تخيل أنك حصلت على مليون دولار من أجل التبرع لأعمال خيرية تختارها بنفسك، كيف ستنفق هذا المال؟
ربما تتبرع به لقضية تلامس قلبك، مثل مشروع مجتمعي محلي. أو لربما تساعد فقراء العالم من خلال تمويل الإغاثة في حالات الكوارث، أو توزيع الناموسيات المضادة للملاريا.
يجادل أنصار الحركة الفلسفية المتنامية والتي تُعرف باسم النزعة بعيدة المدى – Longtermism، أن إنفاق الأموال بمثل هذه الطرق سيكون أمراً خاطئًا. حيث يعتقد هؤلاء الأنصار أنه يجب تجاهل مخاوف الأشخاص المحتاجين اليوم واستخدام الأموال بدلا من ذلك في محاولة لتأمين وتحسين مستقبل البشرية على المدى الطويل لأن هدفهم يعود بالنفع على الأشخاص الذين سيعيشون بالآلاف والملايين ومليارات السنوات القادمة.[1]
يقدم هذا المقال تعريفًا بالنزعة بعيدة المدى.
1. ما المقصود بالنزعة بعيدة المدى؟
النزعة بعيدة المدى هي الرأي القائل بأنه يجب إعطاء الأولوية لمستقبل البشرية البعيد وذلك عن طريق منع انقراض البشر وتحسين حياة الأجيال اللاحقة.
يتجه بعض أنصار هذه النزعة إلى اتجاه آخر مُجادلين أنه لابد أن نسعى إلى تحقيق الإمكانيات الكونية للبشرية من خلال التسريع بالتكنولوجيا اللازمة لاستعمار النجوم وتمكين وجود أعداد فلكية من الناس في المستقبل. حتى أن البعض منهم يقترحون أنه لابد من تحويل البشرية إلى حضارة رقمية من العقول المحوسبة، تُعطي الناس عمليًا أعماراً غير محدودة.
ولأن الموارد البشرية محدودة، فإن هذه الجهود تتطلب إيلاء اهتمام أقل لمن هم بحاجة اليوم. لذلك يعتقد أنصار هذه النزعة أنه من الأفضل دائمًا تخصيص الموارد لإنتاج مستقبل أفضل على المدى الطويل للبشرية بدلاً من مساعدة الأجيال الحالية.
2. ما السبب وراء النزعة بعيدة المدى؟
غالبًا ما يحفز أنصار هذه النزعة وجهات نظرهم من خلال الإشارة إلى الكثافة السكانية الهائلة في المستقبل. وفقًا لتقدير متحفظ، قد تتمكن الأرض من الحفاظ بما يقارب عشرة كوادريليون شخص بالمجمل وذلك قبل أن تصبح غير صالحة للسكن (أي عشرة زائد خمسة عشرة صفراً!).[2] وفي حال انتشرت البشرية بنجاح عبر مجرة درب التبانة، فقد يزداد هذا الرقم بفارق كبير.[3]
ويجادل الأنصار بأنه إذا كانت حياة البشر ذات قيمة، فهذا يعني أن البحار من شعوب المستقبل أكثر أهمية من الأشخاص الذين يعيشون اليوم، وبالتالي يمكن أن يوجد وبشكل تراكمي الكثير من الناس في المستقبل مصالحهم تفوق مصالحنا.
هذا لا يعني أن الناس في المستقبل يتمتعون بقيمة أكثر منا، لكنهم ككل يستحقون اهتمامًا أكثر من الأجيال الحالية. [4]وبسبب هذا، يناقش أنصار هذه النزعة أن الإجراءات التي تهدف إلى تحسين المستقبل البعيد يمكن أن تحقق فائدة أكثر بكثير من الإجراءات التي تنتج فوائد قصيرة الأجل.
ويُساند النزعة بعيدة المدى الاقتراح القائل بأننا مُلزمين برعاية الأجيال القادمة تمامًا كما فعل أسلافنا من قبل، وبحجة أخرى أنه من واجبنا الحفاظ على البشرية لأهميتنا الكونية وباعتبارها الحياة الذكية الوحيدة في الكون.

3. أولويات أنصار النزعة بعيدة المدى:
عادةً ما يسلط أنصار هذه النزعة الضوء على نوعين من التدخلات التي لابد من إعطائها الأولوية باعتقادهم.
التدخل الأول هو منع الكوارث الوجودية، أي الأحداث التي يمكن أن تقوض الحضارة أو تسبب انقراض الإنسان مثل الحرب النووية، وتأثيرات الكويكبات، والتغير المناخي الحاد. ويهتم العديد من الباحثين أيضًا بالمخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي المتقدم والتي يمكن أن تصبح خطرة على البشرية إذا كانت أهدافها غير متوافقة مع مصالحنا.
أما التدخل الثاني فيتمثل في إحداث تغيير إيجابي في المسار أو، بعبارة أخرى، محاولة تحسين المسار الحضاري طويل الأجل. على سبيل المثال، تحسين معدل النمو الاقتصادي السنوي بنسبة لا تتجاوز جزءا من نقطة مئوية من شأنه أن يولد كميات هائلة من الثروة وذلك في غضون قرون قليلة. ومن منطلق طويل الأجل، يعتبر النمو الاقتصادي أكثر أهمية بكثير من الجداول الزمنية القصيرة أو المتوسطة الأجل، وبالتالي فهو يمثل أولوية أعلى للأفراد والحكومات.
4. الاعتراضات
تعتبر النزعة بعيدة المدى وجهة نظر مثير للجدل، وبالطبع ثمة عدة اعتراضات حولها.
أحد الاعتراضات هو أن هذه النزعة تعتمد على تنبؤات لا يمكننا الوثوق بها، فنحن لا نعلم إلى متى ستستمر البشرية، ومن الصعب جداً معرفة الإجراءات اللازمة في تحسين المستقبل البعيد. وعلى النقيض من ذلك، فنحن واثقون جداً من قدرتنا على مساعدة الأشخاص الموجودين حاليًا.[5]
وثمة اعتراض ذو صلة أنه من خلال مطالبتنا بالتقليل من اهتمامنا بمصالح من هم على قيد الحياة بالوقت الحالي، ويعاني الكثير منهم معاناة كبيرة، فهذا يعني أن النزعة بعيدة المدى تطلب منا أن نكون غير متعاطفين.
يتفق أحد الردود على أن هذه النزعة قد تبدو قاسية فعلا، لكن علينا تقبلها بطبيعة الحال. فقد تثير احتياجات الجيل الحالي جذبًا عاطفيًا أكبر فينا، لكن هذا لا يعني أنها أكثر أهمية من مسارات الأجيال القادمة.
بل إن أنصار هذه النزعة قد يقلبون الاتهام: فإهمال مصالح الناس في المستقبل، الذين يفوقوننا عددًا إلى حد كبير، ومع ذلك لا يتمتعون بأي قوة اجتماعية أو سياسية، لا يقل قسوة عن إهمال مصالح أخرى. وقد يعني منح الأفضلية لجيلنا الحالي إهمال تريليونات من الأشخاص الذين لم يأتوا بعد والذين لا يستطيعون الدفاع عن مصالحهم الخاصة.
5. تطبيق مبدأ النزعة بعيدة المدى.
في حال كانت النزعة بعيدة المدى منطقية، فما الذي يتوجب علينا فعله للمساعدة؟
يقول أنصار هذه النزعة أنه يجب علينا التبرع بالمال لمنظمات البحث التي تعمل على قضايا طويلة الأجل، مثل اكتشاف الكويكبات وسلامة الذكاء الاصطناعي.
ويجادل آخرون بأنه يجب علينا الامتناع عن التبرع بالمال خلال حياتنا، والأفضل الترتيب للتبرع بثروتنا الشخصية في المستقبل وذلك من أجل تعظيم تأثيرنا على العمل الخيري.
ويمكن أن نكرس حياتنا المهنية للمستقبل بعيد المدى. كما توصي منظمة 80,000 Hours، والتي تقدم مشورة مهنية إيثارية، بالعمل على الأسباب طويلة الأجل مثل التأهب للأوبئة والأمن النووي، وذلك لتحقيق تأثيراً أكبر في حياتنا المهنية، بدلاً من الاهتمام بالقضايا البديهية على المدى القصير مثل الفقر العالمي وعدم المساواة.
وكما يحث أنصار هذه النزعة الحكومات على تخصيص المزيد من الموارد لتأمين وتحسين مستقبل البشرية على المدى البعيد.
6. الخلاصة
تُشير النزعة بعيدة المدى إلى أنه يجب علينا توفير الموارد للأجيال القادمة بدلاً من تخصيصها لحل مشاكل العصر. لذا ينبغي أن نُقيّم مقترحات هذه النزعة بعناية حتى لو كانت مثيرة للجدل، وذلك من أجل العديد من الأشخاص الذين قد يأتون إلى الوجود.
[1] تعد النزعة بعيدة المدى أحد فروع حركة “الإيثار الفعال”، والتي تهدف إلى تحديد أهم أسباب الإيثار وأكثرها وتوفير الموارد المناسبة لها. للاطلاع على الإيثار الفعال، أقرأ في الأخلاق والفقر المطلق لبيتر سينجر وأيضًا الإيثار الفعال بقلم براندون بوش.
[2] وفقًا لتقديرات نيك بوستروم Nick Bostrom (2013،18) يُفترض أن الأرض قادرة على تحمل مليار نسمة في المتوسط في جميع الأوقات وذلك لمدة مليار سنة.
[3] وبحسب تقديرات نيوبيري (2021) يمكن أن يصل عدد الناس إلى 10³⁵ شخص إذا انتشرت البشرية عبر درب التبانة.
[4] يفترض هذا التفكير ضمنيًا أن القيمة يمكن أن تكون “إجمالية” أو بعبارة أبسط مُجمّعة. وغالبًا ما يرتبط التجميع بالنظرية الأخلاقية التبعية.
أن التجميع فكرة مثيرة للجدل. أشار بارفيت (1987) إلى أن التجميع قد يؤدي إلى الاستنتاج البغيض، حيث يُعتبر وجود عدد كافي من السكان الذين يعيشون حياة بالكاد تستحق العيش، أنهم أكثر قيمة من مجموعة سكانية صغيرة تعيش حياة سعيدة (أقرأ الاستنتاج البغيض، جوناثان سيبلمان). ويرى آخرون أننا على الرغم من ضرورة تجميع القيمة إلى حد ما، إلا أن هناك حدودا. فالنظريات “التجميعية الجزئية” المزعومة للقيمة تؤكد أن بعض السلع أو التجارب لا يمكن أبدا أن تضيف قيمة أكثر من غيرها. فعلى سبيل المثال الحد من حالات الصداع يمكن أن يكون على نفس القدر من الأهمية الأخلاقية لإنقاذ حياة الإنسان Norcross (1997).
[5] بيتر سينجر فيلسوف حصل في عام 2021 على جائزة مليون دولار وتعهد بتقديمها كلها للجمعيات الخيرية الفعالة. يشرح لماذا لم يقرر التبرع لجهود طويلة الأمد: “يحثنا بعض المؤثرين الإيثاريين على التركيز على الحد من خطر الانقراض، لكن الشكوك حول كيفية تحقيق هذا الهدف كبيرة جدًا لدرجة أنني أفضل التبرع للمشاريع التي تكون احتمالات تحقيق شيء إيجابي فيها أعلى بكثير”. انظر سنجر (2021).
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مشروع 1000 Word Philosophy وقد نشرت هنا بترخيص منهم.
ترجمتها: مروة عيسى
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.