إن المتابع للشأن العربي وأخباره، سواءً سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، أو معيشيًا يلاحظ غياب سيادة القانون بشكل عام. وتاريخيًا، لم يعلُ صوت القانون إلا ربما لفترات قصيرة جدًا في بعض الدول قبل الانقلاب على السطلة. ورغم وجود الأحكام الجزائية لحماية مصالح المواطنين ومعاقبة المجرمين، ورغم دراسة القضاة والمحامين للقانون في الجامعات إلا أن كل ذلك هو مجرد مظهر تجميلي خادع يوحي بدولة قانون، لكن السيادة الحقيقية هي في يد الطغمة الحاكمة التي تمتلك سلطة مطلقة تتجاوز القانون والمساءلة أمامه.
لفهم هذا الوضع الشائك لا بد من فهم المقصود بسيادة القانون حديدًا، وما الذي وضعنا في غيبوبة القانون طوال هذه الفترة. إن فهم هذا المصطلح وكيفية تجذره في التاريخ الدستوري يسمح للمرء بتجنب بعض المشكلات النظرية المتعلقة بأهميته، والحجج المقدمة ضده، فرغم الإشارة إليه غالبًا في الأخبار ووسائل الإعلام، إلا الضبابية تلف المقصود به تحديدًا. كما أشار جوديث شكلار: “تفشل النظريات المعاصرة لسيادة القانون لأنها فقدت الإحساس بما كانت عليه الأهداف السياسية للمثل العليا لسيادة القانون في الأصل ولم تتوصل إلى إعادة صياغة معقولة”[1].
يمكن إرجاع شكل القانون كأحكام عرفية لحل الخلافات بين عامة الشعب تاريخيًا إلى عصور حكم الخلفاء. فطوال تلك المدة وحتى سقوط الدولة العثمانية لم يكن هنالك دستور أو قانون مكتوب يمكن الرجوع عليه بدعوى أن الخلافة تحكم بالشرع، وبالتالي يقوم القضاة بحل النزاعات عبر الرجوع إلى الشرع دون وجود نص موحد، بل يترك الأمر لرؤية القاضي الفقيه، وتفسيره للنصوص الشرعية. ومن هنا نجد أن القضايا المتشابهة تحصل على أحكام مختلفة تبعًا لمذهب القاضي الفقهي، ومدى تسامحه، وتمسكه بالشرع والعديد من العلل الأخرى التي يشترك بها كل البشر.
بالطبع، عدا عن المسائل المتعلقة بالخطأ البشري، يطرح هذا التطبيق للقانون بصيغة الشرع مشاكل أكبر تتعلق بنطاق تطبيق القانون؛ فكلنا قرأنا أن عقوبة الخمر التي كانت تطبق على عامة الشعب، لكن لم تكن تطبق على الخلفاء والسلاطين وأعوانهم، بل أن الخليفة كان يسمح لبعض الشعراء في مدح الخمر في مجلسه، ويعاقب غيرهم “بما يراه مناسبًا”. ولم تكن هذه القوانين شاملة لكل مناحي الحياة؛ حتى مع بساطة الحياة في ذلك الوقت. فرغم تحديد وجوب جباية الزكاة، إلا أنه لم يكن هنالك خطوط واضحة موثقة، مثلاً، تشرح كيف يمكن أن تصرف أموال الخزينة، ولا حصة الدولة أو الخليفة منها، بل ترك له الأمر ليصرف منها ما يشاء، ويعطي الشاعر الذي مدحه تارةً ذهبًا، ويقطع عن جنده المخصصات تارة أخرى.
من هنا يتضح أن هذه القوانين كما يرد في قصة محمد المويلحي المعبرة، هي قوانين حل نزاعات، وليست قوانين سيادية يقف الكل أمامها بالتساوي.
إذا توجهنا نحو فلورنسا فيمكن لمُنظر الدكتاتورية نفسه أن يخبرنا عن خطورة هذا الوضع. يقول مكيافيلي في كتابه “خطاب حول ليفي”: “إن جميع الدول، سواء كانت ممالك أو جمهوريات، بحاجة إلى أن ينظمها القانون، لأن الأمير الذي يمكنه أن يفعل ما يشاء مجنون، في حين أن الشعب الذين يمكنه فعل ما يشاء ليس حكيمًا”.
قبل ما يقرب من ثلاثة قرون من توماس باين وتوماس جيفرسون، رأى مكيافيلي أن الشعوب المتمتعة بالحكم الذاتي، سواء كانت “مقيدة بالقوانين” أم لا، أقل عرضة للتحكم من قبل الأمراء أو الطبقة الحاكمة. مع ذلك يقول أن الجمهوريات بحاجة إلى قوانين شبيهة بسلطة الملك للوقاية من مرض الديمقراطية المميز، ألا وهو الانقسام الشعبي الذي يتحول إلى تحزب وفرقة. تهدف الديمقراطية إلى إعطاء أصوات متساوية للأشخاص الذين لديهم مصالح وقيم متضاربة، وبالتالي حماية حرية المواطنين في التفكير بشكل مختلف عن أيديولوجية الأغلبية أو أيديولوجية الحزب الواحد. لكن يجب أن تبقى هذه الخلافات في حدودها الدنيا وإلا فإنها تدمر النظام السياسي. تشكل القوانين الجيدة هذا التقييد الأساسي، وتحدد ما يمكن القيام به في الفضاء العام المشترك. عندما تبقى المنافسات الحزبية ضمن هذه الحدود فإنها تساعد في الحفاظ على الديمقراطيات قوية. تصبح الخلافات سامة عندما يتسبب تعدد الآراء بشكل استقطابي بأن ينسى الثوار أن عليهم التعايش مع أندادهم- عندما يغضون الطرف عن الفساد في صفوفهم ويتجاهلون تجاوزات قادتهم في سباق حميم على هزم الآخر.
أما مونتسكيو فيرى أن الحرية هي العيش في ظل سيادة القانون. الحرية موجودة، وفقًا للفيلسوف والقاضي الفرنسي، فقط إذا كان الناس آمنين من الاستبداد. ولمنع التجاوزات في الحكم، يجب تشكيل الحكومة بطريقة بحيث تكون السلطة ” بمثابة رقيب على السلطة”.
ويكون ذلك عبر فصل السلطات. عندما تتحد السلطتان التشريعية والتنفيذية في نفس الشخص، أو في نفس الهيئة، لا يمكن أن تكون هناك حرية؛ لأن المخاوف قد تنشأ خشية أن يسن الحاكم نفسه، أو المشرعون قوانين استبدادية، لتنفيذها بطريقة استبدادية.
إذًا، لا حرية إذا لم تنفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. كان النظام القضائي المستقل محوريًا في مخطط مونتسكيو. “لا تهدف الفكرة لضمان استقامة القضاء وثقة الجمهور، بقدر ما هي منع السلطة التنفيذية وأعوانها العديدين من فرض صلاحياتهم ومصالحهم وميولهم المستمرة على القضاء. ويمكن بعد ذلك أن يُنظر إلى القاضي على أنه الحامي الأكثر ضرورة للمواطن”.[2]

مع ذلك ورغم النقاش الدائر حول القانون وتطبيقه منذ قوانين حمورابي، فإن سيادة القانون لم تُعرف من الناحية النظرية قبل القرن العشرين. بدلاً من ذلك، كان يُنظر إليه فقط على أنه منتج مرغوب فيه لعملية التطور التاريخي. حتى أتى الفقيه القانوني الإنجليزي ألبيرت ديسي، والذي سيكون من الممكن تحديد الجوهر المعياري لسيادة القانون بالرجوع لتعريفه له. يقول:
“تعني سيادة القانون، في المقام الأول، السيادة المطلقة أو هيمنة القانون الدائم على عكس تأثير السلطة التعسفية، ويستبعد وجود التعسف أو الامتياز أو حتى السلطة التقديرية الواسعة من جانب الحكومة … وهذا يعني، مرة أخرى، المساواة أمام القانون … تستبعد “سيادة القانون” بهذا المعنى فكرة أي إعفاء للمسؤولين أو غيرهم من واجب الامتثال للقانون الذي يحكم المواطنين الآخرين أو من اختصاص المحاكم العادية … فكرة أن الشؤون أو النزاعات التي تُعنى بها الحكومة أو موظفوها هي خارج نطاق المحاكم المدنية غير ]مقبولة في القانون[“. [3]
التعريف له ثلاثة عناصر. تحظر سيادة القانون ممارسة السلطة التعسفية، ويخضع المسؤولون للقانون، وتُمنع السلطة التنفيذية من إنشاء محاكم خاصة عندما يرفع المواطنون دعاوى ضد السلطة التنفيذية.
نفهم مما سبق أن سيادة القانون هو وسيلة لضمان عدم سيطرة المصالح الشخصية ونزعة السيطرة على الأشخاص ذوي السلطة. بدون قوانين تطبق على الكل بالتساوي تصبح “المدن والولايات”، كما يقول برناردو والد نيكولاي ميكافيلي “عصابات من اللصوص” حيث يضايق العنيف المُتسلح بالقوة البقية. القوانين الجيدة المطبقة على الكل بالتساوي هي أقوى أذرع الشعب. وكما قال أفلاطون، إذا إدعى أحد الذين في السلطة أنه خبير ومعرفته السياسية أعلى من القوانين “يجب تسمية هذا الشخص بالطاغية”.
ولكن ما هي أنواع القوانين التي تمنع الاختلافات الصحية من أن تصبح سامة؟ تلك التي تضمن تكافؤ الفرص في المشاركة في الحكومة وتقلد المناصب العامة بغض النظر عن الحزب أو الثروة أو العلاقات. إن العقوبة أو المكافأة على أساس الانتماء الجماعي بدلاً من الأفعال والصفات الفردية تقوض سيادة القانون. عندما يحدث ذلك، فإن خراب الجمهورية ليس سوى مسألة وقت.
في ذات الوقت، وبالنظر إلى الديمقراطيات الليبرالية المنقسمة اليوم، يبدو أن الإفراط الحزبي والطموحات الاستبدادية تسلب القوانين سلطتها، أيضًا. كما أن التفاوت الواسع في الثروة وما يتبع ذلك من امتيازات واستثناءات يؤدي لنفس النتيجة.
رأى أفلاطون أن التفاوتات في الثروة من أعمق التهديدات لسلامة القانون. أما كارل ماركس فيجادل بإنه لا يوجد أي مجتمع – بما في ذلك المجتمعات الليبرالية – لديه قانون عادل ومتساوي، بل أن الحيادية الشكلية للقانون ليست سوى واجهة، وجزء من بنية تمويه لاستغلال الفئة الأضعف من الشعب. ويتفق ميكافيلي وأفلاطون هنا على أن معظم الأنظمة القانونية لم تجعل الدكتاتورية بعيدة المنال بما يكفي للطبقة المستغِلة.
في حين رفض ماركس فكرة القانون الذي يعزز مكانة الأثرياء في المجتمع ويجر بقية الشعب إلى العبودية، رأى روسو مدى عمق تشكيل نظرة الناس إلى عالمهم. اعتاد الناس على التنافس على حصص غير متكافئة لدرجة أنهم لا يستطيعون رؤية كيف يمكن للقوانين أن تلطف عدم المساواة دون تدمير أسلوب حياتهم. يعتقدون أنهم يجب أن يلعبوا لعبة شديدة التنافسية ليس فقط لأنهم لا يرون أي خيار آخر ولكن لأنهم مبرمجون على الرغبة في الفوز باللعبة التي يقال لهم باستمرار إنها اللعبة الوحيدة المتوفرة.
وهكذا تتواطأ السياسة مع الاقتصاد لإهانة المساواة وإعاقة حكم القانون. ليس من المستغرب أن يكون الأشخاص من الرتب المتوسطة والدنيا غير الآمنة في المجتمع أكثر حرصًا على الحصول على ميزة بأي وسيلة ممكنة. يروي مكيافيلي حلقة من تاريخ فلورنسا عندما قام المواطنون المتوسطون الذين كانوا يأملون في زيادة “شرفهم” بإخراج العمال الأفقر من نظام النقابات الذي كان يحمي حقوقهم الاقتصادية والسياسية لفترة طويلة. كانت النتيجة حربًا أهلية حطمت الثقة بين الطبقات المختلفة لعدة قرون وساعدت عائلة ميديشي فاحشة الثراء في الوصول إلى السلطة. يستخدم مكيافيلي الحلقة لاستخلاص درس للأجيال القادمة: عندما يكون الاختلاف غير منظمًا، فإن التفاوتات الناتجة تهدد وعد الديمقراطية بالمساواة بموجب القانون. يتعاطف بصدق مع المتمردين من الطبقة الأقل حظًا في المجتمع، موضحًا أنهم تعرضوا لخذلان العدالة. لكن العلاج الصحيح للظلم ليس ثورة عنيفة، بل قوانين أفضل. بالنسبة لمكيافيلي، كما هو الحال بالنسبة لأفلاطون فإن التنظيم الاقتصادي وآليات إعادة التوزيع جزءٌ لا يتجزأ من سيادة القانون، ومن هنا ليس من المستغرب أن نجد في دراسة للبنك الدولي علاقة قوية بين التطور الاقتصادي وارتفاع دخل الفرد من جانب وسيادة القانون من جانب آخر. بعد كل شيء، فإن انفتاح المستثمرين على دخول سوق دولة ما يعتمد على مدى ثقتهم بانصياع سلطات الدولة للقانون، وأنه لن يأتي يوم وتستولي الدولة على أعمالهم أو تأممها، مثلاً، من دون رادع أو قانون للرجوع إليه.
لقد استوعب المدافعون الكلاسيكيون عن سيادة القانون هذه المشكلة بجرأة أكثر مما يفعله معظم الناس اليوم. لقد رأوا أنه حتى القوانين المثالية يجب أن تزرع في تربة صحية وإلا فإنها ستتعفن. إن أفضل علاج للقوانين الضعيفة هو الاهتمام بأسسها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. على الرغم من وجود عدد كبير جدًا من الأمثلة على القوانين التي تنحني للثروة والسلطة، فلا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن هذا هو المصير المحتوم لكل القوانين. قد تكون المساواة القانونية في بعض الأحيان حيلة مفتعلة من قبل الأثرياء للسيطرة على بقية مكونات المجتمع، لكنها لا تزال فكرة سامية، يمكن استخلاص نتائج أفضل منها- ولا يمكن للبشر بأي حال الاستغناء عنها. تكمن مهمتنا في استنباط قوانين لديها المؤهلات لتقديم هذه الفوائد وزرعها في تربة صالحة.
يجب الحذر أيضًا من أن المشرعين في الأوقات المضطربة غالبًا ما يعتقدون أن القوانين الحكيمة يجب أن تكون شديدة القسوة، وتتطلب مستويات عالية من الامتثال، وبالتالي تخويف الناس وإجبارهم على الطاعة. بعض رجال سيادة القانون، ولا سيما شيشرون، بحثوا عن صورة للقوانين الإلهية في الطبيعة. أما أفلاطون فقال أن أفضل المشرعين يعرفون أنه لا توجد حكمة بشرية ستمنحهم قوانين كاملة. بعد التخلي عن السعي لتحقيق الكمال، يبذلون قصارى جهدهم بضمير حي لوضع قوانين تناسب الطبيعة البشرية الناقصة بطبعها. تتجنب مثل هذه القوانين العقوبات القاسية لدرجة أنها ترهب الناس أو تعاملهم بوحشية أو المتساهلة لدرجة أنها لا تردع الجريمة أبدًا. يجب أن يكون هدفهم العيش الجيد والألفة، وليس الشمولية في الإيمان والعمل أو مساعدة الدولة في السيطرة على المواطنين. يجب أن يعاملوا الناس على أنهم أحرار لديهم هامش من الحرية عند اختيار تطبيق القانون أو خرقه. بالاستفادة من هامش الحرية هذا، يجب على القانون أن يشرك إرادة الشعب بدلاً من مجرد ترسيخ القواعد والتهديد بالعقوبات. عندما يعلم المشرعون أنهم بحاجة إلى مخاطبة الأشخاص الأحرار باحترام وبعقل وليس بالقوة وحدها، فمن المرجح أن يسنوا قوانين يدافع الناس عنها لأنهم قبلوا حكمها عن قناعة.
[1] Judith N. Shklar, “Political Theory and the Rule of Law,” in The Rule of Law: Ideal or Ideology.
[2] Judith N. Shklar, “Political Theory and the Rule of Law,” in The Rule of Law: Ideal or Ideology, p. 5.
[3] lbert Venn Dicey, Introduction to the Study of the Law of the Constitution, (London: Macmillan, 1915)
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.