التصنيفات
فلسفة أفكار

تاريخ الفلسفة: متحف للآثار أم وقود للتفكير؟

هل تاريخ الفلسفة ذو صلة اليوم؟

الكثير من الناس يحبون قراءة الفلسفة ويحثهم الفضول للتعرف على أفكار روادها، ويفعلون ذلك عادة بقراءة تاريخ الفلسفة والاطلاع على أفكارها عبر العصور، وذلك شيء جيد بالتأكيد، ولكن كبداية فقط، حيث أن الاكتفاء بالاطلاع على آراء الفلاسفة، هو نصف الفلسفة فقط أو السطح الخارجي لها، وإنما نصفها الاخر وعمقها إنما يظهر في فعل التفلسف ذاته، أي أن الاطلاع على تاريخ الفلسفة وآراء الفلاسفة جيد كبداية وكخطوة أولى في عالم الفلسفة، وإنما اذا كان الاكتفاء بذلك هو الغاية وهو الفعل الوحيد الذى نقوم به، فأرى ذلك وقوف في منتصف الطريق وعدم استفادة كاملة من الفلسفة، بل وأيضًا عدم وصول إلى المعنى العميق للفلسفة ودورها فى حياة الانسان. 

إن الفلسفة بمعناها العميق تهدف إلى حث الإنسان على التفكير في المقام الاول، والدور الأصيل لأفكار الفلاسفة هو دفع من يطلع عليها للتفكير بنفسه، وليس تخزين تلك الافكار وترديدها فحسب. وتاريخ الفلسفة وافكار الفلاسفة ما هما، من وجهة نظري على الأقل، إلا ملحمة الفرد المفكر بنفسه، ملحمة الفرد الذي يبحث عن اجابات لأسئلة تحيره هو، وليس لمجرد اختراع نظريات ومفاهيم بدون داع.

يرينا تاريخ الفلسفة الأرق المعرفي الذي يصيب بعض الافراد، الذين نطلق عليهم فيما بعد لقب فلاسفة، وكيف يحاول كل فرد منهم التفكير بنفسه ليحاول الوصول لإجابات على أسئلة تؤرق ذاته العاقلة كإنسان، حتى إذا استعان بمساعدة افراد اخرين قد أرقتهم نفس الاسئلة وحاولوا بدورهم الوصول لإجابات عنها، فان هذا الفرد يستعين بمساعدة الافراد الاخرين وافكارهم وآرائهم، ولكن هذا لا يكفيه ولا يغنيه عن مواصلة التفكير والبحث بنفسه، لكي يصل إلى إجابات تقنعه بذاته، وليس مجرد اجابات قالها افراد اخرون، رغم ما يمكن أن يكونوا عليه من عبقرية وإخلاص وتفان. ذلك أن عملية التفلسف ورحلة البحث والتفكير لا يُغني فيها أحد عن أحد، ولا يأخذ فيها أحد دور الاخر، وإنما يجب ان يخوضها كل فرد بنفسه، حتى لو استعان بافكار آخرين لشحذ تفكيره وإنماء آراءه، ولكنه في النهاية يخوض تلك التجربة بشكل اساسي، مثل كل التجارب الفارقة في حياة الانسان، بمفرده…

حتى يصل الفرد الى اجابات قد بذل الوقت والجهد في الوصول اليها، وليس مجرد اعتناق إجابات جاهزة بلا تفكر ولا تأمل، وبلا نقد لها وتبصرٍ فيها، وتقبل ما يقنع المرء منها ورفض ما لا يرضي منطقه. هذه الرؤية والقراءة النقدية التفاعلية لآراء الفلاسفة، أي تاريخ الفلسفة، لا يمكن أن تتحقق بدون خوض المرء تجربة التفلسف بنفسه، لأن خوض هذ التجربة والتدرب على التفلسف، هو ما سيشحذ الملكة النقدية لدى الفرد ويجعله قادرًا على قراءة الفلسفة بطريقة فاضلة تفاعلية، بحيث يقبل المرء أو يرفض أو يعدل على أفكار الفيلسوف الذي يقرأ له، فلا يعتنقها أو يرفضها بدون تمحيص، ولا يمر عليها مرور المتفرج العابر غير المشارك ولا المتفاعل.

فما يترتب على استخدام تاريخ الفلسفة كوقود للتفكير، وليس كمجرد متحف لآراء الفلاسفة، هو التدرب على التفكير والتفلسف، مما يجعل المرء قادرا على مواجهة المشكلات الفلسفية الجديدة التي تنشأ في عصره ومجتمعه، ولم تكن في عصر الفلاسفة السابقين ولا في مجتمعهم، فلم يقولوا فيها رأيًا ولا فكروا في حلٍّ لها، لأن المشكلات الفلسفية تنتج وتتغير مع تغير السياق الثقافي والحضاري، ومع تطور العلم والتقنية، فنجد مشكلات جديدة تظهر في عصرنا مثل الاحتباس الحراري والذكاء الاصطناعي…الخ، إشكالات فلسفية جديدة وليدة عصرنا، فإن لم نستفد ونتدرب من خلال تاريخ الفلسفة على التفكير والنقد، فان تاريخ الفلسفة بمجرد ما هو عليه لن يساعدنا على حل هذه الاشكالات الجديدة التي لم يتناولها.

وحتى المشكلات الفلسفية الكبرى التقليدية، مثل حدود المعرفة الانسانية وماهية النفس الانسانية …الخ، فان رؤية هذه المشكلات تتغير بتغير السياق الثقافي والتاريخي أيضًا، وأيضًا بتطور العلم والتقنية، فان لم نستفد من تاريخ الفلسفة ونتدرب من خلاله، فلن نستطيع ايجاد حلول للمشكلات الفلسفية التقليدية في ضوء مكتشفات العلم المتلاحقة وتطور التقنية المتسارع، وما يفرز عنهما من طرق جديدة في التفكير ورؤية العالم، التي تغير حتى رؤيتنا للقضايا الفلسفية التقليدية وتلقي أضواء جديدة عليها باستمرار، هنا ايضا يبرز دور تاريخ الفلسفة الحيوي في شحذ ملكات التفكير والنقد، تلك الملكات والمهارات هي التي يمكن ان تساعدنا على رؤية مشكلات الفلسفة التقليدية في ضوء عصرنا ومكتشفاته ومنجزاته، وليس أيضًا تاريخ الفلسفة بمجرد ما هو عليه وما تناوله، وليس بالخلفية والمرجعية الثقافية والحضارية التي رأى بها تلك المشكلات الفلسفية في عصره وبيئته.

وهكذا نعود إلى السؤال: هل تاريخ الفلسفة متحف للاثار ام وقود للتفكير؟ في الحقيقة إن تاريخ الفلسفة هو الأمران معًا؛ حيث أن الاطلاع على آراء الفلاسفة وأفكارهم، والاستمتاع بها والاندهاش منها، هو جزء مهم من الفلسفة ككل، ولكن هذا لا يعنى أنه الجزء الأهم، وإنما الأهم هو استخدام الفلسفة وتاريخها كوقود للتفكير، يساعد عليه ولا يعرقله ولا يجعله يرقد بسلام وخمول. 

ولذلك، فإن التفلسف يظل هو الغاية من دراسة الفلسفة وأفكار الفلاسفة، لأننا عندما نتعلم التفلسف، نكون قد تعلمنا الصيد، ولم نأخذ مجرد سمكة. وليس معنى التفلسف بالضرورة هو التفكير فى القضايا الفلسفية الكبرى فحسب من نوعية حدود المعرفة الإنسانية أو وجود العالم الخارجى من عدمه- وإنما يعنى بشكل أساسي التفكير فى الأمور التى تعني الفرد حقًا وتؤثر على حياته اليومية، فقد تكون مثلا مثل سؤال ما هي السعادة؟ أو ما هو الجمال؟ …الخ.

يجب أن نحاول استخدام تاريخ الفلسفة كقوة محركة للأمام وللإبداع، وألا نتعامل معه فقط كمتحف لآثار الفلاسفة السابقين، حيث نطلع على افكارهم ثم نمضي ونتركها بلا استفادة منها.

محمد عادل علي
محمد عادل علي

تحرير: سابين عيسى