يعد أفلاطون أحد أهم الفلاسفة في تاريخ الفلسفة كله، ولا يخلو كتاب عن تاريخ الفلسفة، او موسوعة عن الفلسفة وتاريخها، من أفلاطون وافكاره ونظرياته، هذا الى جانب المئات من الكتب والدراسات عن أفلاطون وافكاره، بل وأدق افكاره وتفاصيلها. ولكن رغم كل هذا الاهتمام الذي يحظى به أفلاطون وتحظى به افكاره، إلا أني أظن ان هناك فكرة لأفلاطون، لم تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، رغم أهميتها في رأي، بل ولا اتذكر انه تمت معالجتها وفهمها وتوقع تأثيرها بالشكل الذي ينبغي، وذلك ما دفعني الى ان أطلق عليها، “فكرة أفلاطون المنسية”، وهكذا، فسأحاول في هذا المقال، ايضاح هذا الفكرة والقاء الضوء عليها وعلى تأثيرها، واظهار ما لها من اهمية.
لدى أفلاطون العديد من الافكار المهمة، التي اثرت تأثيرا كبيرا في تاريخ الفلسفة والهمت الكثير من الفلاسفة من بعده، ولكن تظل نظرية “المثل” لأفلاطون، هي نظريته الاساسية والكبرى، لأنه من خلالها يحاول الوصول الى الحقيقي خلف ما هو ظاهر، أي الى حقيقة الوجود واساسه، مثل كل فيلسوف يبحث في الميتافيزيقا[1]، فيقول أفلاطون بأن كل شيء محسوس له المثال الخاص به، مثل البشر لهم مثال الانسان، الذى لا يتغير ولا يتبدل، وهو عنصر، أي لا يعتمد في وجوده على شيء خارج عنه، بل تعتمد الاشياء الاخرى في وجودها عليه، وهو مثال عقلي، أي يدرك بالعقل فقط ولا يحس بالحواس، وهو اكمل من بقية البشر، وهو واحد وليس متعدد. ثم مثال الشجرة، التي هي مثال لكل الاشجار المحسوسة، فهذا المثال العقلي للشجرة هو أكمل من بقية الاشجار المحسوسة…وهكذا [2]، الى ان يصل أفلاطون الى مثال “الخير”، الذي هو أكمل المثل وتتجه جميع المثل الاخرى نحوه، وهذا العالم ايضا بسيره نحو المثل ينشد الخير، أي الكمال [3].
فنرى من ذلك أن أفلاطون قد وضع مثال الخير على قمة المثل جميعا، بل جعل جميع المثل تتجه اليه وتسيره نحوه، وجعل العالم يتجه نحوه ايضا. وهذه التراتبية التي وضعها أفلاطون للمثل، ووضع على قمتها الخير، لها دلالة فى غاية الاهمية، ألا وهي تأسيس الميتافيزيقا على اساس فضيلة وقيمة اخلاقية، وهذا ما يخالف تاريخ الفلسفة كله ويخالف بقية الانساق الفلسفية الميتافزيقية جميعا، كما هو واضح فى قول برتراند رسل ان الفلسفة ” لم تكن نظرية صرفة فقط ولا عملية صرفة، بل بحثت عن نظرية للكون يمكن أن ترتكز إليها فلسفة أخلاق عملية”[4].
فنستطيع ان نرى من قول رسل ان تاريخ الفلسفة كان يتجه الى بناء نظرية للكون، أي ميتافيزيقا، ثم بعد ذلك يتم بناء فلسفة اخلاق عملية عليها. أي ان الميتافيزيقا سبقت الاخلاق، وليس العكس. ونستطيع ان نرى ذلك بوضوح ايضا، إذا قارنا نظرية المثل الميتافزيقية لأفلاطون بنسق هيجل الميتافزيقي، فنرى ان هيجل وضع أساس الوجود هو المقولات، أي مثل يكون ولا يكون والكم والكيف وغيرها [5]، فلم يضع هيجل مثلا الخير او العدالة او الصدق أساسًا ميتافزيقي للوجود.
لذلك يتبين لنا ان التراتبية التي قام بها أفلاطون في نظريته الميتافزيقية عن المثل، انما هي قلب للتراتبية التي ذكرها راسل راسا على عقب، وهذا ما يجعلها من ناحية، نظرية فريدة من نوعها في تاريخ الفلسفة.
أما من ناحية اخرى، فان هذا التراتبية المعكوسة في نظرية المثل لدى أفلاطون، لها اثار بالغة الاهمية في مفاهيم عديدة في الفكر الفلسفي، حيث أحد هذه الاثار والتأثيرات، هي اعادة لفهم القيمة والاحكام القيمية، التي كانت تنظر لها من قبل الكثيرين على انها، الاخلاق خصوصًا، من الموضوعات القيمية، أي ذاتية تستمد قيمتها من الانسان، وليست لها وجود موضوعي مستقل عنه [6]، ونسبية تختلف من مجتمع الى اخر ومن عصر الى اخر [7].
أما إذا اخذنا نظرية أفلاطون فى المثل ووضعه للخير في أعلى التراتبية التي اقامها للمثل، فسنتوصل الى نتائج مختلفة تماما فيما يتعلق بما عرفنا عن الموضوعات القيمية او مبحث القيم، وستوضح لنا رؤية أفلاطون لهذا المبحث، حيث ستصبح الاخلاق على سبيل المثال لها وجود موضوعي مستقل عن الانسان، وايضا وجود مطلق وليس نسبى يتغير بتغير الانسان او المكان او الزمان، بل وان ايضا هذه القيمة الاخلاقية هي الاساس الميتافيزيقي للعالم، وهي حقيقته الباطنة والمحرك الحقيقي له.
فنستطيع أن نرى من ذلك، أهمية تلك التراتبية التي وضعها أفلاطون في نظريته الميتافزيقية عن المثل، وكيف تلك الفكرة البسيطة، أي فكرة تلك التراتبية، كانت غير مألوفة في تاريخ الفلسفة والأنساق الفلسفية الميتافزيقية المختلفة، ونستطيع أيضًا أن نرى، ما لهذه الفكرة من تأثير بالغ الأهمية على مباحث عديدة في الفلسفة، خصوصًا مبحث القيم، وترينا رؤية أفلاطون لهذا المبحث. ولتلك الاسباب، أردنا تسليط الضوء على هذه الفكرة، وايضاح مدى اهميتها.
تحرير: سابين عيسى
([1])امام عبد الفتاح امام, مدخل الى الميتافيزيقا، ص44و ص45.
([2]) زكى نجيب محمود واحمد امين, قصة الفلسفة اليونانية, مؤسسة هنداوى, ص104و 105.
([3])زكى نجيب محمود واحمد امين, قصة الفلسفة اليونانية, مؤسسة هنداوى, ص106.
([4])برتراند رسل، بحوث غير مألوفة، ترجمة: سمير عبده، ص34و 35.
([5]) امام عبد الفتاح امام, مدخل الى الميتافزيقا, ص170.
([6])مونيك كانتو سبيربير – روفين أدجیان, الفلسفة الأخلاقية, ترجمة الدكتور جورج زبناتي, ص76و 77. وانظر: مراد وهبة, المعجم الفلسفى, دار قباء الحديثة, اكسيولوجيا, ص81.
([7]) ول ديورانت, مباهج الفلسفة, الكتاب الاول, ترجمة احمد فؤاد الاهوانى, من ص117 الى ص120.