التصنيفات
فنون

سياسة الأخلاق وفن الشارع

عن تنظيم الفن أخلاقيًا والدوافع السياسية وراء ذلك

عكس ما يبدو، تتجاوز قرارات نقابة الفنون في الآونة الأخيرة الخصوصية المصرية بعض الشيء، حيث نشهد في أكثر من لحظة هذا الصراع القائم بين محاولة التحفظ على الفن والتمرد على السائد من جهة أخرى. لكن الأكثر صخبًا من الجدلية الفنية ذاتها هو مناهضة الفن القادم من غير المتخصصين فيه، متجاوزة الإشكاليات الجمالية والأغطية المفاهيمية لدوافع أخلاقية وسياسية؛ حسبما وجدنا في الجانب الشرقي السوفيتي الغطاء الأيديولوجي المعياري للفن فإنه في المجتمع الغربي وفي لحظة أخرى -وكما كانت في خضم الصراع البارد آنذاك- تختلف الدوافع لأسباب سياسية أخرى ويبقى رد الفعل ذاته اتجاه الفنون عامة.

الحلم الأمريكي

تختلف الدعاية الانتخابية في أمريكا عن غيرها حيث أن الراية الأيديولوجية تتغير حسب الناخب والبرنامج الانتخابي بالطبع، إلا أن الأهم الاستعداد الاجتماعي ذاته وأن كل البرامج تتقاطع مع بعضها في عدة جوانب على اختلافها، ويبقى الحلم الأمريكي كرؤية اجتماعية ومؤسسية لها الصدى الأكبر خاصةً في القرن الماضي وفي الثمانينات.

وبما توافر من أجهزة وأدوات اتصال إعلامية حديثة حينها، وسيطرة النظام الأمريكي على صناعة الإعلام والسينما، وغزو العالم بنظام بال حيث أصبح صوت امريكا في كل مكان، ونشر نموذجها الثقافي، صارت صورة الخطاب المتلفز في عهد ريغان حاسمة وشاملة “وبات من المتعذر عمليًا التخلص من تأثير النظرة الأمريكية إلى الحياة الاجتماعية والتي تعبر عنها ألوف المسلسلات والأفلام والألعاب التلفزيونية القائمة على الإعلان الدعائي” حتى أصبحت أمريكا تستلهم مع رئيسها الجديد التسلح الخلقي.

اشتبكت المؤسسات آنذاك مع الفن في ثمانينات القرن الماضي، وفي ظل ما ذكر آنفًا كانت ثورة الـ Pop Culture في الولايات المتحدة، و في لحظة مشابهة بين دعاوى رونالد ريغان  -الرئيس الأربعين للولايات المتحدة في الفترة من 1981 إلى 1989-  بالإصلاحات الاجتماعية واستعادة قيم الأسرة التقليدية في المجتمع الأمريكي و هذا بمواجهة و محاولة إرجاع رونق البيت الأبيض بعد حادثة ’ووترغيت والتوابع الاجتماعية لما بعد الحرب العالمية الثانية و حرب فيتنام من جهة و الحركات الفنية المتحررة منذ الستينيات و بوادر ظهور ثقافة الهيب هوب و ثقافة البوب المتواجدة بشكل أكبر و أعمق حينها من جهة أخرى، إلا أنها كانت أكثر اللحظات تصادمًا بين المجتمع و المؤسسات و الجيل الناشئ صاحب “الفن الغير رسمي”.

“أريد أن أستغل هذه المناسبة لأتحدث عن لحظة شخصية وأبين كيف أن تفسير الكلمات كان غير عادل، وكان فيه الكثير من الحكم المسبق، وكيف يمكن اعتبار الأمر على أنه اغتيال لشخصي… إن جمال الأدب والشعر والموسيقى يكمن في أنه يترك بين الكلمات فسحة لخيال وخبرات، وأيضاً أحلام الجماهير، لكني كمؤلف أستطيع القول بشكل قاطع أن أفكار العبودية والتعنيف النفسي والاعتداء توجد فقط في عقل السيدة غور”.

ذلك ما قاله Dee Snider، المغني الرئيسي ومؤلف الأغاني في فرقة الميتال ’تويستيد سيستر، أمام جلسة استماع عقدتها ’تيبر غور عن طريق زوجها عضو مجلس الشيوخ حينها ’آل غور .. وكان باسم مؤسستها الناشئة “مركز الآباء للمصادر الموسيقية ” BMRC وذلك بالتعاون مع الصحفية ’كاندي سترود و’سوزان بيكر زوجة رئيس الخزانة الأمريكية، ووضعهم خمسة عشر أغنية في قائمة الأغاني الاكثر بذائة… الحدث الذي أنتج ملصق Advisor على الاسطوانات التي تحتوى على أي ألفاظ “بذيئة”.

السلطة والفن… “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”

نستطيع وضع رونالد ريغان في تلك الثنائية دون مبالغة. وبرغم أن أحد مبادئه الأساسية في برنامجه الانتخابي هو تقييد تدخل الحكومة في حياة الشعب سعيًا للحلم الأمريكي، إلا إنه تم إخراج الأعمال الفنية، خاصةً المسلسلات والأفلام، من هذه الرؤية لخدمة رؤى ريغان بعودة الأخلاق الأمريكية في الخمسينات وظهر ذلك بشكل مبتذل في فيلم Back to The Future الذي أنتج عام 1985 من إخراج روبرت زيميكس وكتبه مع بوب غيل – وذكره ريغان في خطابة بعدها- وكما ظهرت هذه الرؤى في أفلام مثل رامبو.. و لكن كانت الديناميكية للفن الجديد أسرع وأكثر تطوراً من خطى ريغان في ظل هذا العقد المليء بالحركات الفنية المتمردة و فتح آفاق جديدة من خلال التكنولوجيا الفردية – كأجهزة الوكمان و مشغل الاسطوانات و كاميرات الفيديو الشخصية – كانت أكثر كفاءة و كفاية لاستيعاب الطاقات الجديدة و انتشارها بين المراهقين ولم يحتاج الأمر سوى تواصل جيد بينهم و غزارة في الإنتاج التجريبي حتى آخذ في قولبته في السوق الرأسمالية من جهة الشراكات الخاصة و المعارض الفنية حتى أستقبل المجتمع الفن الجديد، وإن كان في عباءة أكثر تحفظًا و تماشياً مع ما يناسب الطبقة السائدة. أصبح يعرض فن الجرافيتي في معارض فنية، وكان ذلك متماشيًا مع قيم تلك اللحظة التاريخية؛ أي الإنتاجية والربح، إلا أنه كما بينا كانت المواجهة أكثر حده مع الرؤى السياسية منها من الفنية و الاجتماعية- فلم تكن ثقافة الهيب هوب إلا ثقافة اجتماعية في قوالب فنية عدة حتى تقبل نجوم الصف الأول الفن الموسيقي و البصري الجديد بشيء من المغامرة الفنية و محاولات الدمج والصياغة الجديدة.

الفن والمجتمع

العلاقة بين الفن والمجتمع شديدة التعقيد خاصةً بذكر قضية دي سنايدر، فإننا في نفس العقد نجد جون هينكلي جونيور، الذي حاول اغتيال ريغان، قد تأثرًا بعمل فني هو Taxi Driver، وإن كان هوسه الأكبر بجودي فوستر. ورغم حالته النفسية المؤثرة على معالجته للعمل الفني فتظل القضية ملتصقة بالعمل. ويجعلنا ذلك نتساءل عن مشروعية القيود الفنية في بلادنا. ذلك بعيداً عن تشعب الآراء الفلسفية حول تأثر وتأثير الفن في الذات وبها، في ظل دعاوى حكومية نحو الفردانية والسوق الحرة تارة، و قيم الأسرة تارة- وإن ظلت الأخيرة أكثر التصقًا بالأعمال الفنية غير الرسمية بناءً على أحكام تعسفية بطبيعة الحال.

إلا أننا نجد أنه قليلاً ما حرك الفن عمل جماعي أو غرز قيمة ما ليس المجتمع مستعد لها سلفاً، لا نتذكر من مشروع الشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم، رغم محتواه الثوري، حراك حقيقي سوى تلك المواساة للمجتمع حيث كان في حالة جماعية تلزم ذلك عليهم وعلى الفن ذاته مهما كانت راديكالية الخطاب الفني؛ ذلك بافتراض أن الفن منشأة الخاص بعيدة عن المجتمع وليس بينهم رابط ما.

أما بعكس الافتراض الأخير، فإن الفن لن يغرز ما تم غرزه مسبقًا من قِبل عوامل أخرى، أي أن أصابع الاتهام الموجهة للفن ليست سوى رأس منزعج من توحيد تلك النزعات الاجتماعية في عمل يستطيع الوقوف بوضوح واستقلال، ولكن بدلاً من تمحيصه وفهمه وفهم جماليات المجتمع الحقيقي ورؤياه لقضايا مثل الجنس والمال وغيره، فإنه يسبب تهديد ما؛ ولعل ذلك يعود في جانب من جوانبه إلى تراجع الدور النقدي.

وبتتبع خطى الأعمال الفنية ومنتجيها من الفنانين، نجد كثيرين منهم حالما ينتقلون إلى طبقة أخرى من بالمستوى المادي فإن نظرتهم لتلك القضايا تخالف، وإن كان ظاهرياً، الشعور بالانتماء الاجتماعي اتجاهها أو التخلي عنها، وتظل حقيقة أخذ شركات الإنتاج والربح بشكل عام الدور القيادي في الكلمات واللحن بعد فصلهما عن بيئتهما الأصلية. وإن كان ذلك يستحق المواجهة بشكل ما فإن مواجهته الحقيقة وجدليتها تظل اجتماعية وتظل الرؤى الأولى أحق بالمتابعة.

لوحتان للفنان فون هيركومر
لوحتان لفون هيركومر. المصدر ويكيميديا

في دراسة لمايك هيبوورث حول اللوحات التي تتناول موضوع الشيخوخة في العصر الفيكتوري في لندن، واستجابة الناس لها حينها بين كيف يمكن لذلك النهج أن يبين طبيعة المجتمع آنذاك، خاصة في دراسته لفون هيركومر (لوحة طابور العرض الأخير)  و( لوحة المساء مشهد في اتحاد ويستمينستر)  يشرح كيف أن هيركومر في لوحته الاولى رسم الرجال المسنين بشكل نبيل و رؤى إيجابية في الزي العسكري بطريقة لقيت حفاوة الجمهور واستحسانه، وبالفعل حقق هيركومر نجاحا شعبياً حينها. ذلك ما لم يحدث مع اللوحة الثانية (المساء) حيث كان تصويره للنساء في الملجأ وإن كان على وجوههم نفس البسالة والنبل، إلا أنه لم يكن أمر مستساغ حينها حيث كانت تصور النساء بين العائلة و ليس في الملجأ حيث صور على أنه الاستراحة الأخيرة. ذلك يبين كيف يمكن فقط الاستجابة للعمل أن تخبر الكثير عن المجتمع دون قراءة دفاتره.

الدور النقدي وعالم الفن

لم تنحصر مسؤولية العمل الفني بالفنان ذاته يوماً مثل العقود الأخيرة حيث كان الفن الرسمي ينتج إما بشكل اجتماعي صرف في المجتمعات القديمة، أو تحت ما يسمى نظام الرعاية، ولم يأخذ ذلك المنحى الاكثر استقلالاً إلا مع دخول السوق؛ في كل آن و في صلب العمل ذاته نجد العلاقة وطيدة – في بيئتها الطبيعية-  بين المنتجين و الفنانين وكذلك النقاد و الجمهور المستقبلي، و لم تأبه النظرة النقابية في مصر -كأي دعوى مؤسسية- في الآونة الأخيرة لذلك التعقيد و نستطيع، دون حذر، أخذ المفهوم الذي صكه آرثر دانتو عام 1964 للفنون التشكيلية بمصطلح عالم الفن و يعرفه ديكي بأنه “مجموعة من الأشخاص المنظمين في إطار فضفاض، لكنهم مع ذلك مترابطون متواصلون. وتضم تلك الجماعة الفنانين والمنتجين، ومديري المتاحف وروادها، والنقاد، وفلاسفة الفن وغيرهم”. ويرى أن تلك المجموعة هي التي تحدد هويتها بنفسها وهوية أعضائها، ممن يبدون اهتماما بالفن.. لذا فإن مع تراجع المنتجين لأهداف ربحية في وقتنا وأخذ النقابة أدوار سيادية على العمل الفني وغياب الدور النقدي باختلاف مدارسه؛ يُحّمل على الأخير بما ليس فيه ذلك، وإن تجاوزنا مسألة ارتباطه بالمجتمع ذاته.. فإن النقاد أنفسهم يتجاوزون حتى التعقيد الشكلي في العمل الفني للدعاوى الأخلاقية أو الاكتفاء بالشكلانية. في كتابه مبادئ النقد الادبي والنقد والشعر يحذر ريتشاردز من أن يفقد الناقد قيمته -أي نظرته القيمية- ومن المغالاة فيها دون النظر الرصين في تعقيدها و مباحثها المتشعبة حتى لا يقع في غرور غير مبرر كونه لا يستطيع التفاهم مع الذوق العام و إيصال رؤيته للفن الجيد، أو يتمسك بأحكام أخلاقية تعسفية كرجل دين، و ذلك لأن ريتشاردز من المناصرين لارتباط الأخلاق بالفن و تأثيره على المجتمع و مدى تأثير المناصرين للأخلاق المثالية في الفن على قدرة النقاد بتناول ذلك المبحث بما خالطه من لغو شديد. إلا أن ذلك قليلا ما يمكن فعله في دون طرح تلك الأسئلة القيمية الكبرى اي بما يختص أكثر بفلسفة الفن.

لعنة الموسيقى “العالمية”

عودة للموسيقى بشكل خاص وبرؤى اجتماعية أيضاً، فإنه بزغ في التسعينات موجة غنائية مصرية وبعيداً عن مدى إثراءها للإنتاج الموسيقي من عدمه إلا أنها شكلت لعنه تلاحقنا حتى اليوم- أي تلك النزعة نحو موسيقى عالمية، وبعيداً عن دعوات الأصالة الزائفة من قبل المجتمع التي لم نسمع بها في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية ذاتها، وذلك لوعيها بأصولها الموسيقية ربما، إلا أنها تعالت بتلك النبرة عن إنتاج الثمانينات والتسعينيات في مصر خاصةً من قبل منتجيها، ولعل ذلك لما وصلت إليه من “عالمية”.

يتطرق ديفيد انجليز ورولاند روبرتسون في كتاب سوسيولوجيا الفن بتحليل ظاهرة الموسيقى العالمية على أسس اجتماعية، حيث قالوا بأنها تعود للنصف الثاني من القرن العشرين بشكلها الحديث نتاجاً لتيارات العولمة و ذلك التعريف الغير محدد حتى من جهة الأكاديميين -أي الموسيقى العالمية- فهو يشير في عمومه حسب بيرن إلى أنه إشارة إلى كل الأنواع الموسيقية غير الغربية من كل الأنواع الشعبية و التقليدية و حتى الكلاسيكية حيث هو “اسم سلة عرض في محل التسجيلات الصوتية يرمز إلى الأشياء التي لا تتمنى إلى أي مكان آخر في المحل” و بيعها بذلك الإحساس كونها أصيلة للجمهور الأكثر تعقيداً و نضجاً من جمهور التيار الرئيسي للروك و البوب “جمهور يتألف من الناس الذين يقدرون الأصالة الموسيقية و الذين يشعرون بأنهم مختصون بموسيقى غير موسيقى التيار السائد”. ذلك يوضح لنا بإيجاز احتمالية وجود الأسباب التجارية والاجتماعية الذي يجعل من فن دون غيره اجتماعياً بعيداً عن قيمته الجمالية في حد ذاته، وأن المهتمين بالموسيقى بشكل خاص يعرفون مدى ضآلة التنوع على مستوى التناغم في الأغاني بشكلها العالمي وخاصةً في ال Pop Culture، ويمكن في مباحث أخرى لاحقة تبيان مدى تأثير التنوع من عدمه في خلق قدرة استهلاكية عالمية.

مهاب محمد
مهاب محمد

مختص بنظم المعلومات الإدارية ومهتم بالفلسفة والفنون