونها صحيحة؛ وإنه لرجل سعيد من يمكنه تجنب الاضطرار إلى التعامل مع عدد كبير من رفاقه المخلوقين نهائيًا. وإذا خلق الرب هذا العالم، فلا أريد أن أكون الإله. إنه مليء بالبؤس والضيق لدرجة أنه يحطم قلبي.
3:16: إذن لا يمكنك عبادة أي إله خلق هذا العالم لأنه مكان سيء للغاية للعيش فيه؟
شوبنهاور: هنالك شيئان يجعلان من المستحيل تصديق أن هذا العالم هو العمل الناجح لكائن كامل الحكمة، وخير، وفي الوقت نفسه، كلي القدرة؛ أولاً، البؤس الذي يكثر فيه في كل مكان. وثانيًا، القصور الواضح في أسمى منتجاتها، الإنسان، الذي هو تقليد ساخر لما ينبغي أن يكون عليه. يقال أن براهما قد أنتج العالم من خلال نوع من الزلة أو الخطأ. ولكي يكفر عن حماقته، لا بد له أن يبقى فيه حتى يحقق كفارته. بحساب أصل الأشياء، هذا مثير للإعجاب!
3:16: هل إتباع الرب دائمًا أمر سيئ؟
شوبنهاور: الرب الذي كان في البدء هو الخالق، يظهر في النهاية منتقمًا ومجُازيًا. من المسلم به أن احترام مثل هذا الإله يمكن أن ينتج عنه أفعال فاضلة؛ ومع ذلك، لأن الخوف من العقاب أو الأمل في المكافأة هما الدافع وراءهما، فإن هذه الأعمال لن تكون أخلاقية بحتة؛ على العكس من ذلك، فإن الجوهر الداخلي لمثل هذه الفضيلة سوف يرقى إلى درجة الأنانية الحكيمة والمحسوبة بعناية.
3:16: هل تعتقد أن الدين بشكل عام ضار؟
شوبنهاور: طوال العصر المسيحي كله، كان الإيمان بالرب مثل حاضنة لكل جهد فكري، ولا سيما الفلسفي، وقد منع أو أوقف كل تقدم؛ وعندما يمتلك أي شخص المرونة العقلية النادرة التي يمكن وحدها أن تتحرر من هذه القيود، فإن كتاباته تُحرق، ومؤلفها معها أحيانًا، كما حدث لبرونو وفانيني. الشيء السيئ في جميع الأديان هو أنه بدلاً من أن تكون قادرة على الاعتراف بطبيعتها المجازية، تحاول أن تخفي ذلك؛ وبناءً عليه، فإنها تستعرض مذاهبها بكل جدية على أنها مبدأ حقيقي بالمعنى الصحيح (sensu proprio)، وبما أن السخافات تشكل جزءًا أساسيًا من هذه المذاهب، فإننا نواجه الأذى الكبير المتمثل في الاحتيال المستمر.
3:16: ينجو تشاؤمك مع ذلك من موت الرب أليس كذلك: تقول أن الشر والمعاناة يفسدان قيمة الوجود نفسه؟
شوبنهاور: بالطبع.
3:16: هل وحدة الوجود (pantheism) عند سبينوزا جذابة بالنسبة لك؟
شوبنهاور: سبينوزا -وجيودانو برونو- لا ينتميان إلى عصرهما أو جزء العالم الذي كافأ أحدهما بالموت، والآخر بالاضطهاد والعار. إن وجودهما البائس وموتهما في هذا العالم الغربي يشبه وجود نبات استوائي في أوروبا. كانت ضفاف نهر الغانج موطنهما الروحي. هناك كانا سيعيشان حياة سلمية ومشرفة بين رجال لهم نفس العقول. الآن، من الصحيح أنني أؤمن بـ “أحدٍ كلي” في اشتراك مع المؤمنين بوحدة الوجود ولكن ليس “كل شيء هو الرب” … وبالتالي يوضعون في موقف يضطرهم لتبرير الشرور الهائلة في العالم. أصل الشر هو الجرف الذي تحطمت عليه وحدة الوجود، تمامًا مثل الإيمان بالرب. لأن كلاهما يعني التفاؤل. ومع ذلك، لا يمكن التنصل من الشر والخطيئة، في حجمهما الرهيب. في الحقيقة، بسبب العقوبات الموعودة للأخير، ازداد الأول فقط. من أين كل هذا، في عالم يكون هو نفسه الرب أو عمل الرب حسن النية؟
3:16: يكتسب هيجل رواجًا في الوقت الحالي – في بيتسبرغ وأماكن أخرى – مع ’ماكدويل و ’براندوم بجدية ومع ’جيجك كنسخة شعبوية غريبة، فما العلة في هيجل؟
شوبنهاور: فيخته وشيلينج وهيجل ليسوا في رأيي فلاسفة. لأنهم يفتقرون إلى الشرط الأول للفيلسوف، وهو الجدية والصدق في البحث. إنهم مجرد سفسطائيين أرادوا أن يظهروا على أنهم شيء بدلاً من أن يكونوا شيئًا. لم يسعوا إلى الحقيقة، بل سعوا وراء مصلحتهم الخاصة وتقدمهم في العالم. سعوا وراء التعيينات الحكومية والرسوم والإتاوات من الطلاب والناشرين، وكوسيلة لتحقيق هذه الغاية، قدموا أعظم عرض وضجة ممكنة من فلسفتهم الوهمية- ساء ما هم من نجوم مرشدة وجِنٌّ ملهمة لتلاميذ الحكمة. ولذلك لم يجتازوا امتحان القبول ولا يمكن قبولهم في صحبة المفكرين الموقرين من أجل الجنس البشري.
3:16: أنت تكتب بوضوح شديد – خاصة بالنسبة لفيلسوف ألماني يبدو أن معاصريه يهدفون إلى عكس ذلك. هل يزعجك غموضهم؟
شوبنهاور: أُجبِر الجمهور عبر كتابات كانط على رؤية أن ما هو غامض ليس دائمًا بدون معنى؛ فلجأ ما كان بلا معنى وفارغ في الحال إلى العرض واللغة الغامضين. كان ’فيخته أول من استوعب هذا الامتياز واستفاد منه بقوة؛ ’شيلنج على الأقل يعادله في هذا، وسرعان ما تجاوزهما عدد كبير من المقلدين الجياع دون عقل أو صدق. لكن أعظم وقاحة من الهراء المطلق، خربشة من شباك كلمات لا معنى لها ومجنونة، مثل التي نسمعها فقط في العصفورية، ظهرت أخيرًا عند هيجل. أصبحت أداة لأكثر غموض ثقلًا وعاميةً على الإطلاق، ونتيجة لذلك يبدو مذهلاً للأجيال اللاحقة، وسيكون شاهدًا دائمًا للغباء الألماني. ستوفر ما يقال أنها فلسفة لهذا المدعو هيجل للأجيال القادمة موضوعًا لا ينضب للضحك على عصرنا، وهي فلسفة زائفة تشل كل القوى العقلية، وتخنق كل تفكير حقيقي، وتسيء استخدام اللغة بأكثر الأشكال فظاعة، وتضع مكانها أجوف حشو كلامي وأكثرها طيشًا وخلوًا من المعنى، وكما يؤكد نجاحه، أكثرها حمقًا. هيجل، الذي عين من فوق، من قبل القوى الموجودة، بصفته الفيلسوف العظيم المعتمد، هو دجال مسطح الرأس، سطحي، مقرف، أمي وصل إلى قمة الجرأة بخربشة الهراء الأكثر جنونًا وتحييرًا.
3:16: أنت معجب بكانط ومع ذلك لديك تحفظات معه، صحيح؟ وهذه هي الفكرة الرئيسية في “العالم كإرادة” أليس كذلك؟ أنت تقول أنه لا يستطيع أن يحدد ما هو التفكير بـ “أنا”، وهذه هي الفجوة التفسيرية التي أنت بصدد سدها أليس كذلك؟ هل يمكن أن توضح هذا؟
شوبنهاور: أولاً، من الخطأ بشكل أساسي أن ينبع بحثنا عن أسس أعلى للمعرفة، وحقائق أكثر عمومية، من الافتراض المسبق لشيء غير مشروط في كيانه، أي مبدأ كانط للعقل، أو أن يكون للبحث أي شيء مشترك مع هذا. علاوة على ذلك، كيف يجب أن يكون من الضروري للعقل أن يفترض مسبقًا شيئًا سيعرف أنه عبثي بمجرد أن يتأمله؟ إن مصدر هذا التصور عن غير المشروط يمكن العثور عليه فقط في كسل الفرد الذي يرغب من خلاله في التخلص من جميع الأسئلة الأخرى، سواء كانت تخصه أو تخص الآخرين، ولكن بدون مبرر تمامًا. تسلسل للوعي، بما أنه من خلال تغلغل جميع تمثيلات الوعي، فإنه لا يمكن أن يكون أساسه، وداعمه الدائم نفسه مشروطًا بالوعي، وبالتالي لا يمكن أن يكون تمثيلًا. على العكس من ذلك، يجب أن تكون “نواة” الوعي، وجذر الشجرة التي يكون الوعي ثمرتها.
أقول إن هذا هو “الإرادة”؛ إنه وحده غير قابل للتغيير ومتطابق تمامًا، وقد أوجد الوعي لغاياته الخاصة. بدونها لن يكون للعقل وحدة وعي أكثر من مرآة. لذلك فإن الإرادة هي النقطة الحقيقية والنهائية لوحدة الوعي، ورابط كل وظائفه وأفعاله. ومع ذلك، فهي لا تنتمي إلى العقل، ولكنها فقط جذره وأصله والمتحكم به.
3:16: إذن هل تعارض المادية؟
شوبنهاور: تسعى المادية إلى الحالة الأولية والأبسط للمادة، ثم تحاول تطوير كل الأشياء الأخرى منها؛ تصاعديًا من مجرد آلية، إلى الكيمياء، إلى القطبية، إلى الخضار، وإلى مملكة الحيوان. وإذا افترضنا أن هذا قد تم القيام به، فإن الحلقة الأخيرة في السلسلة ستكون حساسية الحيوان -أي المعرفة- والتي ستظهر بالتالي على أنها مجرد تعديل أو حالة للمادة الناتجة عن السببية. إذا اتبعنا المادية حتى هنا بأفكار واضحة، فعندما نصل إلى أعلى مستوياتها، فسنقع فجأة تحت نوبة من الضحك. ندرك جميعًا في الحال، كما لو كنا مستيقظين من حلم، أن نتيجته النهائية – المعرفة، التي وصلنا إليها بشق الأنفس، كانت مفترضة مسبقًا باعتبارها الشرط الذي لا غنى عنه لنقطة البداية، مجرد مادة؛ وعندما تخيلنا أننا نعتقد أن الأمر مهم، كنا نفكر حقًا فقط فيما يدرك المعرفة؛ العين التي تراها، اليد التي تشعر بها، الفهم الذي يعرفها. وهكذا فإن petitio principii (التسول) يكشف عن نفسه بشكل غير متوقع.
3:16: فماذا يتبع هذا؟
شوبنهاور: العالم هو تصوري أنا. المادية؟ لا يتألف المبدأ الأساسي لمدرسة فيدانتا- Vedanta من إنكار وجود المادة، أي الصلابة، وعدم القابلية للاختراق، والشكل الممتد (ما إن أنكر لكان جنونًا)، ولكن يكمن في تصحيح المفهوم الشائع لها، والمجادلة بأنها لا تمتلك جوهرًا مستقلاً عن الإدراك العقلي؛ أن الوجود والإدراك هما مصطلحان قابلان للتحويل.
3:16: لذا سواء كنا نسميها مثالية أو مثالية متعالية أو مادية، فهل من العدل أن نقول أنك واقعي علمي بخصوص العالم؟
شوبنهاور: في الفضاء اللامتناهي، عدد لا يحصى من الأفلاك المضيئة، تدور حول كل منها عشرات من الكرات المضيئة الأصغر، ساخنة المركز ومغطاة بقشرة باردة صلبة؛ على هذه القشرة، أنتج شريط متعفن كائنات حية ومتعلمة: هذه هي الحقيقة التجريبية، الواقع، العالم. لكن بالنسبة للكائن الذي يفكر، إنه لوضع مقلل أن يقف على واحدة من تلك الأفلاك التي لا حصر لها والتي تطفو بحرية في فضاء لا حدود له، دون معرفة من أين أو إلى أين، وأن يكون واحدًا فقط من الكائنات المماثلة التي لا تعد ولا تحصى والتي تجتمع وتتزاحم وتكدح بلا هوادة، وتنشأ بسرعة وتفنى في زمن لا بداية ولا نهاية له.
3:16: إذن هل قدرة العلم على مراقبة العالم وأنفسنا بصيغة الآخر، إذا جاز التعبير، هي التي كشفت لك مأزقنا الرهيب؟
شوبنهاور: إنه أمر لا يصدق حقًا كيف أن مسار حياة الغالبية العظمى من البشر عديم الأهمية ولا معنى له عند رؤيته من الخارج، وكيف يكون مملاً وفارغ عند الشعور به من الداخل. إنه شوق مرهق ومثير للقلق، ترنح حالم عبر المراحل الأربعة بين الحياة والموت، مصحوبًا بسلسلة من الأفكار التافهة. إنه مثل آلية الساعة التي تعير وتدق دون معرفة السبب. في كل مرة يُنجب إنسان ويولد، تُعير ساعة الحياة البشرية من جديد، لتتكرر مرة أخرى نفس النغمة القديمة التي عُزفت بالفعل مراتٍ لا حصر لها، مقطعًا بمقطع، مع اختلافات طفيفة. كل فرد، كل ظهور بشري ومسار حياته، ما هو إلا حلم قصير آخر لروح الطبيعة اللامتناهية، والإرادة المستمرة في الحياة، ما هي إلا شكلٌ واحد عابر، رُسم المكان والزمان بشكل مرح على صفحته اللانهائية؛ يُسمح له بالوجود لفترة قصيرة محدودة مقارنة بهم، ثم يُمحى، لإنشاء مكان جديد. ومع ذلك، وهنا يمكن العثور على الجانب الجاد من الحياة، كل هذه الأشكال العابرة، هذه الأوهام الفارغة، يجب أن تستجيب لها إرادة الحياة بكامل قوتها بالأحزان العميقة، وأخيراً بالموت المرير، الذي يخشى منه طويلاً ويتحقق أخيرًا. لهذا السبب تجعلنا رؤية الجثث فجأة جادين.
3:16: أنت تصف هذه الرؤية بأنها مأساوية وجليلة، أليس كذلك؟
شوبنهاور: ما يعطي كل ما هو مأساوي، مهما كان شكله، صفة الجلالة هي أول فكرة عن معرفة أن العالم والحياة لا يمكن أن يقدما الرضا، ولا يستحقان استثمارنا فيهما. تتمثل الروح المأساوية في هذا. ما يؤدي إلى الاستعفاء. يجب أن نضع في اعتبارنا دائمًا حقيقة أنه لا يوجد إنسان بعيد جدًا عن الحالة التي يريد فيها بكل بساطة تناول سيف أو سم من أجل إنهاء وجوده.
3:16: يبدو أن العلم محبط بعض الشيء!
شوبنهاور: كن عاقلاً! العلم ليس سيارة أجرة يمكننا ركوبها والترجل منها متى شئنا.
3:16: وأنت لا تعتقد أن التراجع ممكن، إلى الذاتية أو شيء من هذا القبيل؟
شوبنهاور: هذا غباء! يقدم علم التنجيم دليلاً رائعًا على الذاتية البائسة عند البشر، فهم يربطون كل شيء بذواتهم وينطلقون في خط مستقيم من كل فكرة إلى ذواتهم على الفور. يربطون مسار الأجرام السماوية العظيمة بما هو مثير للشفقة، كما يربطون المذنبات في السماء بالمشاجرات الأرضية والحيل الرثة. كل إنسان يخطئ في حدود رؤيته لحدود العالم.
3:16: جادل كانط بأن هناك عالمًا من النومينا noumena لا نعرفه. يبدو أنك تربطه بمفهوم Vedantic لحجاب المايا، وبتمييز أفلاطون بين العالم الحقيقي وعالم المظهر. هل أنت كانطي أم كانطي جديد بهذا المعنى؟
شوبنهاور: في الحقيقة، يُنظر إلى الوجود المستمر لكائنات جديدة وفناء الكائنات الموجودة بالفعل على أنه وهم ناتج عن اختراع عدستين (وظائف دماغية) يمكننا عبرهما، وفي سببيتهما المتداخلة، فقط رؤية أي شيء: يسميان المكان والزمان. لأن كل ما ندركه في ظل هذه الظروف هو مجرد ظاهرة؛ نحن لا نعرف ما هي الأشياء في حد ذاتها، أي بشكل مستقل عن تصورنا لها. هذه هي النواة الفعلية للفلسفة الكانطية.
الطبيعة لا يمكن فهمها لأننا نسعى وراء الأسباب والعواقب في عالم لا يوجد فيه هذا النموذج. نحاول الوصول إلى الكينونة الداخلية للطبيعة، التي تنظر إلينا من كل ظاهرة (فينومينا)، بتوجيه من مبدأ العقل الكافي – في حين أن هذا هو مجرد الشكل الذي من خلاله يفهم عقلنا المظهر، أي سطح الأشياء، بينما نريد توظيفه خارج حدود المظهر؛ لأنه ضمن هذه الحدود يكون صالحًا وكافيًا.
3:16: هل أنت كانطي مثالي جديد؟
شوبنهاور: أقول إن الغموض التجريبي لجميع الأشياء الطبيعية هو دليل لاحق على المثالية والواقعية الظاهراتية لوجودها التجريبي. أنا أعتبر عقيدة كانط حول الترابط بين الحرية والضرورة أعظم إنجاز للعقل البشري. مع الجمالية المتسامية، تشكلان الماستين العظيمتين في تاج شهرة كانط …
3:16: من السمات اللافتة للنظر في مقاربتك لهذه الميتافيزيقيا الغامضة أنها تؤدي إلى مقاربة للعيش أليس كذلك؟ ينعكس هذا في التأثير الذي كان لديك على اتجاه الكانطية الجديدة والفلسفة الوضعية، مع تركيزك على الأسئلة المتعلقة بمعنى وقيمة الوجود الإنساني التي تلعب دورًا في “أزمة هوية الفلسفة” في القرن التاسع عشر، والتي يبدو أنها لا تزال تطارد الفلسفة- ما دفع بعض الكانطيين الجدد إلى دراسة القيم الإنسانية بتفسير عام؟ هل تقول أنه من الواجب أن نعيش مسترشدين بهذه الميتافيزيقيا؟
شوبنهاور: نعم، أنا فيلسوف عملي. يحول الفيلسوف النظري الحياة إلى أفكار. يحول الفيلسوف العملي الأفكار إلى حياة؛ هو فاعل، لذا بطريقة معقولة تمامًا؛ عمله متسق ومنتظم ومدروس؛ لا يكون متسرعًا أو عاطفيًا أبدًا، ولا يسمح لنفسه أبدًا بالتأثر بانطباعات اللحظة. فقط الميتافيزيقا هي في الواقع وعلى الفور دعامة الأخلاق التي هي في الأساس أخلاقية ومبنية من مادة الأخلاق، أي الإرادة. لذلك كان بإمكاني أن أطلق على الميتافيزيقيا عندي “أخلاقًا” بمنطق أفضل بكثير من سبينوزا. يبدو ذلك عنده وكأنه سخرية، لأن بمقدرته فقط عبر السفسطة أن ينقل الأخلاق إلى نظام لن تصدر عنه باستمرار أبدًا. وبتأكيد مقزز ينكر ذلك بشكل قاطع في الغالب.
3:16: لذلك عندما ننتقل إلى أسئلة حول ما يجب علينا فعله عندما تقابلنا هذه الميتافيزيقيا، تجد أن سبينوزا قاصر لأنه متفائل جدًا وكانط قاصر في ذلك أيضًا لأنه يدع مُثل العقلانية تتجاهل عواقب الإرادة: باختصار، أنت ضد حتمية كانط القاطعة، أليس كذلك؟ هل تعتقد أنه زهد عقلاني متطرف؟
شوبنهاور: الأخلاق معنية بالسلوك الفعلي للإنسان، وليس بالبناء المسبق لمنازل من ورق لا يمكن لأي إنسان أن يستلهم نتائجها في عاصفة وضغوط الحياة. الغرض من الأخلاق هو الإشارة إلى السلوك المتنوع للإنسان من وجهة نظر أخلاقية وشرحه وتعقبه إلى أرضيته النهائية. لقد أظهرتُ أن الإلزام الطبقي هي افتراض عديم الجدوى بشكل واضح لا جدال فيه، بحيث لا يمكن لأي شخص لديه شرارة من المنطق أن يؤمن بعد الآن بهذا الخيال. كان ذلك ممكناً فقط من خلال تعريف الرجل لنفسه “بالعقلاني” بشكل تام وفقًا للمفاهيم، وليس وفقًا لتغير الانطباعات والحالات المزاجية.
في الواقع، عقيدة كانط عن الفئات هي بالكامل مجرد ريح. يخون كانط وعيه بالطبيعة التي لا يمكن الدفاع عنها لعقيدته الخاصة بالفئات من خلال حقيقة أنه في الفصل الثالث من تحليل المبادئ (phaenomena et noumena) تم حذف عدة مقاطع طويلة من الطبعة الأولى في الثانية- المقاطع التي عرضت ضعف هذه العقيدة بشكل علني للغاية. لذلك، على سبيل المثال، يقول هناك إنه لم يحدد الفئات الفردية، لأنه لم يستطع تعريفها حتى لو كان يرغب في ذلك، طالما أنها كانت عرضة لعدم وجود تعريف. بقوله هذا نسي أنه في الطبعة الأولى قال: “تعمدت الاستغناء عن تعريف الفئات على الرغم من أنني قد أمتلكها”. لذلك، كما قلت، هذا مجرد ريح.
3:16: ماذا تضع في مكانها؟
شوبنهاور: بما أن مبادئ تصرفاتنا فقط، وليس العواقب أو الظروف، هي في نطاق سيطرتنا، يجب أن نأخذ المبادئ فقط كهدف لنا لنبقى دائمًا متسقين، وليس العواقب والظروف، وهكذا نرجع إلى عقيدة الفضيلة مرة أخرى.
3:16: أية فضيلة؟
شوبنهاور: لا تُفسح المجال للحب ولا للكراهية، هو نصف الحكمة الدنيوية: لا تقل شيئًا ولا تصدق شيئًا، هو النصف الآخر. التعاطف هو المخفف الأنجع غالبًا من أشكال المعاناة التي لا تعد ولا تحصى وتكتنف حياتنا ولا يفلت منها أحد، وفي الوقت نفسه، التعاطف هو الموازن للأنانية الحارقة التي تملأ جميع الكائنات وتتطور غالبًا إلى الحقد. إن التعاطف غير المحدود مع جميع الكائنات الحية هو الضمان الأوثق والأكثر تأكيدًا للسلوك الأخلاقي الحسن ولا يتطلب فتوى. من يمتلئ به لن يؤذي أحداً بالتأكيد، ولن يتعدى على أحد، ولن يعتدي على أحد، بل يتسامح مع الجميع، ويغفر للجميع، ويساعد الجميع قدر استطاعته، وكل أفعاله ستحمل بصمة العدل والإحسان المحب.
3:16: هل تعتقد أن هناك أخلاق موضوعية؟
شوبنهاور: بالطبع لا! الواجبات ببساطة ليس لها معنى أو مغزى إلا فيما يتعلق بالعقوبة التهديدية أو المكافأة الموعودة…. وهكذا كل الواجبات مشروطة بالضرورة بالعقوبة أو المكافأة، وبالتالي، بوضعها بمصطلحات كانط، هي أساسًا ولا محالة فرضية [مع شرطية] وأبدًا، لأنه يستخدم الفات [بدون الشرطية] … لذلك الواجبات المطلقة مجرد تناقض في الشروط – contradictio in adjecto.
3:16: لماذا تعتقد أنه ليس لدينا إرادة حرة بالطريقة التي يفهم بها معظم الناس المصطلح؟
شوبنهاور: من أجل توضيح مصدر هذا الخطأ بشكل خاص وواضح، دعونا نتخيل رجلاً يقف في الشارع ويقول لنفسه: “الساعة السادسة مساءً، انتهى يوم العمل. الآن يمكنني الذهاب في نزهة على الأقدام، أو الذهاب إلى النادي؛ يمكنني أيضًا تسلق البرج لرؤية غروب الشمس؛ يمكنني الذهاب إلى المسرح؛ يمكنني زيارة هذا الصديق أو ذاك؛ في الواقع، يمكنني أيضًا الركض خارج البوابة إلى العالم الواسع، ولن أعود أبدًا. كل هذا متروك لي تمامًا، ولدي في هذا الحرية الكاملة. ولكن لن أفعل أيًا من هذه الأشياء الآن، ولكن بإرادة حرة سأذهب إلى زوجتي في المنزل”. هذا تمامًا كما لو أن المياه تحدثت لنفسها: “يمكنني أن أصنع أمواجًا عالية (نعم! في البحر أثناء العاصفة)، يمكنني الاندفاع إلى أسفل التل (نعم! في قاع النهر)، يمكنني الغطس في الرغوة والتدفق (نعم! في الشلال)، يمكنني أن أرتفع بحرية كتيار من الماء في الهواء (نعم! في النافورة)، يمكنني أخيرًا أن أغلي وأختفي (نعم! عند درجة حرارة معينة)؛ لكنني لا أفعل شيئًا من هذا الأشياء الآن، وأنا أبقى طواعية المياه الهادئة والصافية في البركة الرائقة.
3:16: إذن هل إرادة طبائعنا الداخلية، التي ليس لنا سيطرة عليها، هي التي تحدد أفعالنا وأفكارنا؟
شوبنهاور: نعم. يقول سبينوزا أنه إذا كان للحجر الساقط في الهواء وعي، فسوف يعتقد أنه يتحرك بمحض إرادته. أضيف هذا فقط، أن الحجر سيكون على حق. الدافع المعطى للحجر هو الحافز بالنسبة لي، وما يظهر في حالة الحجر على أنه تماسك، وجاذبية، وصلابة، هو في طبيعته الداخلية نفس الشيء الذي أدركه في نفسي على أنه إرادة، وما سيدركه الحجر أيضًا على أنه إرادة لو أعطيت له المعرفة. يمكن للرجل أن يفعل ما يريد ولكن لا أن يريد ما يريد.
3:16: إذن ليس هناك سبب فريد causa sui يمنحنا الإرادة الحرة من خلال الهروب من الحتمية؟
شوبنهاور: بالطبع لا! المُمثل الحقيقي للسبب هو بارون ’مونشهاوزن، الذي شد ساقيه حول حصانه وهو يغرق في الماء، وسحب جديلته فوق رأسه ورفع نفسه والحصان إلى الأعالي؛ تحت هذا المثال، ضع: causa sui.
3:16: إذن هل كلنا مُصيرون بيولوجيًا؟
شوبنهاور: القدر يخلط الأوراق ونحن نلعب بها. حياة الفرد مستعارة فقط من حياة الأنواع. ضع في اعتبارك، أن ما يسميه الناس عادة بالقدر هو في الغالب غباءهم.
3:16: أنت تربط “الإرادة” بالمعاناة، أليس كذلك؟
شوبنهاور: تنبع الإرادة بكليتها من النقص والعجز وبالتالي من المعاناة. والإشباع ينهي ذلك؛ ولإشباع أمنية واحدة، مع ذلك، تحرم العشرات. علاوة على هذا، تستمر الرغبة لفترة طويلة، وتتواصل الطلبات إلى ما لا نهاية، بينما الإشباع مقتصد وقصير الأمد. وحتى الرضا النهائي نفسه ظاهري فقط؛ الرغبة التي تُشبع تفسح المجال لرغبة جديدة؛ الأولى وهم معروف، والأخيرة لم تعرف بعد. لا يوجد هدف محقق للإرادة يمكن أن يمنح رضى دائم ولا يضمحل… من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، دمج الغاية مع مظهرها السطحي. في الواقع هذه لعنة هذا العالم من العوز والحاجة، أن كل شيء يجب أن يخدمها ويستعبد لها؛ وبالتالي، لم يوجد لذاته أو يُشكل دون عوائق أي جهد نبيل وسامي، مثل السعي وراء النور والحقيقة.
3:16: هل هذا سبب اعتقادك أننا لا نصل للرضا أبدًا؟
شوبنهاور: نعم. طالما يغص وعينا بإرادتنا، طالما نسلم أنفسنا لتدفق الرغبات بآمالها ومخاوفها المستمرة، طالما أننا خاضعون للإرادة، فلن نحصل أبدًا على السعادة أو السلام الدائمين…

3:16: هل يمكنك تلخيص ما هي هذه الإرادة؟
شوبنهاور: الإرادة كشيء في ذاته كاملة وغير منقسمة في كل كائن، تمامًا كما أن المركز جزء لا يتجزأ من كل نصف قطر؛ في حين أن الطرف المحيطي لهذا القطر هو في أحم دوران مع السطح الذي يمثل الوقت ومحتوياته، والطرف الآخر في المركز حيث يكمن الخلود، يظل في سلام عميق، لأن المركز هو النقطة التي لا يختلف عندها النصف المرتفع عن النصف الغارق. لذلك يقال أيضًا في ’باهغفاد غيتا: “غير منقسمة تقطن في الكائنات، ومع ذلك كونها قسمت، ستعرف كالمعيل والمفني والمنتج للكائنات”. هنا، بالطبع، نقع في اللغة الصوفية والمجازية، لكنها اللغة الوحيدة التي يمكن أن يقال بها أي شيء عن هذا الموضوع المتسامي تمامًا.
3:16: إذن، هل أسلوبك في الحياة يشبه إلى حد ما البوذي أو الرواقي الذي يسعى لتخليص الرغبة من أمر الإرادة ذاك؟
شوبنهاور: نعم. إن كنت سأعتبر نتائج فلسفتي كمعيار للحقيقة، لاعتبرت البوذية الأفضل بين جميع الأديان. لا يطلب الرجل الحكيم المتعة بل التحرر من الرعاية والألم. الإنسان هو حلم ظل. من بين كل أحداث حيواتنا يمكننا أن نعين لحظة واحدة فقط في الحاضر؛ ثم إلى الأبد، تصبح ماضيًا. كل مساء نحن أفقر بيوم. ربما شعرنا بالجنون لرؤية مدى سرعة انحسار الفترة الزمنية القصيرة؛ كما لو أننا ندرك سرًا في أعماقنا نصيبنا من نبع الخلود المستنفد، حتى نتمنى دائمًا العثور على الحياة فيه مرة أخرى. تكمن معظم معاناتنا في التأمل أو التوقع.
3:16: بوذي جدًا، يشبه إلى حد ما تصور ماهايانا للتعاطف في “طريقة البوذية”. وتتوافق آرائك حول المعاناة مع تعاليم بوذا شاكياموني أيضًا. هل تقول أن رؤية حقيقة مصيرنا هو بداية الحياة الفاضلة والمخرج من رعب الألم والمعاناة في الحياة؟
شوبنهاور: تقول الحكمة القديمة للفلاسفة الهنود: “إنه مايا، حجاب الخداع، الذي يعمي أعين الفانين، ويجعلهم يرون عالمًا لا يمكنهم أن يجزموا بوجوده أو لا: لأنه مثل الحلم. مثل أشعة الشمس على الرمال يظنها المسافر من بعيد ماءً، أو قطعة حبل يخطئها ثعبانًا”. إنها رواقية أيضًا، ومنسجمة مع روح الرواقية وهدفها، يبدأ إبيكتيتوس بها ويعود إليها باستمرار باعتبارها نواة فلسفته، التي يجب أن نضعها في الاعتبار ونميز ما يعتمد علينا وما لا يعتمد عليه، وبالتالي لا ينبغي الاعتماد على الأخير أبدًا. وبهذه الطريقة سنبقى بالتأكيد متحررين من كل الآلام والمعاناة والقلق.
ما يعتمد علينا هو الإرادة وحدها، وهنا يحدث الانتقال تدريجيًا إلى عقيدة الفضيلة، حيث يُلاحظ أنه بما أن العالم الخارجي المستقل عنا يحدد الحظ الجيد والسيئ، فإن الرضا الداخلي أو عدم الرضا عن أنفسنا عائد إلى الإرادة. ولكن سُئل لاحقًا عما إذا كان ينبغي أن ننسب الاسمين “bonum et malum” (الجيد والسيء) إلى الاثنين السابقين أو إلى الاثنين اللاحقين. كان هذا حقًا اعتباطيًا ومسألة اختيار، ولم يحدث فرقًا.
3:16: ماذا عن الأشياء المثيرة في الحياة، وحشيتها ومخاطرها، وترفيهها؟
شوبنهاور: سيسعى الفيلسوف الحقيقي عمومًا إلى الوضوح والشفافية، وسيحاول دائمًا ألا يكون مثل تيار عكر، هائج، مليء بالمطر، بل أن يشبه إلى حد كبير بحيرة سويسرية تجمع في هدوءها، بين العمق والوضوح الذي يكشف عن عمقها العظيم.
3:16: يبدو كحفلة مملة.
شوبنهاور: إن المحنة الكبيرة لجميع التافهين أمثالك يا ريتشارد أنهم لا يهتمون بالأفكار، وأنهم في حاجة دائمة إلى الحقائق ليتجنبوا الشعور بالملل. لكن الحقائق إما غير مرضية أو خطيرة، وعندما يفقدون اهتمامهم يصبحون مرهَقين. لكن العالم المثالي غير محدود وهادئ، شيء بعيد عن دائرة أحزاننا.
3:16: يبدو الأمر كما لو أنه لا يجب أن نهتم بذواتنا؟
شوبنهاور: لا أبًدا. لو لم نهتم بأنفسنا إطلاقًا، لكانت الحياة غير مثيرة للاهتمام بحيث لا يستطيع أحد منا تحملها.
3:16: لكن التغلب على إرادة الحياة هو ما تنصح به، مثل “الطريق الأوسط” للماهايانا البوذية، كوسيلة للتغلب على المعاناة. فهل يجعلك هذا زاهدًا؟
شوبنهاور: بالطبع! الزهد هو إنكار إرادة الحياة؛ والانتقال من العهد القديم إلى الجديد، من سيادة القانون إلى الإيمان، من التبرير بالعمل إلى الفداء عبر وسيط، من نطاق الخطيئة والموت إلى الحياة الأبدية في المسيح، مما يعني، بالمعنى الحقيقي، الانتقال من مجرد فضائل أخلاقية إلى إنكار إرادة الحياة.
3:16: إذن تستبدل عالم العدل الخالص بعالم العدل الذي تلطفه الرحمة؟ هذا جذاب وإنساني. لكن يبدو أنه عندما أتخلص من إرادة الحياة لا يتبق لي شيء؟
شوبنهاور: حسنًا، ما يتبقى بعد القضاء الكامل على الإرادة، بالنسبة لكل الذين ما زالوا مملوءين بالإرادة، هو بالتأكيد لا شيء. ولكن على العكس من ذلك، بالنسبة لأولئك الذين تحولت عندهم الإرادة وأنكرت نفسها، فإن عالمنا الحقيقي بكل شموسه ومجراته هو- لا شيء. يمكنك أيضًا تسمية نمط حياتك بأنه أعظم حماقة: لأن ما يختفي في لحظة، تمامًا مثل حلم، لا يستحق أي جهد جاد.
الحياة نفسها عبارة عن بحر مليء بالصخور والدوامات التي يتجنبها الإنسان بأكبر قدر من الحذر والعناية، على الرغم من علمه أنه حتى عندما ينجح في كل جهوده وإبداعه في النضال، يقترب في كل خطوة من حطام السفينة الكلي الذي لا مفر منه ولا يمكن إصلاحه، بل إنه يقود مباشرة نحوه؛ الموت. هذا هو الهدف الأخير من الرحلة المرهقة، وهو أسوأ بالنسبة له من كل الصخور التي تجنبها.
3:16: لكن لماذا تعتقد أنه لا يجب أن نهدف إلى أن نكون سعداء؟ حتى لو كان العالم مكانًا فظيعًا جدًا، حتى لو فشلنا، فمن الواجب بالتأكيد أن نسعى للحصول على بعض السعادة؟ علينا أن نعطي للجميع – وربما الشباب على وجه الخصوص – إحساسًا بأن السعادة يمكن بلوغها؟
شوبنهاور: ما يزعج الشباب ويحبطهم هو البحث عن السعادة باعتبارها فرض راسخ يجب بلوغه في الحياة. ينشأ عن هذا الأمل المضلل وكذلك عدم الرضا. صور خادعة لسعادة غامضة تحوم أمامنا في أحلامنا، ونبحث عبثًا عن منبعها. كان من الممكن كسب الكثير إذا مُكن الشباب، عبر النصائح والتعليمات الملائمة، من استئصال الفكرة الخاطئة بأن العالم لديه الكثير ليقدمه لهم. يوجد سوى خطأ فطري واحد، هو فكرة أننا موجودون من أجل أن نكون سعداء. طالما نستمر في هذا الخطأ الفطري، فإن العالم سيبدو لنا مليئًا بالتناقضات. في كل خطوة، في الأشياء الكبيرة والصغيرة، نحن ملزمون بتجربة أن العالم والحياة بالتأكيد ليسا مُشكلين لغرض الحفاظ على وجود سعيد، ومن هنا تظلل مظاهر ما يسمى فقدان الأمل محيا كل كبار السن تقريبًا.
لا يكون الرجل سعيدًا أبدًا، ولكنه يقضي حياته كلها في السعي وراء شيء يعتقد أنه سيجعله كذلك؛ نادرًا ما يصل إلى هدفه، وعندما يفعل، فلكي يصاب بخيبة أمل فقط؛ هو حطام سفينة، يرسو في الميناء من دون صاري ولا سارية. وبعد ذلك، الأمر سواء أكان سعيدًا أم بائسًا. لأن حياته لم تكن أبدًا أكثر من لحظة حاضرة تتلاشى باستمرار؛ والآن انتهت.
3:16: هل تعتقد أن التغلب على الألم أهم من تجربة المتعة؟
شوبنهاور: السعادة القصوى لا أن تكون قد اختبرت أروع المسرات أو أعظم الملذات، بل أن تُنهي الحياة دون أي ألم فظيع، جسديًا أو عقليًا.
3:16: إذا كانت الحياة فظيعة، فلماذا تستمر؟ هل يجب علينا جميعًا أن ننتحر ولا نتكاثر أبدًا؟
شوبنهاور: يقولون لنا أن الانتحار هو أعظم جبن. أن المجنون فقط يمكن أن يذنب بارتكابه؛ وغير ذلك من التفاهات على نفس السياق؛ أو يقدمون ملاحظة لا معنى لها مفادها أن الانتحار خطأ؛ عندما يكون من الواضح تمامًا أنه لا يوجد شيء في العالم مما يمتلكه الإنسان لا يمكن تعويضه أكثر من حياته وشخصه. لكن الموت هو العبقري الملهم الحقيقي، أو مصدر إلهام الفلسفة، لذلك عرّف سقراط الأخير بأنه θανάτου μελέτη (دراسة الموت). في الواقع، من دون الموت، نادرًا ما يتفلسف الرجال. من فقد كل أمل فقد كل خوف أيضًا.
بالنسبة للتكاثر: إذا جُلب الأطفال إلى العالم بفعل العقل الخالص وحده، فهل سيستمر الجنس البشري؟ ألن يملك الرجل من التعاطف مع الجيل القادم ما يجنبه عبء الوجود، أو ألا يأخذ على عاتقه بأي حال أن يفرض بدم بارد هذا العبء على الجيل القادم؟ لوضع كل هذا معًا يا ريتشارد: تتضاءل إرادة الفرد أمام إرادة النوع- مقابل كل انتحار هناك آلاف الولادات الغير مرغوبة.
3:16: إذن نحن نستمر بالرغم من عدم وجود خطأ في الانتحار وأسباب وجيهة لعدم إنجاب الأطفال. يمكننا العيش إذا أردنا، ولكن كواقعيين؟
شوبنهاور: بالفعل. بكلمات أخرى، يجب أن نعيش مع المعرفة الحقة بمسار الأشياء في العالم. فعندما يفقد الرجل ضبط النفس بأي شكل من الأشكال، أو يصيبه سوء الحظ، أو يغضب، أو يضيع قلبه، يظهر بهذه الطريقة أنه يجد أشياء مختلفة عما كان يتوقعه، وبالتالي أنه جاهد تحت خطأ، لم يعرف العالم والحياة، لم يعرف كيفية تجاوز إرادة الفرد وإحباطها في كل خطوة من خلال فرص الطبيعة الهامدة، من خلال أهداف ونوايا مضادة، حتى من خلال الخبث المزروع في الآخرين. لذلك إما أنه لم يستخدم عقله للوصول إلى معرفة عامة بخاصية الحياة هذه، أو أنه يفتقر إلى قوة الحكم، عندما لا يدرك مرة أخرى على وجه الخصوص ما يعرفه بشكل عام، وعندما يتفاجأ بذلك بالتالي، ويفقد سيطرته على نفسه. وهكذا، فإن كل متعة قوية هي خطأ، وهم، حيث لا يمكن لأي رغبة محققة أن تقدم الرضا بشكل دائم، وأيضًا لأن كل امتلاك وكل سعادة تُقترض فقط عن طريق الصدفة لفترة غير محددة، ومن هنا يمكن المطالبة بها مرة أخرى في الساعة التالية. وبالتالي نشأ كلاهما من المعرفة المعيبة. لذلك فإن الرجل الحكيم دائمًا ما يكون بمعزل عن الابتهاج والحزن، ولا حدث يُقلق كسله.
3:16: يبدو كوحدة بعض الشيء؟
شوبنهاور: ما هية المرء في ذاته، وما يرافقه عندما يكون وحيدًا، وما لا يستطيع أحد أن يعطيه أو يسلبه، من الواضح أنه أكثر أهمية بالنسبة له من كل ما يمتلكه، أو حتى ما قد يكون في عيون العالم. يتمتع الرجل المثقف المنعزل عزلة تامة بتسلية ممتازة مع أفكاره وأوهامه، بينما لا يمكن لأي قدر من التنوع أو المتعة الاجتماعية، والمسارح، والرحلات، والتسلية، أن يطرد الملل عن أبله.

3:16: تُشبه المجتمع بمستعمرة قنافذ، أليس كذلك؟
شوبنهاور: إنها استعارة مفيدة! يتجمع عدد من النيصان معًا للدفء في يوم بارد في الشتاء؛ لكن عندما يبدؤون وخز بعضهم البعض بأشواكهم، يضطرون للتفرق. إلا أن البرد يجلبهم سويًا مرة أخرى، ويحدث نفس الأمر. أخيرًا، بعد عدة دورات من التجمهر والتشتت، يكتشفون أنه من الأفضل لهم البقاء على مسافة قصيرة من بعضهم البعض. وبنفس الطريقة، فإن حاجة المجتمع تجلب النيص البشري سويًا، فقط ليصدوا بعضهم عبر العديد من الصفات الشائكة والبغيضة في طبيعتهم. المسافة المعتدلة التي اكتشفوا أخيرًا أنها الشرط الوحيد المسموح به للتقارب، هي قواعد الأدب والأخلاق الحميدة؛ ويقال للذين يخالفونها -بالعبارة الإنجليزية- أن يحافظوا على حدود المسافة. تُلبا عبر هذا الترتيب الحاجة المتبادلة للدفء بشكل معتدل؛ فقط حينها لا يوخز الناس. المرء الذي لديه بعض الحرارة في ذاته يفضل البقاء في الخارج، حيث لا يخز الآخرين ولا يخز نفسه.
3:16: هل المجتمع، وأن نكون اجتماعيين، أشياء يجب أن نتجنبها إذن؟
شوبنهاور: ليس تمامًا. كبوصلة موثوقة لتوجيه نفسك في الحياة، ليس هناك ما هو أكثر فائدة من تعويد نفسك على اعتبار هذا العالم مكانًا للتكفير، نوعًا من المستعمرة العقابية. عندما تنتهي من ذلك، سترتب توقعاتك للحياة وفقًا لطبيعة الأشياء ولن تستمر في اعتبار مصائب ومعاناة وعذابات وبؤس الحياة شيئًا غير منتظم ولا يمكن توقعه، بل ستجدها منتظمة بالكامل، مع العلم جيدًا أن كل واحد منا يعاقب على وجوده وكلٌ على طريقته الخاصة. ستمكننا هذه النظرة من رؤية ما يسمى بعيوب غالبية البشر، أي عيوبهم الأخلاقية والفكرية وتعابير الوجه الناتجة عنها، دون مفاجأة وبالتأكيد دون سخط: لأننا يجب أن نضع في اعتبارنا دائمًا أين نحن ونعتبر تبعًا لذلك أن كل إنسان أولاً وقبل كل شيء كائن موجود فقط نتيجة جنايته وحياته هي تكفير عن جريمة الولادة.
3:16: إذن العزلة هي شيء تدرب نفسك على حيازته بغض النظر عما تفعله؟
شوبنهاور: دعني أنصحك بتكوين عادة أخذ شيء من وحدتك معك إلى المجتمع، لتتعلم أن تكون وحيدًا إلى حد ما على الرغم من أنك مع صحبة؛ عدم قول ما تعتقده على الفور، ومن ناحية أخرى، عدم تعليق معنى دقيق للغاية بما يقوله الآخرون؛ بدلاً من ذلك، لا تتوقع الكثير منها، أخلاقياً أو فكرياً، وقوي نفسك على الشعور بعدم المبالاة بآرائهم، وهي الطريقة الأضمن لممارسة التسامح الجدير بالثناء. إذا قمت بذلك، فلن تعيش كثيرًا مع الآخرين، على الرغم من ظهورك وكأنك تتنقل بينهم: ستكون علاقتك بهم ذات طابع موضوعي بحت. سوف يمنعك هذا الترتيب من الاتصال الوثيق بالمجتمع، وبالتالي يحميك من التعرض للتلوث أو حتى الغضب منه. المجتمع في هذا الصدد مثل النار- الرجل الحكيم يدفئ نفسه على مسافة مناسبة منها. لا يقترب كثيرًا مثل الأحمق الذي يهرب عندما يحترق، ويرتعد في عزلة شاكيًا بصوتٍ عالٍ أن النار تحرق.
3:16: على سبيل كبح المبالغة، هناك أولئك الذين قد يجادلون بأن هناك قيمًا إيجابية لكونك اجتماعيًا، وأننا نتعلم أن نحب ونحترم الآخرين وأنفسنا عبر التفاعلات الاجتماعية. أنا شخصياً أحب التواصل الاجتماعي وأثناء فترة الحظر، شعر الكثير من الناس بالاكتئاب لأنهم لم يتمكنوا من التواصل الاجتماعي. ماذا ستقول لهذا النمط من التفكير؟
شوبنهاور: الأوغاد دائمًا ما يكونون اجتماعيين يا ريتشارد، والعلامة الرئيسية على فقدان الرجل لأي نبل في شخصيته هي استمتاعه برفقة الآخرين.
3:16: يعتقد بعض الناس أن كونك مهذبًا هو أمر زائف وأن تكون فظًا هو أمر صادق – هل توافق؟
شوبنهاور: الزيف ليس دائمًا سيئًا. إنه لأمر حكيم أن تكون مهذبًا؛ وبالتالي، من الغباء أن تكون وقحًا. إن صنع أعداء عن طريق الفظاظة غير الضرورية والمتعمدة، هو إجراء مجنون مثل إضرام النار في منزلك. لأن الأدب مثل العداد – عملة كاذبة مصرحة، ومن الحماقة أن تكون بخيلًا بها.
3:16: ما رأيك في الوقوع في الحب والزواج وما إلى ذلك؟
شوبنهاور: بما أن الحب خداع تمارسه الطبيعة، فإن الزواج هو استنزاف للحب ويجب أن يكون مخيباً للآمال. الفيلسوف فقط يمكن أن يكون سعيدًا بالزواج والفلاسفة لا يتزوجون.
3:16: لكنك ترى أيضًا علامات على طبيعتنا الحقيقية في الأشخاص الذين هم في حالة حب، أليس كذلك؟
شوبنهاور: لماذا يتعلق الرجل الواقع في الحب باستسلام تام في عيني عشيقته، وهو مستعد لتقديم كل تضحية من أجلها؟ لأن شقه الخالد يشتاق إليها؛ إنه دائمًا الجزء الفاني وحده الذي يتوق إلى كل شيء آخر. هذا الشوق الشغوف والمتحمس، الموجه إلى امرأة معينة، هو إذن تعهد فوري بعدم قابلية نواة طبيعتنا الحقيقية للتدمير …
3:16: إذن ما نوع الحياة التي يجب أن نطمح إليها إن لم تكن الحياة السعيدة؟ إذا كانت الحياة بلا قيمة، فماذا نفعل؟
شوبنهاور: إذا امتلكت الحياة -التوق الذي هو جوهر وجودنا- أي قيمة جوهرية إيجابية، فلن يكون هناك شيء مثل الملل على الإطلاق: مجرد الوجود سوف يرضينا في حد ذاته، ولن نريد شيئًا. الحياة السعيدة مستحيلة، وأعلى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان هو الحياة البطولية؛ مثل حياة المرء الذي يقاتل دائمًا ضد الصعاب غير المتكافئة لصالح الآخرين؛ ويفوز في النهاية دون أي شكر. بعد انتهاء المعركة، يقف مثل الأمير في ردهة Gozzi، بكرامة ونبل في عينيه، لكنه تحول إلى حجر. تبقى ذكراه، وسوف يُبجل كبطل؛ إرادته التي أماتها طوال حياته عبر الكد والكفاح، من خلال الجزاء الشرير والجحود، تُستوعب في نيرفانا.
ما وصفته هنا بلسان ضعيف وبالعبارات فقط، ليس حكاية فلسفية اخترعتها بنفسي اليوم فقط. لا، لقد كانت الحياة التي يُحسد عليها الكثير من القديسين والأرواح الجميلة بين المسيحيين، وأكثر من ذلك بين الهندوس والبوذيين وأيضًا بين المؤمنين بالديانات الأخرى.
3:16: ومع ذلك، تأتي هذه البطولة من مكان كئيب نوعًا ما؟
شوبنهاور: هناك بعض الحكمة في تبني النظرة القاتمة، والنظر إلى العالم على أنه نوع من الجحيم، وحصر جهود المرء في تأمين حيز صغير لا يتعرض للنار.
3:16: أحب الضحك. تبدو جافًا وجادًا بعض الشيء طوال الوقت. هل تقدر روح الدعابة؟
شوبنهاور: روح الدعابة هي الصفة الإلهية الوحيدة في الإنسان.
3:16: هل هناك شر يتجاوز طبيعة الحياة الرهيبة؟
شوبنهاور: لا، الشر هو فقط ما هو إيجابي. يجعل وجوده ذاته محسوسًا.
3:16: تعتقد أن الفن مهم أليس كذلك، وترى أن الشعر والفلسفة مرتبطان بطريقة ما؟
شوبنهاور: ما يمكن تسميته الجزء الأرقى من الحياة، أنقى متعها، لأنه يخرجنا من الوجود الحقيقي ويحولنا إلى متفرجين غير مهتمين به، هو معرفة نقية تظل غريبة عن كل إرادة، متعة في الجمال، متعة حقيقية في الفن. يرتبط الشعر بالفلسفة لأن الخبرة مرتبطة بالعلوم التجريبية. تجعلنا التجربة نتعرف على الظاهرة في الخاص وعبر الأمثلة، يحتضن العلم كل الظواهر من خلال المفاهيم العامة. لذلك يسعى الشعر إلى تعريفنا بالأفكار الأفلاطونية عبر الخاص ومن خلال الأمثلة. تهدف الفلسفة إلى تدريس الطبيعة الداخلية للأشياء ككل وبشكل عام والتي تعبر عن نفسها فيها. يرى المرء حتى هنا أن الشعر يحمل طابع الشباب أكثر، وفلسفة الشيخوخة. والموسيقى هي تمرين غير واعٍ في الميتافيزيقا حيث لا يعرف العقل أنه يتفلسف، هي نسخة من الإرادة نفسها.
3:16: تضع قيمة عالية أيضًا في الصداقة وتربط هذا بفهم التعاطف والعلاقة الحميمة بين العالم والأنا – لذا مرة أخرى هل تقر الميتافيزيقيا الصداقة؟
شوبنهاور: المرء السيئ (أي غير المتعاطف) يشعر بحاجز سميك في كل مكان بينه وبين كل شيء خارجه. إن العالم بالنسبة له لا-أناة مطلقة وعلاقته به عدائية بالدرجة الأولى؛ وبالتالي فإن الفكرة الأساسية في تصرفه هي الكراهية، الحقد، الشك، الحسد، والبهجة عند رؤية محن الآخر. الشخصية الجيدة، من ناحية أخرى، تعيش في عالم خارجي متجانسة مع كيانها الحقيقي. الآخرون ليسوا لا-أناة بالنسبة لها، ولكن “أنا مرة أخرى”. وبالتالي، فإن علاقتها الأساسية مع الجميع ودية؛ فهي تشعر بنفسها قريبةً جدًا من جميع الكائنات، وتهتم فورًا بخيرهم وبؤسهم، ويفترض بثقة نفس التعاطف معهم. نتائج هذا هي سلامها الداخلي العميق ومزاجها الواثق والهادئ والرضا الذي يسعد به الجميع عندما يكون في متناول اليد.
3:16: لا يقف تعاطفك عند البشر، أليس كذلك؟
شوبنهاور: التعاطف أساس الأخلاق. إن الافتراض بأن الحيوانات بلا حقوق والوهم بأن معاملتنا لها ليس لها أهمية أخلاقية هو مثال شائن بشكل إيجابي على الفظاظة والهمجية الغربية. الرحمة العالمية هي الضمان الوحيد للأخلاق. ترتبط الرأفة بالحيوانات ارتباطًا وثيقًا بصلاح الشخصية، ويمكن التأكيد بثقة على أنه لا يمكن أن يكون الشخص الذي يتصرف بقسوة مع الحيوانات رجلاً صالحًا.
3:16: لقد قلت بعض الأشياء المتحيزة ضد النساء. هل أنت متحيز جنسيًا؟
شوبنهاور: يا لك من أحمق! لم أنطق بعد بكلمتي الأخيرة عن النساء. أعتقد أنه إذا نجحت المرأة في الانسحاب من الجموع، أو بالأحرى رفع نفسها من فوق الجماهير، فإنها ستنمو بلا توقف وأكثر من الرجل.
3:16: نحن نعيش في زمن أخلاقي للغاية ومنهجك: “عش ودع غيرك يعيش” لا يبدو أنه ناجح. لماذا تعتقد أن هذا الموقف الجديد خاطئ؟
شوبنهاور: لا ينبغي لأي شخص يعيش بين البشر أن يتجاهل تمامًا أي شخص له المكانة التي يستحقها في ترتيب الطبيعة، حتى لو كان شريرًا جدًا أو حقيرًا أو سخيفًا. يجب أن يقبله كحقيقة غير قابلة للتغيير- غير قابلة للتغيير لأنه النتيجة الضرورية لمبدأ أساسي أبدي؛ وفي الأوضاع السيئة، يجب أن يتذكر كلمات مفيستوفيليس: es muss auch solche Käuze geben – يجب أن يكون هناك حمقى ومحتالون في العالم. إذا تصرف بخلاف ذلك، فسوف يرتكب ظلمًا، ويقدم تحدي الحياة والموت للمرأ الذي يتجاهله.
لا يمكن لأحد أن يغير شخصيته الخاصة، أو شخصيته الأخلاقية، أو قدرته الفكرية، أو مزاجه، أو جسده؛ وإذا ذهبنا إلى حد إدانة المرء بكل وجهة نظر، فلن يتبقى له شيء سوى جرنا إلى صراع مميت؛ لأننا نسمح له عمليًا بالحق في الوجود فقط بشرط أن يصبح رجلاً آخر- وهو أمر مستحيل؛ طبيعته تمنع ذلك.
3:16: الشعبوية السامة الصاخبة هي أيضًا مشتعلة بالغضب، مترافقة بالمبالغة والغوغاء الغاضبين حتى في الجامعات ووسائل الإعلام. هل يزعجك هذا الأمر؟
شوبنهاور: حسنًا، إذا أردت كسب عرفانٍ لعمرك، فعليك مواكبة ذلك. ولكن إذا فعلت ذلك فلن تُنتج شيئًا عظيمًا. إذا كان لديك شيء رائع تنقله للأجيال القادمة: من المؤكد أنه عندها فقط ستبقى غير معروف لمعاصريك؛ ستكون مثل رجل مجبر على قضاء حياته في جزيرة صحراوية وهناك يكدح في إقامة نصب تذكاري حتى يعرف البحارة المستقبليون أنه كان موجودًا من قبل. عبر إهمال هذه القاعدة، أصبح العديد من الرجال العبقريين والعلماء الكبار ضعيفي التفكير وطفوليين، أو حتى جن جنونهم مع تقدمهم في السن.
حتى لا نأخذ أمثلة أخرى، لا يوجد شك أن الشعراء الإنجليز المشهورين في الجزء الأول من القرن: سكوت، ووردزورث، سوثي، أصبحوا مملين فكريًا وعاجزين في نهاية أيامهم، بل بعد فترة وجيزة من مرور عامهم الستين؛ وأن غباءهم يمكن إرجاعه إلى حقيقة أنهم كانوا مدفوعين في تلك الفترة من الحياة بالوعد بأجر مرتفع، أي معاملة الأدب كتجارة والكتابة مقابل المال. أغواهم هذا لإساءة استخدام قواهم الفكرية بشكل غير طبيعي. وسيتعين على الرجل الذي يرسن بيغاسوس الخاص به، ويحث عرافة إلهامه بالسوط، تحمل عقوبة مماثلة لتلك التي تفرضها إساءة استخدام أنواع أخرى من السلطة.
بالنسبة لوسائل الإعلام: إن المبالغة بكل معنى الكلمة ضرورية للكتابة الصحفية كما هي للكتابة المسرحية: فالمقصود هو تحقيق أكبر قدر ممكن من كل حدث. حتى يكون كل كتاب الصحف، من أجل تجارتهم، مذعورين: هذه طريقتهم في جعل أنفسهم ممتعين. إذا كان هذا العالم مليئًا بكائنات مفكرة حقًا، فسيكون من المستحيل السماح بمرور جميع أنواع الضوضاء وإعطائها نطاقًا غير محدود، حتى أكثرها فظاعة وعديم الهدف. لكن لو قصدت الطبيعة الإنسان للتفكير، لما أعطته آذانًا، أو على أي حال لزودته بزوائد محكمة الغلق، كما هو الحال مع الخفافيش التي أحسدها لهذا السبب.
3:16: ما أهمية اللغة لفلسفتك؟ ترى أن لها قيمة تنسيقية أليس كذلك؟
شوبنهاور: نعم. فقط بمساعدة اللغة يحقق العقل أهم إنجازاته، أي العمل المنسجم والمتسق للعديد من الأفراد، والتعاون المخطط لآلاف، والحضارة، والدولة؛ وبعد ذلك العلم، وتخزين الخبرة السابقة، والتلخيص في مفهوم واحد ما هو مشترك، ونقل الحقيقة، ونشر الخطأ، والأفكار والقصائد، والعقائد والخرافات. يتعلم الحيوان أن يعرف الموت فقط عندما يموت، لكن الإنسان يقترب من موته بوعي كل ساعة؛ وهذا يجعل الحياة في بعض الأحيان عملاً محفوفًا بالمخاطر، حتى بالنسبة للرجل الذي لم يدرك بالفعل طابع الفناء المستمر هذا في الحياة نفسها بكليتها.
3:16: هل سيكون العالم مكانًا أفضل إذا عاملنا الجميع بكرامة؟
شوبنهاور: لا. إن طريقة الحد من الكراهية والازدراء هي بالتأكيد ليس البحث عن “كرامة” الرجل المزعومة، بل على العكس من ذلك، اعتباره موضع شفقة. يبدو لي أن فكرة الكرامة لا يمكن تطبيقها إلا بمعنى ساخر على كائن تكون إرادته شريرة للغاية، وعقله محدود للغاية، وجسمه ضعيف وقابل للتلف مثل الإنسان. كيف يفتخر الإنسان، والحبل به جريمة، ومولده عقوبة، وحياته عمل، والموت ضرورة!
3:16: أخيرًا، هناك شاب يدعى نيتشه يأتي برد على تشاؤمك. هل تعتقد أنه على حق عندما يقول أن المشكلة ليست في المعاناة في حد ذاته ولكن في المعاناة بلا معنى، وبالتالي فإن تشخيصك خاطئ؟ كما أنه يرفض أي شكل من أشكال الزهد.
شوبنهاور: الحقائق الأخلاقية الفعلية بجانبي بقوة لدرجة أني لا أخاف إمكانية استبدال أو ازعاج نظريتي من قبل أي نظرية أخرى.
3:16: هل يمكنك التوصية بخمسة كتب ستساعدنا في التعمق أكثر في عالمك الفلسفي؟
شوبنهاور: لا، سأعطيك ستة.






ترجمها: رافاييل لايساندر
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.