
من بين الذين خدموا في كتيبة المشاة الأثينية كان سقراط ابن صوفرونيسكوس، الذي كان في الثامنة والثلاثين من عمره عندما بدأت الحرب. حضر ثلاث معارك هامة في السنوات الأولى من الحرب وفاز بسمعة الشجاعة. وفي أثينا عام 406 قبل الميلاد، حوكم مجموعة من الجنرالات بتهمة التخلي عن جثث القتلى في معركة أرجينوساي البحرية. كان من غير القانوني محاكمة الجنرالات بشكل جماعي، وكان سقراط الوحيد الذي صوت ضد هذا التصرف، فانتهى الأمر بإعدامهم.
عندما انتهت الحرب عام 404، استبدل الإسبارطيون الديمقراطية الأثينية بأوليغارشيا (حكم القلة) تعرف باسم “الثلاثين طاغية”، ليبدأ عهد التسلط. أُمِر سقراط بالقبض على رجل بريء، لكنه رفض الأمر، وبدأ يفقد شعبيته لدى كل من الديمقراطيين والأرستقراطيين.
يمكن ملاحظة وقع سقراط على الفلسفة في أن كل الفلاسفة حتى الآن يُجمعون معًا من قبل المؤرخين تحت اسم “ما قبل سقراط“. رغم أنه لم يترك أي عمل مكتوب، ولا تزال تفاصيل حياته، بصرف النظر عن الأحداث الرئيسية، غامضة وموضع جدل بين العلماء. إلا أنه لم يفتقر لكتاب السيرة، وبالفعل كتب العديد من معاصريه وخلفائه حوارات قام فيها بدور قيادي، وتكمن الصعوبة في فرز الحقيقة الحيادية من الإعجاب.
يخبرنا كُتّاب سيرة حياته أنه كان رثًا وقبيحًا، ذو بطن منتفخ، وأفطس الأنف؛ لكن الاتفاق يذهب أبعد من ذلك. المؤلفان اللذان نجا عملهما، المؤرخ العسكري زينوفن- Xenophon والفيلسوف المثالي أفلاطون، يرسمان صورتان لسقراط تختلفان عن بعضهما البعض بقدر اختلاف صورة عمر بين السنة والشيعة. في حياته، سخر منه الكاتب المسرحي الكوميدي أرسطوفان، الذي صوره على أنه غريب الأطوار وفاسد، يلاحق العلم ورأسه حرفياً في الغيوم.
هدف الحياة
بدل أن يكون سقراط فيلسوفًا طبيعيًا، يبدو أنه كان سفسطائيًا من نوع غير عادي. قضى معظم وقته في الحوار والنقاش مع الشباب الأغنياء (بعضهم وصل مواقع السلطة عندما استبدلت الأوليغارشيا الديمقراطية). ولكن بخلاف الآخرين، لم يتقاضى أي رسوم، ولم يكن أسلوبه في التعليم هو التلقين بل الاستجواب؛ قال إنه استنبط، مثل القابلة، الأفكار التي حمل بها تلاميذه الصغار، وعلى عكس السفسطائيين، لم يدعي امتلاك أي معرفة أو خبرة خاصة.
ولم يكن مهتمًا بكسب الحجج، أو المجادلة من أجل كسب المال – وهي تهمة وجهت للعديد من معاصريه. كما أنه لم يكن يبحث عن إجابات أو تفسيرات قاطعة- كان ببساطة يفحص أسس المفاهيم التي نطبقها على أنفسنا (مثل “جيد” و “سيئ” و “عادل”)، لاعتقاده أن فهم ما نحن عليه هو المهمة الأولى الفلسفة. كان الشاغل الرئيسي لسقراط إذن هو فحص الحياة، وكان استجوابه القاسي لأعمق معتقدات الناس (عن أنفسهم إلى حد كبير) هو الذي أكسبه أعداءه- لكنه ظل ملتزمًا بمهمته حتى النهاية.
اختار سقراط الموت على حياة الجهل: “الحياة الغير مدروسة لا تستحق العيش”. لكن ما الذي تنطوي عليه دراسة الحياة هذه بالضبط؟ بالنسبة لسقراط، كانت عملية استجواب حول معنى المفاهيم الأساسية التي نستخدمها كل يوم ولكن لم نفكر بها مطلقًا، وبالتالي الكشف عن معناها الحقيقي ومعرفتنا أو جهلنا. كان سقراط من أوائل الفلاسفة الذين بحثوا فيما يشكل “حياة جيدة”. بالنسبة له، كان ذلك يعني تحقيق راحة البال نتيجة فعل الشيء الصحيح، بدلاً من العيش وفقًا للقواعد الأخلاقية للمجتمع. ولا يمكن تحديد “الشيء الصحيح” إلا من خلال التمحيص الدقيق.
رفض سقراط فكرة أن مفاهيم مثل الفضيلة كانت نسبية، وأصر عوضًا عن ذلك أنها مطلقة، لا تنطبق فقط على مواطني أثينا، أو اليونان، ولكن على جميع الناس في العالم. كان يعتقد أن الفضيلة (areté باليونانية، والتي كانت تنطوي في ذلك الوقت على التميز والوفاء) كانت “أثمن الممتلكات”.
بالنسبة لسقراط، قد تلعب المعرفة أيضًا دورًا في الحياة بعد الموت. في محاورة “الاعتذار”، ينقل أفلاطون عن سقراط اقتباسه الشهير عن الحياة غير المدروسة بقوله: “أقول لك إن عدم ترك يوم يمر دون مناقشة الخير وجميع الموضوعات الأخرى التي تسمعني أتحدث عنها، وأن أدرس نفسي والآخرين هو حقا أفضل شيء يمكن أن يفعله الرجل”. إن اكتساب المعرفة، بدلاً من الثروة أو المكانة العالية، هو الهدف النهائي للحياة. إنها ليست مسألة ترفيه أو فضول – إنها سبب وجودنا. علاوة على ذلك، فإن كل المعرفة هي في النهاية معرفة ذاتية، لأنها تخلق الشخص الذي أنت داخل هذا العالم، وتعزز رعاية الروح الخالدة.

أعلم أني لا أعرف شيئًا
في اليونان الكلاسيكية، تم إيلاء اهتمام كبير للأوراكل التي تنطق باسم الإله أبولو في معبد دلفي. وتقول القصة أنه عندما سُئلت عما إذا كان هناك أي شخص أكثر حكمة من سقراط، ردت الكاهنة بأنه لا يوجد. شعر سقراط بالحيرة من رد الأوراكل، واستجوب السياسيين والشعراء والخبراء الذين يدعون امتلاك حكمة من أنواع مختلفة. لم يتمكن أي منهم من الدفاع عن سمعته ضد استجوابه المتعمق، فخلص سقراط إلى أن الأوراكل كانت محقة لأنه الوحيد الذي أدرك أن حكمته لا تساوي شيئًا.
كان من الأخلاق والأهمية بمكان السعي إلى معرفة الحقيقية وكشف الذرائع الزائفة. فوفقاً لسقراط المعرفة الأخلاقية والفضيلة أمرٌ واحد، وشخص يعرف حقًا ما هو الواجب لا يمكن أن يخطئ، أما إذا قام أي شخص بما هو خطأ، فلأنه لا يعرف ما هو الصواب. لا أحد يخطئ عن قصد، لأن الجميع يريدون أن يعيشوا حياة جيدة وبالتالي يكونوا سعداء. أولئك الذين يخطئون عن غير قصد يحتاجون إلى التعليم، وليس العقاب. يطلق المؤرخون أحيانًا على هذه المجموعة الرائعة من المذاهب “المفارقة السقراطية”.
لم يزعم سقراط أنه يمتلك درجة الحكمة التي ستمنعه من ارتكاب الأخطاء. بدلاً من ذلك، قال إنه يعتمد على صوت إلهي داخلي سيتدخل إذا كان على وشك اتخاذ خطوة خاطئة.
كما رأى أن النقش على مدخل معبد دلفي: gnothi seauton (“اعرف نفسك”) ، بنفس القدر من الأهمية. لاكتساب المعرفة بالعالم والنفس كان من الضروري إدراك حدود جهل المرء وإزالة جميع التصورات المسبقة. عندها فقط يمكن للمرء أن يأمل في تحديد الحقيقة. بدأ سقراط بإشراك شعب أثينا في مناقشة مواضيع مثل طبيعة الحب والعدالة والولاء. لم تكن مهمته، التي أسيء فهمها في ذلك الوقت كشكل خطير من ضروب السخرية، هي توجيه الناس، أو مجرد الاطلاع على ما يعرفونه، ولكن استكشاف الأفكار التي لديهم. كانت المحادثة نفسها، مع توجيه سقراط لها، هي التي زودته بالرؤى والأفكار الفلسفية. من خلال سلسلة من الأسئلة، كشف عن الأفكار والافتراضات التي يحملها خصمه، ثم كشف التناقضات داخلها وجعلها توافق على مجموعة جديدة من الاستنتاجات. هذه الطريقة في فحص الحجة عن طريق المناقشة العقلانية من موقف الجهل كانت بمثابة تغيير كامل في التفكير الفلسفي. كان أول استخدام معروف للحجة الاستقرائية، حيث تُثبت أولاً مجموعة من الفرضيات القائمة على الخبرة لتكون صحيحة، ثم يثبت أنها تؤدي إلى حقيقة عالمية في الختام. تم تطوير هذا الشكل القوي من الجدل من قبل أرسطو، وبعد ذلك بواسطة فرانسيس بيكون، الذي استخدمه كنقطة بداية لطريقته العلمية. لذلك، أصبح الأساس ليس فقط للفلسفة الغربية، ولكن لجميع العلوم التجريبية.

مدمر العقول الفتية
الذين اختلفوا حول فحوى تعاليم سقراط يتفقون على طريقة وفاته. إن الأعداء الذين صنعهم برؤيته السياسية، وشهرته الواسعة بين الشباب، تجمعوا معًا ضده، وهو في السبعين من العمر، بسلسلة من التهم الخطيرة، متهمين إياه بعدم التقوى، وإدخال آلهة غريبة، وإفساد الشباب الأثيني.
أفلاطون الذي حضر محاكمة سقراط كتب عنها، حيث يدعي المُدعي ميليتوس أنه يفسد الشباب. إذن من هم الأشخاص الذين يحسنون للشباب؟ يقترح ميليتوس، أولاً، القضاة، ثم أعضاء المجلس التشريعي، ثم أعضاء الجمعية، وأخيرًا كل أثيني باستثناء سقراط. ويتساءل سقراط عما إذا كان العيش بين الرجال الصالحين أفضل من الرجال السيئين؟ من الواضح أن أي شخص يفضل العيش بين الرجال الصالحين، لأن الرجال السيئين من المحتمل أن يؤذوه؛ إذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن يكون لديه دافع لإفساد الشباب عمداً، وإذا كان يفعل ذلك عن غير قصد، فيجب تعليمه بدلاً من محاكمته.
ثم يتحول سقراط لتهمة التقوى. هل هو متهم بالإلحاد أم بإدخال آلهة غريبة؟ الاتهامات ليست متسقة مع بعضها البعض. بالنسبة لتهمة الإلحاد، يمكن أن يرد سقراط أن مهمته كفيلسوف قد وهبه إياها الرب نفسه، وأن حملته لفضح الحكمة الزائفة كانت وفية لتعاليم أوراكل دلفي. ما يمكن أن يكون خيانة للرب حقًا أن يترك مهمته خوفًا من الموت. وعندما قيل له أن بالإمكان إطلاق سراحه بشرط التخلي عن الاستفسار الفلسفي، فيجيب: “يا رجال أثينا، أنا أكرمكم وأحبكم؛ لكنني سأطيع الرب بدلاً عنكم، وطالما فيني حياة وقوة، فلن أتوقف أبدًا عن ممارسة الفلسفة وتعاليمها”.
يختتم سقراط دفاعه بالإشارة إلى وجود العديد من تلاميذه وأسرهم في المحكمة، ولم يتم استدعاء أي منهم للشهادة للمحاكمة. ويرفض أن يفعل فعل الآخرين ويجلب أطفاله الباكيين لاستدرار التعاطف، لأنه يسعى للعدالة لا للرحمة. عندما صدر الحكم، أدانته أغلبية ضئيلة، وحكم عليه بالإعدام.
في خطابه بعد الحكم، أخبر سقراط القضاة أنه لم يكن من الصعب عليه تأطير دفاع يضمن له البراءة؛ لكن الحيل لذلك دون مستواه. “إن الصعوبة، يا أصدقائي، ليست تجنب الموت بل تجنب الإثم، لأنه يجري أسرع من الموت”. سقراط، القديم والبطيء، تجاوزه العداء البطيء؛ وقد تجاوزت المتهمين به بشكل أسرع من قبل أسرع. خلال المحاكمة، لم يكلمه صوته الإلهي أبدًا مرة واحدة لإيقافه، ولذا فهو راضٍ عن وفاته.
هل الموت نوم بلا أحلام؟ مثل هكذا نوم مبارك أكثر من معظم الليالي والأيام في حياة البشر. هل الموت رحلة إلى عالم آخر؟ كم هو رائع أن تكون قادرًا على مقابلة الأموات المجيدين والتحدث مع هيسيود و هومر! “إذا كان ذلك صحيحًا، دعني أموت مرارًا وتكرارًا”. لدى سقراط العديد من الأسئلة التي سيطرحها على الرجال والنساء العظماء، وفي العالم الآخر لن يقتل أحد بسبب طرح الأسئلة. “لقد وصلت ساعة المغادرة، وكلٌّ يسلك طريقه- أنا أموت، وأنت تعيش. الرب وحده يعلم أيهما افضل”.

يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.