تدرب الفيلسوف الروماني بوئثيوس-Boëthius على التقليد الأفلاطوني للفلسفة، وكان مسيحيًا كذلك. اشتهر بحله لمشكلة أرسطو حول الإرادة الحرة: إذا كان الله يعرف بالفعل ما سنفعله في المستقبل، فكيف يمكن أن يقال أنه لنا إرادة حرة؟
كتب بوئثيوس في شبابه كتيبات عن الموسيقى والرياضيات، مستمدة من مصادر يونانية، وقد أمل في وضع ترجمة كاملة لأفلاطون وأرسطو، أمرٌ لم يكتمل أبدًا، لكن ترجمات بوئثيوس لأعمال أرسطو المنطقية هي التي ضمنت توفرها في الغرب خلال العصور الوسطى المبكرة. كما وضع حواشي على العديد من الأطروحات الأرسطية، وربط عمله بالتطور الرواقي للمنطق الافتراضي.
كانت أعمال بوئثيوس المنطقية موضوع دراسات حديثة قام بها العلماء، وتحتوي رسائله اللاهوتية عن الثالوث الأقدس على مقاطع ذات أهمية فلسفية. ولكن على مر التاريخ اشتهر بعمل واحد: “عزاءات الفلسفة”. كتب هذا الكتاب عام 524 بعد أن حُكم عليه بالإعدام، وسجنه ثيودريك للاشتباه في مشاركته في مؤامرة معادية للـ Arian. اشتهر العمل على نطاق واسع، أولاً بسبب جماله الأدبي الخلاب. ثانيًا، لأنه كان أدق علاج، حتى وقته، لمشاكل حرية الإنسان والمعرفة الإلهية المسبقة. ليس الكتاب ما يمكن أن يتوقعه المرء من كاثوليكي متدين على الإطلاق، ففي حين أنه يدور حول الراحة التي توفرها الفلسفة، لا توجد أي إشارة إلى عزاء الدين المسيحي.
التعزية في خمس كتب، مكونة من مقاطع شعرية وجزع، ويتحدث بوئثيوس مع سيدة الفلسفة، التي تظهر له في سجنه. في الكتاب الأول يدافع عن براءته، بينما تذكره بمعاناة سقراط وتشجعه على تبني الانفصال السقراطي عن العالم. يعتمد الكتاب الثاني الموضوع الرواقي، القائل بأن الأمور في حدود الحظ غير ذي أهمية بالمقارنة مع القيم الذاتية. تلقى بوئثيوس العديد من الأشياء الحسنة من سيدة الحظ ويجب عليه، تبعًا لذلك، قبول الشر الذي تأتي به أيضًا. وتُعزز الرسالة القائلة بأن السعادة لا يمكن العثور عليها في الثروة أو القوة أو الشهرة بأفكار من أفلاطون وأرسطو: السعادة الحقيقية هي فقط في الله. في الواقع، أن تكون سعيدًا هو اكتساب الألوهية: كل إنسان سعيد هو الله، على الرغم من وجود إله واحد فقط بطبيعته. يتناول الكتاب الرابع مشكلة الشر، في شكل سؤال “لماذا يزدهر الأشرار؟”؛ يتم تقديم الحجج المألوفة من أفلاطون لإظهار أن ازدهارهم شكلي فقط.
خلال الكتب الأربعة الأولى، كان لسيدة الفلسفة الكثير لتقوله عن سيدة الحظ. لكن الكتاب الخامس، وهو الأكثر إثارة للاهتمام من الناحية الفلسفية، يعالج سؤال: في عالم تحكمه العناية الإلهية، هل يمكن أن يكون هناك شيء مثل الحظ أو الصدفة؟ يستطيع بوئثيوس التمييز بين الفرصة العشوائية والاختيار البشري، لكنه يقبل أن الاختيار البشري الحر، حتى لو لم يكن عشوائيًا، من الصعب توفيقه مع وجود إله يتنبأ بكل ما سيحدث.
مشكلة بوئثيوس ليست هي نفس مشكلة أوغسطين: إنه لا يتحدث عن الأقدار (يشاء الرب للناس أن يتصرفوا بحكمة لينجو من العقاب) ولكن ببساطة، عن المعرفة المسبقة (معرفة الله بما سيفعله البشر أو لا يفعلونه).
أفضل طريقة لفهم المعضلة هي تخيل موقف في الحياة اليومية. على سبيل المثال، بعد ظهر اليوم، قد أذهب إلى الدكان، أو قد أقضي وقتًا في القراءة. أقرر في النهاية أن أذهب للدكان. وفي هذه الحال، “أذهب إلى الدكان” صحيح الآن. ولكن إذا كان هذا صحيحًا الآن، فيبدو أنه لم يكن لدي حقًا خيار قضاء القراءة بعد الظهر. كان أرسطو أول من حدد هذه المشكلة، لكن إجابته عليها غير واضحة. يبدو أنه يعتقد أن جملة مثل “سأذهب إلى الدكان بعد ظهر اليوم” ليست صحيحة ولا خاطئة، أو على الأقل ليست بنفس طريقة “ذهبت إلى الدكان أمس”.
تعامل بوئثيوس مع نسخة أصعب من نفس المشكلة. آمن أن الله يعرف كل شيء. ليس الماضي والحاضر فحسب، بل المستقبل أيضًا. لذلك إذا كنت سأذهب إلى الدكان بعد ظهر اليوم، فإن الله يعلم ذلك الآن. لذلك، يبدو أنني لست حراً في اختيار قضاء فترة ما بعد الظهر، لأن ذلك يتعارض مع ما يعرفه الله بالفعل. يحل بوئثيوس المشكلة بالقول إن الشيء نفسه يمكن أن يُعرف بطرق مختلفة، اعتمادًا على طبيعة العالم. الحيوان، على سبيل المثال، لا يعرف الشمس إلا كشيء له صفات يمكنه الشعور بها – عن طريق الرؤية والإحساس بحرارتها. ومع ذلك، يمكن للشخص أيضًا التفكير في فئة الشيء الذي تكون عليه الشمس، وقد يعرف العناصر التي تتكون منها، ومدى بعدها عن الأرض، وما إلى ذلك. ينظر بوئثيوس للوقت بطريقة مماثلة. نظرًا لأننا نعيش في تدفق الوقت، لا يمكننا معرفة الأحداث إلا في الماضي (إذا حدثت) أو في الوقت الحاضر (إذا كانت تحدث الآن) أو في المستقبل (إذا كانت ستحدث). لا يمكننا معرفة نتائج الأحداث المستقبلية غير المؤكدة. على النقيض من ذلك، ليس الله في مجرى الزمن، بل هو أسمى منه في حاضر أبدي، ويعرف الماضي والحاضر والمستقبل بنفس الطريقة التي نعرف بها الحاضر. وكما أن معرفتي بأنك جالس الآن لا تتعارض مع حريتك في الوقوف، كذلك فإن معرفة الله لأفعالنا المستقبلية، كما لو كانت حاضرة، لا تمنعها أن تكون حرة. يقول:
“نفس الحدث المستقبلي، عندما يتعلق الأمر بالمعرفة الإلهية، ضروري، ولكن عندما يُنظر إليه بطبيعته، يبدو أنه حر ومستقل تمامًا… يرى الرب الأحداث المستقبلية، التي تحدث بسبب الإرادة الحرة، كحاضر”.
ويوضح بوئثيوس أن هناك نوعين من الضرورة. هناك ضرورة صريحة، تتضح في المثال:
- كل البشر فانون بالضرورة.
وهناك ضرورة مشروطة، تتضح في:
- إن كنت تعرف أني واقف فبالضرورة أنا واقف.
الأحداث المستقبلية التي يراها الله حاضرة ليست ضرورية صريحة، ولكن ضرورية مشروطة.
أُطلق على بوئثيوس لقب “آخر الرومان، وأول السكولاستيين”. من المؤكد أنه يربط في عمله الفلسفة الكلاسيكية بفلسفة العصور الوسطى، حتى أكثر مما فعل أوغسطين. لكنه لم يكن آخر فيلسوف مسيحي من العصور القديمة: هذا اللقب ينتمي لعالم الإمبراطورية الشرقية، جون النحوي، أو جون فيلوبونوس- Philoponus.
أزدهر فيلوبونس في عهد جستنيان، الذي أصبح إمبراطورًا في الشرق عام 527، بعد ثلاث سنوات من إعدام بوثيوس. كان جستنيان هو الإمبراطور الذي أغلق مدارس أثينا والذي اشتهر بأمره في تدوين القانون الروماني. غزا جنرالاته أيضًا، لفترة من الوقت، أجزاء كبيرة من الإمبراطورية الغربية السابقة. لم ينزعج فيلوبونس، كمسيحي مقيم في الإسكندرية، من إغلاق المدارس الوثنية في أثينا، ومن الممكن أنه نظر بارتياح لسقوط عالمهم الأول.
صنع فيلوبونوس اسمًا لنفسه كناقد شرس لأرسطو. هاجم مذهب أرسطو بأن العالم كان موجودًا دائمًا. وهذا، كما يعتقد المسيحيون، غير متوافق مع رواية سفر التكوين عن خلق السماء والأرض من لا شيء. وهاجم ديناميكيات أرسطو. حيث واجهت نظرية أرسطو عن الحركة الطبيعية صعوبة في تفسير حركة المقذوفات: إذا رميت حجرًا، ما الذي يجعله يتحرك للأعلى وللأمام عندما يترك يدي؟ حركتها الطبيعية هي للأسفل، ولم تعد يدي على اتصال مع الحجر لنقل حركته لأعلى. كانت إجابة أرسطو أن الحجر يُدفع، في أي لحظة، عن طريق الهواء خلفه مباشرة. اقترح فيلوبونوس بدلاً من ذلك أن القاذف أعطى المقذوف قوة داخلية، أو قوة دفع. وطبق فيلوبونوس نظريته الدافعة على الكون بنطاق واسع. تدور الأجسام السماوية (المقذوف)، على سبيل المثال، في مداراتها لا لأن لها أرواحًا، ولكن لأن الرب (القاذف) أعطاهم الزخم المناسب عندما خلقها. لم يتم تجاوز نظرية فيلوبونوس حتى إدخال نظرية القصور الذاتي في عصر غاليليو ونيوتن.
كان فيلوبونوس لاهوتيًا وفيلسوفًا، وكتب عددًا من الرسائل حول العقيدة المسيحية. استُدعي إلى القسطنطينية من قبل جستنيان للدفاع عن آرائه بشأن التجسد، وفشل فيلوبونونس في الحضور؛ وعندما فحصت السلطات الكنسية أفكاره على الثالوث بعد وفاته، أُدينت بأنها هرطقة، وبالتالي، كان تأثيره على التفكير المسيحي ضئيلاً. لكن تأثيره كان محسوسًا بوضوح خارج حدود الإمبراطورية الرومانية القديمة.