حين انغمست في كلمات الفيلسوف في إطار فلسفة نيتشه ما بين سطور مقالاته المستنبطة من روائعه جعلتني مندهش حول ما يدعيه فلسفيًا بمفهوم “السوبرمان” في علاقته مع مفهوم الحقيقة، ما جعلتني أن أناقش مفهوم “الحقيقة” من وجهة نظري مع وضع لمحة قصيرة المدى عن فلسفته؛ فقلت بذاك أن ما يثير انتباه نيتشه في جميع مؤلفاته الأكثر تبجيلا التي خلدها التاريخ أكيد هو كلمة “الحقيقة”.
هذه الأخيرة ببساطتها في النطق و عظمتها في المعنى كمفهوم جدلي صعب الإدراك من طرف الأنا بمنظور تأملي فكري حوله، ما يدفعني للتعمق بغية استيعاب منبع الحقيقة الحق في الوجود من الموجود كمنظور قائم على الذاتية كزاوية من خلالها ألمح إليها؛ فكلمة الحقيقة يتداولها أغلب الفلاسفة بأنها لا تظهر أي وهم قد نسيناه أنه على كذلك عند نيتشه بفلسفته القائمة على العدمية من جهة وعلى إرادة القوة The Will Of Power من جهة أخرى كمذهب وجودي لفلسفته.
تنعدم الحقيقة بشكل مطلق حين تتسم الذات بعدمية الأخلاق – القوة – الإنسانية أو الوجود المادي المرئي الواقعي لتكون الذات بذلك أمام هذا الواقع وجها لوجه بما يحيط بها من عثرات ومن فجوات حتى تعثر على المسار الصحيح بلغة نيتشه وبالتالي على الحقيقة بعيدًا عن عالم اليوتوبيا الوهمي Illusoire Utopique الذي يبعد الذات عن حقيقتها كما هي عليها بالهروب منه مخافة من أن تواجه نفسها فكريا عقليا أخلاقيا بإنسانياتها من جهة ومن مفهوم الكيفية كذلك التي تعتبر كمبدأ أساسي لفلسفته بتساؤله عن ظروف تشكل تلك المفاهيم؛ أي يتوسل أدوات الاستفهام كيف؟ ومن؟ ومتى؟ أي كيف تشكلت القيم؟ ومتى تشكلت؟ ومن كان وراء تشكلها؟ وهو ما يؤكده مارتن هايدجر في مؤلفة عن فريدريك نيتشه، حيث يقول:
” لا يعني الأصل هنا السؤال من أين صدرت الأشياء؟ بل أيضا كيف تكونت؟ إنه يعني الكيفية التي تكونت عليها، فلا يدل الأصل أبدا على النشأة التاريخية التجريبية “.
عوض ذاك العالم الماورائي الذي يوهم الذات بوجود أشياء لا تقبل العقل والمنطق من حيث عدمية خضوعها للكيفية، بكونه انطلق من الذات في إطار ما سماه بـ “الإرادة” تجاه المحيط المحاط بتلك الذات؛ باستيعابها لجوهرها بشتى الأسس التي تنبني عليها (الدين، الإنسانية، الأخلاق… إلخ أو الوجود بشكل عام).
هذا من جهة، و من الناحية الأخرى نلمح بأنها مجرد فكرة تتأسس من عالم المثل حينما نستحضر عالم اليوتوبيا ذاك كفكرة أخرى أمام العالم الخارجي الواقعي، فنجد أنه منبع لها بجانب عدميتها ضمن العالم المحسوس المادي من الناحية التي يلمحها صاحب نظرية الميتافيزيقا في رائعته “جمهورية أفلاطون”، فما نلمحه هنا أن الحقيقة تأتي أمام الذات بقناعها الغامض الغير المرئي كما تقوم الذات بغلق نوافذ مسكنها بستائر النوافذ حتى تنعدم الرؤية بتاتًا وراء ذلك الستار Rideau كما يقع بالنسبة للمتفرج Spectateur من رؤية وراء منصة المسرح بستائرها التي تحجب الرؤية مادام أن الذات لا تواجه بذاتها بغية فتح ما وراء تلك الستائر.
من هنا نستوعب أن العالم لا يعطي لأي ذات موجودة معنى من حيث إدراك الحقيقة، فالذات هي التي يكون لديها عائق المسؤولية، فحين أفكر سأكون موجودًا يطغى علي طابع من الموجود كذات واعية بغية أن نميز بين الوجود المنعدم من لا-شيئية الوجود أي عدمية الموجود في الوجود كذات منعدمة لسمة الوعي، من هنا تتأسس الحقيقة من الشرط الحتمي الذي يقود إلى الإدراك أي شرط الوجود الفكري؛ فحين توجد الذات ينبغي لها أن تواجه العالم بسلاح قائم على الفكر الحر الذاتي باعتباره شرط ثاني لا محال منه الذي بدوره يكرس علاقة مبنية على أساس تكاملية الاستيعاب المشروط تجاه الحق تجاه الحقيقة في الوجود من الموجود.
لا حقيقة لأشياء التي تنضم إلى حيز الوجود حين نستغني عن تلك البنود السالفة بكون الأول يجعل الذات تكتمل من حيث وعيها بالنظر إلى الا-شيء الذي يظهر لأخرى بأنه كذلك بأنه يتخذ صورة شكلية واضحة مرئية بألوانها الجميلة الواضحة حتى تكتمل الصورة الشكلية للشيء من جهة أخرى، فلا يمكن شراء منزل معين كسبيل المثال بدون النظر إلى شكل أو صورة المنزل من الخارج Image Observatrice ، وهذا يعتبر فقط من وعي الذات بتحويل الا-شيء إلى شيء مرئي مادام أن الا-شيء لا يفيد هنا عدمية الشيء بل تفيد أداة النفي ( لا ) أي نابع من شيء وثم نفيه وهذا النفي من بين الأمور الظاهرة لأغلبية من العامة في الوجود، وحين تدرك الذات ذلك لابد لها أن تستند إلى وعيها من إدراك إلى فعل مبني من الشرط الأول؛ أي بمعنى آخر على الذات لمس الشيء بأن تشعر بشعور ملموس لذلك الشيء بعد شعورها الأول الواعي بها، فحتى إن أدرك المتفرج بأن هناك ممثلين Acteurs وراء الستار Spectacle بإدراكه بأن كلمة “الستار” مجرد لا شيء حين لا يدرك ذلك، وحين يستوعب ذلك ينقلب لا-شيء إلى شيء أي له معنى مخفي فيه باستيعابه بأن ذلك الشيء له دلالات من حيث عدد أدوار التي ستقوم بها تلك المسرحية، أنماطها من التراجيديا الكوميديا و الفنتازيا أو موعد انتهاءها، بمعنى يدرك حقيقة ذلك الشيء، فبهما نجعل تلك الكلمة الغامضة لدى العامة تزيل غموضها بالإسناد إلى الشرطين السابقين كمبدأ، فالأول يكمل الثاني والعكس صحيح حتى تدرك الذات الوجود من موجوداته مادام أن الوجود مكون من موجودات التي تتخذ صورة ألا-أشياء قبل إدراكها لتكون فيما بعد كلمة وجود وبالتالي إلى كلمة الحقيقة في إطار منبعها من الموجود .
عند الحديث عن فلسفة نيتشه لابد من التعمق ما بين سطور فلسفته المتكاملة، ولا مناص من الرجوع لأفكاره التي نشرها مسبقًا وهكذا حتى يشكل لدى الذات فكرة شاملة عن الفلسفة النيتشيه. على سبيل المثال أحد روائعه تحت عنوان “هكذا تكلم زرادشت” التي تظهر للذات بمجرد النظر إلى أحد كلماتها بأنها جد غامضة مادامت أنها شاملة لفلسفته.
مادام أننا ذكرنا رائعته لابد منا الرجوع إلى أحد محاورها بالخصوص محور “العودة” وهذا ما جعله يقول بهذه الكلمات التي تأخذ طابعا من الاختلاف بين العزلة والوحشة فالعزلة شيء والوحشة شيء أخر بلغة نيتشه. مجرد كلمتين، لكن تأخذان بدورهما محتوى عميق جدًا كما وقعت الذات في فجوة لا-إدراك لا- استيعاب من خلال فكرة لا-إله بلغته التي تبدو لأغلبية غير مرئية بكونها لها رابطة صلة مكرسة بفكرة الأخلاق أو القوة بعدميتها من حيث الإسناد إلى عالم المثل عالم الميتافيزيقا اليوتيوبي الذي يبتعد أشد الابتعاد عن عالم الحقيقة العالم الذي تنتمي إليه الذات كما هي عليها بالهروب منه مخافة من أن تواجه نفسها فكريًا، عقليًا، وأخلاقيًا بإنسانياتها من جهة ضمن العالم الخارجي المحسوس الواقعي، تجعل الفكرة الثانية منعدمة والذات هي المسؤولة عن عدميتها (فكرة لا-إله) بلغة نيتشه، حقا الحديث عن فلسفته تحتاج منا كقراء المزيد من البحث حتى نتمكن من الغمس ما بين سطور فلسفته حتى تبدو لنا أفكاره الفلسفية التي يتصورها بزاويته الخاصة بمنظور فلسفي تأملي جد مرئية بديهية بربطها مع السياق الذي ثم بزوغها مادام السياق هو من يعطي لفكرة معينة دراية واسعة حتى تتمكن الذات من الإحاطة بها، بكون الفلسفة بصفة عامة و فلسفة نيتشه بوجه الخصوص ماهي إلا ابنة عصرها لها صلة بمضمون الإحاطة من حيث السياق.
تحرير: سابين عيسى