كيف تبدو أيامك في العادة؟ بالنسبة للكثيرين منا، غالبًا ما يكون الأمر في أن تستيقظ وتمضي ساعة أو ما يقاربها في القيام بضروريات الصباح كالاستحمام وارتداء الملابس وتناول الطعام واحتساء الكافيين على جناح السرعة، وتبدأ في العمل بعدها. تستطيع القيام بذلك في المنزل أو في المكتب، لكن ربما تقضي معظم يومك بذلك، سواء كانت ثماني أو تسع أو عشر ساعات أو أكثر. وعندما تنتهي يتبقى لديك ساعات قليلة لتقضيها، بعضها مخصص لمتطلبات أخرى من الحياة مثل الطهي وتناول الطعام مرة أخرى ورعاية الأطفال. وهذا يمنحك بعض الوقت للقيام بالأنشطة الترفيهية قبل النوم لتفعل كل ذلك مرة أخرى.
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الروتين المألوف هو هيمنة العمل. في الواقع، أصبح العمل جزءًا لا يتجزأ من أنشطتنا اليومية لدرجة أننا قد نفشل في إدراك مدى سيطرته عليها. حتى في اللحظات التي لا نعمل فيها، نقوم بالكثير من أنشطتنا اليومية ولكن بالتركيز على العمل كالتأكد من النوم بشكل كاف لأداء العمل بشكل جيد، وإعداد وجبات الطعام لأخذها إلى المكتب طيلة الأسبوع، وشراء أدوات مختلفة تفيد العمل بكفاءة أكبر واستهلاك ما يكفي من الكافيين لقضاء يوم العمل.
لا أعتقد أن هذا ترتيب مُرضٍ بصورة خاصة. أظن أنه ينتج عنه الكثير من الآثار السلبية، لكن هنا لاسيما التركيز على نتيجة سلبية واحدة لهذه الهيمنة ألا وهي الطريقة التي تفسد بها علاقاتنا الاجتماعية.
على وجه الخصوص، أود أن أقترح أن ثقافتنا المعاصرة حول العمل تبعدنا عن حياتنا الاجتماعية. عندما نشعر بأن حياتنا الاجتماعية هي بطريقة ما فكرة عابرة، في حين أن عملنا هو النشاط الافتراضي لحياة المرء. بالنسبة للكثيرين منا، أصبح العمل هو العقدة المركزية التي يتم تنظيم جميع الأنشطة الأخرى حولها، تاركًا أنشطتنا الاجتماعية في أفضل حالاتها بمكانة ثانوية.
يبدأ هذا الاغتراب الاجتماعي عندما يتم تكريس قدر هائل من الوقت للعمل. توضح جوليا روز، في كتابها الأخير عن وقت الفراغ، الإحصائيات المتعلقة بساعات العمل في الولايات المتحدة، حيثما أظن أن الاغتراب الاجتماعي قد يبدو بارزًا بشكل خاص. وتشير روز إلى أن حوالي ثلث العمال يعملون أكثر من 45 ساعة في الأسبوع والثُمن يعملون أكثر من 55 ساعة أسبوعيًا. علاوة على ذلك، يعمل ثلث العمال في العطل الأسبوعية في حين يعمل الربع في وقت ما بين الساعة 10 مساءً و6 صباحًا. ولعل الأهم من ذلك هو مشاعر العمال حول مقدار العمل في حياتهم، حيث يقول 60 في المائة من العمال الأمريكيين إنهم يفضلون العمل لساعات أقل. إذاً كيف يفضلون قضاء ذلك الوقت؟ حسنًا، يقول الثلثان إنهم يرغبون في قضاء مزيد من الوقت مع الأصدقاء وأربعة أخماس منهم بحاجة لإمضاء وقت أكثر مع العائلة، مما يشير إلى أنهم يرون في الوقت ذاته أن حياتهم الاجتماعية مهمة للغاية وللأسف الشديد يستهان بها في الوضع الراهن.
قد يتساءل المرء كيف يمكن أن تتوافق هذه الملاحظات مع بعض التحسينات في ظروف العمل التي أُجريت خلال القرن الماضي. صحيح أنه على مدار السبعين عامًا الماضية انخفض في الولايات المتحدة الوقت السنوي للعمل لكل عامل ما يقارب 250 ساعة، أي حوالي خمس ساعات في الأسبوع. أن تحسن الظروف منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي بالطبع لا يعني أنها جيدة بصورة خاصة. فلا يزال العمال الأمريكيون يعملون أكثر من 400 ساعة في السنة أي أكثر من نظرائهم الألمان والبريطانيين والاسكندنافيين. علاوة على ذلك، في السنوات العشر الماضية، زادت ساعات العمل الأمريكية في الواقع بنحو 50 ساعة في السنة. ومن المثير للاهتمام، أن ساعات العمل ولاسيما لفئة النخبة المهنية قد زادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. بين عامي 1979 و2006، تضاعفت نسبة العمال في الخمس الأعلى من الأجور الذين يعملون أكثر من 50 ساعة في الأسبوع. قد يشير هذا إلى إعادة الالتزام بالعمل، وذلك بدءًا بالنخب الاقتصادية والتصفية للآخرين.

أن الاغتراب الاجتماعي لا ينتج فقط عن مقدار الوقت المكرس للعمل، بل أيضاً عن صلابة جدول العمل. يميل الناس إلى العمل لعدد ساعات محددة مسبقًا في مكان محدد مسبقًا أيضًا، تاركين بذلك ما تبقى من الوقت للانخراط في المجتمع. تظهر ساعات العمل في العديد من جداولنا على أنها فترات زمنية محددة وغير قابلة للتفاوض. نتيجةً لذلك، يتعين علينا تنظيم نشاطنا الاجتماعي حول هذه الفترات الزمنية وذلك بوضع علامات على كل تفاعل بوقت بدء وتوقف محدد.
إذاً لا تتاح للعمال فرص محدودة للنشاط الاجتماعي فحسب، بل حتى عندما يكونوا قادرين على الانخراط، فغالبًا ما يكون ذلك فقط في نمط متردٍ من أنماط التواصل الاجتماعي. تصبح هذه الأنشطة الاجتماعية مصطنعة وغير عفوية في حين يتوجب علينا جدولتها بعناية ضمن تقويماتنا. علاوة على ذلك، فإنها تصبح مجرد وسيلة لنهاية تجديد نشاطنا من أجل العمل في اليوم التالي. هذه العلاقة بالاجتماعية مشابهة لما يسميه ستانلي باركر “نمط المعارضة للعمل والترفيه”، حيث ينخرط العمال في أوقات الفراغ للتخفيف من الضغط والعودة إلى العمل بانتعاش. في ثقافة عملنا المعاصرة، أصبحت الاجتماعية متطفلة على العمل من أجل قيمته، كونها أصبحت بمثابة وسيلة للعمل بشكل أكثر فعالية بدلاً من امتلاكها قيمة المستقلة.
ربما يكون جزءًا مما يجعل حياتنا العملية المعاصرة منعزلة بشكل فريد، على عكس العمل الذي تم قبل 50 أو 100 عام، وهو موقف جديد تجاه العمل. على وجه التحديد، أصبح الكثيرون يتبنون الفلسفة التي يسميها ديريك طومسون من مجلة آتلانتك “المهنية”. حيث يتبنى المهنيون فكرة أن عملهم يهدف إلى أن يكون المصدر الرئيسي للهدف والرضا في حياتهم. وقد تفسر هذه الظاهرة بشكل خاص الزيادات في الساعات بين أولئك الموجودين على قمة الهرم الاقتصادي. إذا استمر الناس في العمل أكثر على الرغم من امتلاكهم وسائل للعمل بشكل أقل بكثير، فمن المعقول أنهم لا يفعلون ذلك لأسباب اقتصادية بحتة، ولكن ربما سعياً وراء الهدف والهوية والتفوق. لقد أصبح من الكليشيه أن تحدد هدفك، ولا تعمل يومًا في حياتك، وتفعل ما تحب، فيتعلق العمل هنا بتكريس نفسك لتحقيق هذه الأهداف على حساب كل شيء آخر.
أعتقد أن العمل قد يكون هو السبب الأسوأ عندما يتعلق الأمر بالاغتراب الاجتماعي، إضافة لكونه أحد الأسباب الجذرية الرئيسية للممارسات التي تقطع علاقتنا بتواصلنا الاجتماعي. إذا كان العمل هو النشاط المركزي في حياتنا، فمن المنطقي أن ينتقل كل شيء آخر إلى ما وراء ذلك. يجب أن نعمل دائمًا، لأن العمل هو ما يمنحنا الهدف والهوية. من وجهة نظر عمالية، يجب أن تصبح حياتنا الاجتماعية بمثابة هوامش لعملنا، قيّمة بقدر ما تسمح لنا بالعمل بكفاءة أكبر. لطالما تبنينا هذه الفلسفة، فإن العمل قد كبت تلك السمات التي احتفظنا بها لحياتنا الاجتماعية ذات مرة. وكما توضح الصحفية سارة جافي للعمل ” أن الأشياء التي اعتدنا الاحتفاظ بها لأنفسنا، أو في حقيقة الأمر الأشياء التي حدّ منها مكان العمل الصناعي، هذه الأشياء ذاتها أصبحت وبشكل مفاجئ من متطلبات الوظيفة، بما في ذلك صداقاتنا ومشاعرنا والحب”. تم الآن إعادة توجيه الطاقات والمشاعر التي كانت مكرسة لتطوير علاقات بنّاءة خارج العمل نحو العمل نفسه.
فإن نتيجة كل هذا هي علاقة غير مرضية بمجتمعنا والتي ترغب أغلبية كبيرة من العمال في تغييرها. يشعر العمال بالعجز وفقدان الحرية في حياتهم الاجتماعية، مستعبدين لثقافة العمال والعادات التي تتطلبها، غير قادرين على إعادة توجيه حياتهم لإعطاء الأولوية للنشاط الاجتماعي الحر دون المخاطرة بوظائفهم وسبل عيشهم وهوياتهم. لذلك تبدو حياتهم الاجتماعية غريبة بالنسبة لهم، وليست مواضع اتصال عفوية بل مهام مبنية فوق طاقتها، كما أنها ليست أجزاء أساسية من حياتهم بل مجرد فترات متقطعة بين فترات العمل.
إذا كانت هذه طريقة ناقصة للربط بين عملنا وحياتنا الاجتماعية، فما الذي يمكن فعله حيال ذلك؟ قد تدخل بعض الإصلاحات السياسية كجزء في طريقة تخفيف الاغتراب الاجتماعي. إن إدخال البرامج الاقتصادية، مثل الدخل الأساسي الشامل، يمكن أن يسمح للناس بالعمل بشكل أقل تواتراً وأكثر مرونة، مما يقلل الضغط في تولي وظائف سيئة لساعات طويلة وجداول زمنية صارمة. بل إنه قد يشجع أصحاب العمل على تقديم أجور أعلى، وساعات عمل أقل، ومزيد من المرونة من أجل جذب العمال الذين قد يرفضونهم بخلاف ذلك. من المرجح أن يكون لزيادة الحد الأدنى للأجور تأثير مماثل، مما يسمح للعمال بكسب عيش لائق مع العمل لساعات أقل. قد يكون لهذه البرامج أيضًا وظيفة تعبيرية، تؤكد أنه من المرغوب فيه في الواقع ألا يعمل الناس طوال الوقت، وأنه يجب أن يكون لديهم وسادة تسمح لهم بمتابعة مساعي أخرى خارج العمل.
ومع ذلك، هناك سبب للشك في أن هذه الأنواع من الإصلاحات الاقتصادية ستكون كافية للتقليل من الاغتراب الاجتماعي بشكل كبير. في نهاية الأمر، فإن أولئك الموجودين على رأس شريحة الدخل هم الذين زادوا ساعات عملهم في السنوات الأخيرة، ومن غير المرجح أن يحدث الدخل الأساسي الشامل أو الحد الأدنى للأجور أعلى فرقًا كبيرًا بالنسبة لهم. ما نحتاجه حقًا هو تحول ثقافي بعيدًا عن فكرة أن العمل هو المصدر الوحيد أو على الأقل المصدر الرئيسي للهدف في حياة الفرد، وهو هدف صعب المنال.
بالطبع، قد تكون الظروف الهيكلية مسؤولة بشكل جزئي عن هذه الظاهرة الثقافية. يعتقد المرء أن الدافع نحو العمل المستمر تفضيل تكيفي، يتشكل استجابة لمنطق تعظيم الربح في السوق. في البداية، عمل الناس باستمرار لأنهم اضطروا إلى ذلك، أو لأنهم ساووا بين المال والنجاح، لكن هذه الدوافع أصبحت منذ ذلك الحين جزءًا أساسيًا من ثقافتنا والتي فقدت غرضها الأصلي. ونتيجة لذلك، لم يعد الدافع إلى العمل يظهر كمجرد رغبة في تحقيق مكاسب اقتصادية، بل كجزء عميق من هوية الناس. لا يجدر الأمر شيئا في أن تكون رؤية العمل هذه كمصدر للهدف والتفوق مفيدة جدًا للشركات الساعية للربح، والتي يمكنها الحصول على المزيد من عمالها دون دفع المزيد من المال لهم. لذلك ليس من المدهش أن تشارك العديد من هذه الشركات في نوع “حدد هدفك” من الإعلانات المستمرة الآن.
حتى لو كان الأمر كذلك، فليس من الواضح ما إذا كانت الإصلاحات الهيكلية ستكون كافية للحد من العمل وبالتالي الحد من الاغتراب الاجتماعي أيضًا. يمكن أن تساعد تدخلات السوق في التخفيف من الحوافز الاقتصادية للعمل دون نهاية، ولكن إذا أصبحت هذه الدوافع عميقة الجذور بحيث تتجاوز الاقتصاد، فمن المستبعد أن يؤدي تخفيف الحوافز الأولية إلى القضاء على الدوافع الجديدة المتغيرة.
بالأحرى، لابد من أن تكون هناك حاجة إلى إصلاحات ثقافية أكثر وضوحًا. وأحد المجالات المحتملة للتدخل هو نظام التعليم. من الواضح أن العمل ينبع من المدارس فمن الشائع جدًا هذه الأيام أن نرى الطلاب يبدؤون في أخذ دروس تحضير لاختبار SAT منذ سن الثالثة عشرة، والاشتراك في العديد من الأنشطة الخارجية التي ليست ضمن اهتماماتهم بشكل خاص، ويكافحون لمعرفة الفرق بين As وA السلبيات، كل ذلك يحصل بدعم وتأييد المدارس. من ناحية أخرى، أكدت المدارس على أهمية الارتباط المجتمعي والاجتماعي بنفس الدرجة التي تحققها في التحصيل الأكاديمي والمهني، فمن المرجح أن ينمو لدى الطلاب شعوراً بأن التواصل الاجتماعي هو موضع متساوٍ ومستقل بقيمته. وذلك يشمل الآباء أيضًا، الذين أصبحوا مهتمين بشكل متزايد بإنجازات الأطفال الأكاديمية والمهنية في نهاية المطاف بدلاً من تطوراتهم على الصعيد الاجتماعي والعاطفي. في دراسة حديثة، يقول 90 بالمائة من الآباء أن إحدى أولوياتهم القصوى هي رعاية أطفالهم بالآخرين، في حين يقول 80 بالمائة من الأطفال إن والديهم يقدرون الإنجاز على الرعاية.
وسيلة أخرى واعدة هي إعادة الاستثمار في ساحات النشاط المجتمعي. هذا يعني إتاحة الفرص للناس لإعادة هيكلة الطريقة التي يعيشون بها، وخلق مساحات للعيش المشترك وأشكال أخرى من الحياة المجتمعية، واستبدال المجتمعات المدنية التي اختفت في العقود القليلة الماضية، كما هو موثق بشكل مشهور من قبل روبرت بوتنام.
وبطبيعة الحال، لا بد أن تكون هناك حواجز عملية أمام تنفيذ بعض من هذه الإصلاحات. ومع ذلك، فإن تقديم خطة استراتيجية قابلة للتطبيق ليس هدفي هنا. أو بالأحرى، آمل أن أرسم صورة لنوع من الاغتراب الاجتماعي يتردد صداها لدى القراء وأن أقترح بعض الطرق الواعدة، حتى لو كانت ناقصة، لحل هذا الاغتراب.
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في الجمعية الأمريكية للفلسفة وقد ترجمت هنا بالشراكة معهم.
ترجمتها: مروة عيسى
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.