للنظر في هذه المسألة سأركز على كتاب التأملات، والذي عنوانه الكامل: تأملات في الفلسفة الأولى. ظهر الكتاب عام 1641، وكان نقطة تحول في تاريخ الفكر البشري -وليس النقطة الأولى، فتلك كانت اليونان القديمة- ونواة التنوير، وقيمته خالدة، وعادة ما يعتبر بداية لما يسمى “الفلسفة الحديثة”. لكن ماذا تعني هذه الادعاءات؟
أسُس المعرفة
الهدف العام لفلسفة ديكارت هو تأسيس العلم على أركان آمنة وموثوقة تمامًا. بدون ذلك، فإن أي شيء يبنيه العلم سيكون عرضة للشك بعد ضعف أركانه. يمكن بناء صرح شامخ للعلم، لكنه سيكون برجًا مترنحًا وهشًا دائمًا، كل مستوى مبني على آخر، وعدم اليقين يعشعش في كل منها من نقطة البداية.
يقصد بـ”العلم” هنا، من وجهة نظر ديكارت، التصور الموضوعي للواقع. من أجل معرفة ما هو حقيقي حقًا، يجب تجريد الرؤى من أي إسهامات مستمدة من كونها وجهة نظر معينة وطريقة عرض من شأنها أن تشوه رؤية الأشياء كما هي في حد ذاتها.
من أجل تحقيق اليقين المطلق، يبتكر ديكارت (منهج الشك). وهو ليس مجرد تمرين منطقي، ولكنه مسار نفسي يجب اتباعه. العديد من الأشياء التي نعتقد أنها صحيحة يتبين أنها خاطئة، فكيف يمكننا غربلة الصحيح من الباطل، والتأكد من أننا نصل في النهاية إلى الحقائق فقط؟ الهدف من (منهج الشك) هو الشك بشكل منهجي، أي اعتبار أي شيء محتمل الخطأ خاطئًا بشكل جازم. بهذه الطريقة فقط يمكننا التأكد من أن ما تبقى صحيح بلا شك. قد تكون بعض المعتقدات الخاضعة لهذا الشك صحيحة، لكن هذا لا يهم: إذا أمكن اعتبارها خاطئة، توضع في جانب الخطأ.
بعد أن وجد من خلال منهج الشك شيئًا لا يمكن أن يكون إلا صحيحًا، وبالتالي هو صحيح، ينطلق ديكارت من محتويات تلك الحقيقة صاعدًا نقطة التلاشي لمى هو مؤكد، ليبين كيف أن المعتقدات الأخرى التي نفكر بأنها صحيحة هي في الواقع كذلك ويمكن تتبع تأسيسها الجيد على أركان يستحيل عدم صحتها.
إن محاولة البحث عن شيء مؤكد يمكن أن تُشتق منه آراء أخرى مبنية على هذا اليقين، ليس بالأمر الغير المألوف في الفلسفة، لكن ديكارت يتابعه بصرامة قاسية لم يسبقه بها أحد.
ومع ذلك، فليس هذا ما يجعل ديكارت الفيلسوف الراديكالي الذي هو عليه. ديكارت، بمعنى من المعاني، واضع لبنة طرق التفكير السائدة التي تبعته، الأمر الذي أدى إلى ما نراه اليوم على أنه عقلية العالم الحديث: أنه من واجب الفرد التفكير في الأشياء بنفسه وليس مجرد قبول ما يقال له.
الأمر المختلف في ديكارت هو أن هذا الموقف شخصي وذاتي. ما الذي يمكنني اعتباره مؤكدًا؟ ما الذي يمكنني معرفة أنه صحيح حقًا؟ يزيح هذا جميع السلطات جانبًا، والأمور التي قرأتها وقيل لك أنها صحيحة، والأشياء التي طلب منك اعتبارها صحيحة وفي كثير من الأحيان صحيحة بالتأكيد، حيث الشك ليس مجرد خطيئة ولكن سيُحكم عليه غالبًا على أنه فعلٌ شنيع ومرفوض. جميع المعتقدات المتراكمة على مر العصور تُصرف دفعة واحدة.
إذًا ينظر ديكارت فقط في خبايا عقله بحثًا عن الحقيقة التي لا تقبل الشك والتي يمكن أن يؤسس عليها. ويجسد هذا بشكل متعمد، حتى يتمكن القارئ أيضًا من المرور بنفس العملية وعدم أخذ أقواله لتقرير ما هو صحيح قطعيًا -وإلا فإنه يضع نفسه كواحد من تلك السلطات التي يرفضها- يطلب منا أن نتخيل أنه جالس بجوار الموقد يفكر في الأمر. لا تصدقه فقط، ولا تقبل العملية بشكل تجريدي، ناهيك عن النتيجة، ولكن في الواقع افعلها بنفسك. انظر في عقلك بعزم لتجد ما يستحيل الشك فيه، ما يستحيل أن يكون غير صحيح، واصرف المتبعثرات.
يفعل ذلك على مراحل، كاستراتيجية، ويطلب من القارئ أن يفعل الشيء نفسه. إنه يهدف إلى مساعدة الناس حقًا على الشك فيما قد يكون خاطئًا.
يبدأ الإدراك الحسي أولاً، كيف يظهر العالم لنا. لم تُضللنا الأوهام فقط في حالات معينة، معتقدين الأشياء الخاطئة صحيحة، بل غالبًا ما نخدع ككل، كما هو الحال عندما ننخدع بالأحلام على أنها حقيقة. ولا توجد طريقة للتأكد من أن المرء ليس نائمًا ويحلم بوجود العالم عندما ينخرط في منهج الشك. قد لا يكون العالم كله موجودًا كما يبدو للحواس، وربما ليس موجودًا على الإطلاق.
بعد ذلك، بشكل مدهش تأتي الحقائق الرياضية التي يُنظر إليها على أنها حصون اليقين الضرورية. من الصعب أن ترى كيف يمكن للمرء أن يشك في أن 2 + 2 = 4. لذلك ربما وصلنا إلى الأسس بالفعل. لكن بالنسبة لديكارت، هذا ليس جيدًا بما فيه الكفاية، حيث لا يمكن للمرء ارتكاب أخطاء في الرياضيات فحسب، بل يمضي قدمًا في افتراض عبقرية شريرة قوية وظيفتها الوحيدة خداعنا للإيمان بأشياء خاطئة.
مرة أخرى، هذا كله جزء من عملية تفكير نفسية يريد ديكارت أن يمر بها كل واحد منا شخصيًا. يجب أن يشك المرء حقًا في المعتقدات التي قد تكون خاطئة، بدلاً من مجرد النظر إلى العملية من الخارج، واعتبار احتمال عدم صحة هذه المعتقدات فقط من أجل الجدل.
لا يريدك ديكارت أن تأخذ بكلامه إلى أي نتائج. 2 + 2 = 4 هي حقيقة ضرورية، ولا يستطيع عبقري شرير (في الواقع ولا حتى الرب) أن يجعل 2 + 2 = 5. إذن 2 + 2 = 4 هي بالضبط نوع الحقيقة المؤكدة القوية التي كنا نبحث عنها؟ ليس فعلاً. قد لا يكون العبقري الشرير قادرًا على جعل 2 + 2 = 5، لكن لديه القدرة على جعلنا نعتقد أن 2 + 2 = 5. لذا فإن الرياضيات هي موضع شك أيضًا.
كل الأشياء التي قد نعتبرها حقيقية مشتقة من التجربة، أي الحقائق البعدية، لا يعتمد عليها، وكذلك جميع الحقائق التي قد نعتبرها حقائق الرياضيات القبلية. لقد أفرِغت عقولنا.
ماذا يتبقى لدينا إذن؟ ما يتبقى هو ما لا يمكننا اعتباره خاطئًا، وحتى العبقري الشرير القوي لا يقدر أن يخدعنا به، بغض النظر عن مدى تحريفه وتحويله والتلاعب بعقولنا. مرة أخرى، إنه مسار عقلي يمكنك ويجب عليك أن تسلكه بنفسك، وإلا فإن الهدف من الطريقة سيكون متناقضًا مع ذاته لأنك تأخذ بكلام ديكارت.
يقول ديكارت إن ما ستجده هو أن حقيقة أنك تفكر لا يدع مجالا للشك. بغض النظر عن مدى شكك، أو مدى شراسة ومنهجية قيامك بذلك، بغض النظر عن مدى عبقرية الشرير وما يلقي من أكاذيب في طريقك، لا يمكنك الشك في أنك تفكر، حتى في فعل الشك نفسه، بالنظر إلى الأشياء على أنها صحيحة أو خاطئة، فإن ما تبقى كحقيقة مؤكدة تمامًا هو أنك تفكر. لا يمكن أن ننخدع بالاعتقاد بأننا لا نفكر، لأن هذا سيتضمن التفكير مرة أخرى.
ثم يأخذ خطوة أخرى. إذا كان يفكر، يجب أن يكون موجودًا، لأنه مع استمرار التفكير، يجب أن يوجد من يؤدي التفكير: Cogito Ergo Sum. أفكر، لذا أنا موجود. أشهر فكرة في كل الفلسفة. لا يمكنه أن يشك في صحة هذا، ولا يمكنك الشك في صحته، كما ستكتشف فيما إذا مررت بنفس العملية: أن هناك على الأقل كائنًا واحدًا مفكرًا موجودًا في العالم وأن هذا الكائن المفكر الموجود هو ذاتك. الآن وصلنا إلى الأساس المطلق.
استعادة عالم الحقائق
بعد هذا يبني ديكارت من طبيعة التفكير، الكوجيتو، عالم الحقائق المعروف. إنه يفعل ذلك في نهاية المطاف من خلال إثبات وجود الرب المستمد من الحقيقة الأكبر لوجود الشيء إذا كان يفكر به، وبالتالي إذا كان التفكير بالرب ممكنًا يجب أن يكون حقيقيًا، وإلا فلن يكون عظيماً بقدر استطاعته، وللرب كل الصفات التي تنسب إليه في أعظم درجاتها.
باختصار، تعني القدرة علة تصور إله وجوب أن يكون هناك إله حقيقي. ثم ينتقل ديكارت للقول بأن الرب بما هو عليه، لن يدعنا ننخدع ونصدق خطئًا بما نجزم صحته.
وهكذا يُستعاد صرح المعرفة، ولكن قد تغير كثيرًا عن السابق، لأن الأشياء المؤهلة فقط كأفكار واضحة ومتميزة يمكن قبولها، وهذا يشمل فقط تلك المعتقدات التي لا يشوهها العقل وهو يفكر فيها، وبالتالي يفكر بالأمور كما هي.
قد نقول أن ما يتبع الكوجيتو هو ذاته عرضة للجدل والشك. ومع ذلك، فإن ما يجب أن نأخذه من ديكارت، والذي يعتبر نقطة تحول في الفكر البشري، هو الخصخصة الراديكالي للمعرفة. هذا هو إرثه الأعظم.
تبعه آخرون مثل لوك الذي يقول أنه يجب على كل شخص جعل الأفكار خاصة به. بالمثل يطلب منا هيوم أن ننظر في أذهاننا ونلاحظ ما هو موجود هناك بالفعل ولا نتجاوز ما يمكن استنتاجه منه.
الرد على ديكارت
فهل نجح ديكارت بشكل تام؟ هل هو محق في أن الطريقة الوحيدة للتفلسف هي التفكير بعمق؟ تأثيره هائل ويكاد يكون من المستحيل تجاوزه. هنالك شكوك بالطبع حول ما يمكن لـكوجيتو إثباته، ونوع الادعاء، وحالته المنطقية، وصحة الاستدلال الذي يستعين به، وما إذا كان يصل إلى “الأنا” التي يستنتجها، وهناك أعمال طويلة معقدة تناقش ذلك.
لكن البحث عن الأسس استمر بالتأكيد عند العديد من الفلاسفة، وحتى أولئك الذين يرفضون الأسس، مثل هيجل ونيتشه -إذا أردنا اختيار اثنين مختلفين تمامًا- يتفاعلون بنشاط ضد مفهوم الأسس بأنه لا يمكن تحقيقه.
لكن هناك طريقة أخرى، يمكن ان تشير إلى أن ديكارت بدأ في المكان الخطأ. ليس الأمر أن الأسس لا يمكن تحقيقها، بل أن فكرة مثل هذه الأسس خاطئة. إنه بالتحديد الجانب العقلي والشخصي لفلسفته الذي يعترض عليه مثل هؤلاء النقاد. إنهم يجادلون بأننا بالفعل في العالم، موجودون فيه ككائنات مجسدة عاملة محدودة، ونصطدم بالأشياء ونتعامل معها، وبدون ذلك لن تظهر المفاهيم والأفكار التي يوصل ديكارت نفسه إليها في ذهنه على الإطلاق. لذا فإن نقطة انطلاقه في عزل نفسه عن العالم تستخدم مفاهيم في عملية التفكير التي لا يمكن أن تنشأ عن مثل هذا الموقف المنفصل.
ومع ذلك، يستمر ديكارت في استخدامها في عملية الشك الجذري، وهو ما يعني أنه لن يكون لدينا هذه المفاهيم في أذهاننا على الإطلاق وبالتالي لا يحق لنا استخدامها. إن الاحتمالية الضرورية لنمط وجودنا، والانخراط مع العالم، تعني أن مفهومًا موضوعيًا مطلقًا وغير مهتم بالعالم، وجهة نظر من العدم، غير ممكن لأنه لا معاينة من لا مكان – لكي يكون لديك وجهة نظر يجب أن يكون لديك وجهة نظر فاعلة. والفلاسفة الذين يتخذون هذا المسار هم هيدجر، سارتر، ميرلو بونتي، فيتجنشتاين، ومؤخراً ريتشارد رورتي، لكن هذه قصة أخرى.
ومع ذلك، يتركنا هذا مع ديكارت كمؤسس للفلسفة الحديثة، ومؤسس النظرة العالمية الحديثة، وهي وجهة نظر لا تسود الفلسفة فحسب، بل جميع جوانب الحياة البشرية.
لن يعود الفكر الإنساني كما كان قبل ديكارت. لا توجد طريقة للعودة إلى طريقة التفكير التي سبقته بمجرد خروج القطة الديكارتية من الحقيبة، أيًا كان ما يفكر فيه المرء.
ولهذا تحديدًا يجب أن نقرأ له.
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في مجلة Daily Philosophy وقد ترجمت هنا بموجب شراكة معهم.