التصنيفات
مجتمع أفكار

نتأخر من حيث نظن أننا نتطور

عن شرور التقنية

كثيراً ما نتغنّى برغبتنا الشديدة في العودة إلى الحياة الريفيّة البسيطة، حيث نستيقظ مع بزوغ الفجر، نستمتع بشروق الشمس، نتأمل الأخضر اللانهائي، ننهي مهامنا قرابة الظهيرة، فنأخذ قيلولة، لنعاود النشاط، متآلفين مع كلّ ماحولنا، وكأنّنا في تناغمٍ مع هذا الكون، فنستيقظ حين يستيقظ وننام حين ينام، دون أضواءٍ في المساء، دون هواتف، دون إنترنت، تكفينا أمسيةً عائليةً بسيطة نشرب بها الشاي، أو تمشيةً مع أحد الجيران أو الأصدقاء نُخرج فيها ما في جعبتنا من أحلامٍ وهمومٍ وأماني.

تمجيد حياة الريف منحى دعا إليه الكثير من المؤثرين وعلى رأسهم الكاتب البرازيلي “أزيفيدو” في روايته حياة الريف، التي دافع فيها عن اقتناعه بمبدأ الميل إلى الطبيعة واعتبار حياة المدينة شرٌ محض، فحتّى ديوانه الشعري “الأيام” عبّر فيه عن لا إنسانية ظروف المعيشة في المدينة، وعن حنينه الدائم إلى الطمأنينة في حياة الريف.

من الريفيّة إلى التمدّن:

لم يكن الانتقال من الحياة البسيطة إلى الحياة المعقدة طفرةً طرأت على الكوكب، إنّما هو تدرّجٍ كان من الممكن التحكم به، ولعلّنا لغاية اليوم لم نتقبل بعد فكرة التأقلم مع كلّ ما حولنا من أجهزةٍ وتقنيات حديثة، فانتشار استخدام الآلات – على سبيل المثال- في أوروبا بداية الثورة الصناعيّة، جعلها تحلّ محلّ الكثير من العمّال ممّا أدّى إلى تفشي ظاهرة البطالة، حتى قام الجنرال نبد لاض آنذاك  بتأسيس حركةٍ تدافع عن هؤلاء العمّال سمّاها الحركة اللاضيّة، كانت تقوم بمهاجمة المصانع وتحطيم الآلات فقط وإذا ما هدّدتها الحكومة تفرّقت في الغابات ليصعب الوصول إليها، ولكنّ الحركة لم تستمر طويلاً حينما أدرك القائمون عليها أنّ عدوّهم الأوّل ليس الآلات إنّما رجال الأعمال الاستغلالين..

وكذلك الحركة الأناركية البدائية فقبل حلول مرحلة الزراعة في التاريخ البشري، عاش البشر في مجموعات متنقلة صغيرة متكافئة اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصادياً، أمّا بعد ظهور الزراعة فقد وقعت البشريّة في فخّ الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا وهياكل السلطة المجرّدة التي نشأت من تقسيم العمل والتراتبيّة، ويعتقد بعض العلماء الآن أنّ تلك المجتمعات المبكرة في تاريخ البشريّة عاشت في ازدهار وسلامٍ نسبيّ فيما أُطلق عليه تسمية «المجتمع الأصلي الموسِر»، فذكر كلّ مِن عالم الآثار فرانك هول، المختص بالزراعة في التاريخ، وكينت فلانير، المتخصص بحضارات وسط أمريكا بأنّ «ما من جماعةٍ في تاريخ العالم تمتعت بوقت فراغها كما فعلت مجتمعات الصيد والجمع، التي أمضى أفرادها أوقاتهم في الألعاب، والمحادثة، والاسترخاء».

يذكر جاريد دايموند – كاتب وعالم أمريكي- في مقاله «أكبر خطأ في تاريخ البشريّة» أنّ الصيادون الجامِعون عاشوا ما يمكن اعتباره أنجح نمط حياةٍ وأطوله في تاريخ البشريّة، على الضدّ مِن مجتمعات الزراعة، التي يصفها على أنّها «فوضى»، وأنّه «مِن غير الواضح فيما إذا بإمكاننا إيجاد الحلول لها»، وفقًا للأدلة التي تدعم فكرة أنّ متوسط العمر قد تناقص مع تبني نمط الزراعة، نبّه عالم الأناسة مارك ناثان كوهين إلى الحاجة لمراجعة الفكرة التقليدية القائلة بأنّ الحضارة تمثّل التقدم في صالح البشر.

اقتباس عن التكنولوجيا

من التمدن إلى التقنية:

يعتبر هاينزبرغ أوّل من رصد أثر التقنية في إحداث تحوّل سلبيٍ في نمط الحياة لكنّه لا يميل إلى المبالغة في ذلك، فيذكّرنا بأنّ القضية ليست جديدة، لأنّ الآلة موجودة منذ أزمان بعيدة ولو بشكلٍ بدائي بحيث أن رجال الماضي قد اضطروا إلى التفكير بهذه المسائل نفسها، فحتّى وظائف العصر الحالي تُعامل الإنسان على أنّه آلة، ومن الممكن أن يحلّ محلّه أي روبوت..

تحدث العالم الصيني دشوآنك دسي منذ 2500 عام عن الخطر الذي يجرّه استعمال الآلات على الإنسان، وقد نقل عن أحد حكماء الصين القدامى في بداية عصر استخدام الآلة في الزراعة قوله: “إنّ من يستعين بالآلات يؤدّي أعماله كلّها بلا تفكير، كأنّه آلة، ومن يؤدي أعماله آليّاً يصبح قلبه آلة، ومن في جوفه قلبٌ كالآلة يفقد طهره وبراءته، ومن فقد طهره وبراءته أصبح مريباً في تحركات فكره، وريبة الفكر لا تتفق مع الحسّ الصحيح”.

مفهوم التطوّر الذي نعرفه اليوم والذي يوحي بالانفتاح والتقدم مشوّه بطريقةٍ غريبة، فكلّ ما نراه حولنا من تقنيات حديثة وتكنولوجيا متقدمة لم تتطور بالأصل بدافعٍ إنساني خيري كما نعتقد، إنّما كان الهدف الأوّل من تطويرها –وأرجو أن لا أفاجئك- تدمير الإنسان، بدأً من تطور العلوم العسكرية والرادارات والطائرات انتهاءاً بالقنبلة الذرية الناتجة عن مشروع مانهاتن، لكن حينما بدأ يسيطر التفكير الرأسمالي على العالم اختلف الهدف قليلاً ليتمحور حول الانتفاع المادي، فتطورت صناعة القطارات والطائرات واللقاحات والأدوية ولكن بهدفٍ استثماريٍ بحت وليس كما نفكّر برومانسية أنّ الهدف كان تسهيل الحياة، ولعلّ التعقيد الذي نعيشه اليوم أكبر دليل على ذلك، فإذا أخذنا الطفرة التي طرأت على صناعة التصوير كمثال فلن نحتاج إلى بحثٍ طويل لنعلم أنّ الهدف الأول وراء صرف المبالغ الهائلة لصناعة كاميرات عالية الدقة كان الرغبة في إيضاح الصورة في الأفلام الإباحيّة لزيادة الجودة وبالتالي زيادة الربح، وليس لتسهيل حياة الناس كما نعتقد.

لا ننكر أنّه بعد ذلك تمّ استخدام كلّ هذه التقنيات لأسبابٍ فنيّةٍ أو رفاهيّة مختلفة، ولكنّنا لا نستطيع أن نلغي أنّ إنتاجها وتطويرها كان بهدف الإفساد لا الإصلاح.

وحتى وجهة النظرالغربية ترى ذلك فهناك من يقول أنّ التقنية شرٌ بذاتها لأنّ لها هدف لا يمكن أن يتغير وهو التخريب ، وهناك من يرى بقابلية تطويعها -وهو ما يوافق وجهة نظر الإسلام- بناءً على مراد الله من الإنسان، ومن أبرز الكتّاب الذين انتقدوا التكنولوجيا، إيفان إيليتش ولانغدون وينر، وجوزيف وايزنبوم، وجاك إيلول الذي أشار الى الآثار السلبية التي ستنجم عن الاعتماد المتزايد على التقنيّة في الحياة اليوميّة، خاصةً في قطاع التعليم حيث تؤثر سلباً في العلوم الإنسانيّة.

أمّا اجتماعياً، فالطلب الكبير على استخدام التقنية الأحدث والتي بالمؤكد ستكون أغلى سيخلق في المجتمع شرخاً يصعب رأبه، فبين الطبقة التي تسكن المباني المترفة الشديدة الارتفاع وتلك التي لا تكاد تجد مكاناً يأويها تولد كلّ آفات النفس البشريّة من حسدٍ وغلٍ وحقدٍ وسخط، لنصل إلى نتيجةٍ يأبى الكثير الاعتراف بها وهي أنّ خدمة البشرية هدف واهٍ.

فلسفة الحياة بعد التقنية:

بدأت النقاشات الفلسفية حول مسائل متعلقة بالتكنولوجيا، أو ما سماه الإغريق باليونانية بـ«تكني»، منذ فجر الفلسفة الغربية، وأول من استخدم عبارة «فلسفة التكنولوجيا» الفيلسوف الألماني وعالم الجغرافيا إرنست كاب، الذي نشر كتابا بعنوان “أسس فلسفة التقنية “.

قيام الحياة على أساس التقنية كما في عصرنا اليوم جعل الإنسان يعيش بحالةٍ لا نهائيّة من الوحدة مع نفسه أو مع ما أنتجته يديه، كأنّما الانسانيّة تطوّرت بشكل سريعٍ لم تدع معه للإنسان الوقت الكافي للتلاءم مع ظروف الحياة الجديدة، لذلك نجد أنّ المؤمن أو الذي يرى هدفاً من وجوده على الأرض يقصد العزلة في أحيانٍ كثيرة ويحاول التأمل والخلوة بعيداً عن ضجيج المدن وصخبها، ولعلّ الريبة في تحركات الفكر هي النعت الأمثل لحال البشر في الأزمة الحالية..

ولاء متاعة
ولاء متاعة