من الأفضل أن تكون إنسانًا غير راضٍ عن خنزير راضٍ؛ من الأفضل أن تكون سقراط غير راضٍ عن أحمق راضٍ”. هكذا كتب جون ستيوارت ميل في أطروحته “مذهب النفعية” عام 1861. ويميل معظمنا للاتفاق معه. لكن لماذا؟ ما هو الشيء العظيم الذي يملكه البشر وتفتقده الخنازير؟ مهما كان الأمر، من الأفضل أن يكون شيئًا جيدًا ليعوض عن السعادة لدى الخنازير.
الخنازير، على حد علمنا، واعية. ولديهم تجارب داخلية، مثلنا تمامًا. ولكن هل هم واعون ذاتيًا؟ هل هم واعون لوجودهم؟ هل لديهم “أنا” داخلية؟ ربما. هناك أدلة على أن بعض الحيوانات لديها مثل هذا الوعي الذاتي: الشمبانزي والدلافين والفيلة وحتى العقعق. لقد اجتازت جميع هذه الأنواع ما يعرف بـ “اختبار المرآة” للوعي الذاتي. إذا وضعتهم أمام مرآة بعد وضع بقعة حمراء على جبينهم، فسيحاولون فرك البقعة. يبدو أنهم يتعرفون على أنفسهم في انعكاس المرآة. استنتج العلماء من ذلك أن هذه الحيوانات تشترك معنا في شيء من القدرة على الوعي الذاتي.
يتمكن الأطفال البشريون من اجتياز اختبار المرآة بين عمر ثمانية عشر شهرًا وأربعة وعشرين شهرًا. لذا، مثل الشمبانزي وغيره، يبدو أن الأطفال لديهم شعور بدائي بالذات في هذا العمر. ومثل العديد من الحيوانات، يمكن للأطفال الرضع تذكر الأشياء. هناك دليل على أن الذاكرة تبدأ حتى في الرحم، لأن الأطفال حديثي الولادة يتعرفون على الأصوات التي سمعوها في الرحم، مثل صوت والدتهم.
يسمى نوع الذاكرة التي يشاركها الأطفال الصغار مع الحيوانات الذاكرة المرحلية-episodic memory: ذاكرة الخضوع للتجارب. وتمكن الأطفال (والحيوانات) من التعلم من التجربة؛ استخدام المعرفة بما حدث لهم لتوجيه سلوكهم في المستقبل.
ولكن هناك نوع آخر من الذاكرة يتطور بشكل كبير في وقت لاحق لدى أطفال البشر، ولا يحدث أبدًا (على حد علمنا) في الحيوانات غير البشرية. وهذا ما يسمى ذاكرة السيرة الذاتية-autobiographical memory. ما الفرق بين الذاكرة المرحلية والسيرة الذاتية؟ في ذاكرة السيرة الذاتية، تظهر أنت في إطار الذاكرة. لا تتذكر فقط ما شعرت به في اليوم الأول من المدرسة، بل ترى نفسك تذهب إلى المدرسة ولديك تلك المشاعر. إنها ليست مجرد مسألة ما حدث، كما هو الحال مع الذاكرة المرحلية. إنها مسألة ما حدث لي.
عندما تستدعي ذاكرة السيرة الذاتية، فإنك تنخرط في نوع من السفر العقلي عبر الزمن. تقوم بالتعرف على “ذاتك المتذكرة” الحالية عبر “ذاتك المجربة” الماضية- مثل الذات التي كانت تشعر بالقلق في اليوم الأول من المدرسة. هذان الشخصان مرتبطان، ليس فقط من خلال جسم مادي موجود باستمرار ولكن أيضًا عبر تيار متواصل إلى حد ما (لأنه ينقطع بسبب النوم الخالي من الأحلام) من الوعي. تتيح لنا ذاكرة السيرة الذاتية أن نفهم أنفسنا ككائنات يمتد وجودها عبر الزمن.
تقول الفيلسوفة جنان إسماعيل: “إن ذاكرة السيرة الذاتية هي واحدة من أكثر القدرات الإدراكية تعقيدًا، وأكثرها دراسة، وأكثرها بشرية”. تظهر هذه القدرة في كل واحد منا في وقت من حياتنا أبعد مما نتوقع. ليس قبل نهاية سنوات المدرسة التحضيرية حتى نبدأ بربط الماضي والحاضر في شيء يشبه الذات الموجودة باستمرار. وحتى في تلك المرحلة من تطورنا، لا نحصل على التسلسل الزمني الصحيح. فالأطفال الذين يبلغون من العمر ثماني سنوات، ويحاولون الحكم على الأحداث التي تعود إلى أكثر من بضعة أشهر، لا يؤدون بشكل جيد إلا صدفةً. فقط في سن المراهقة نتمكن من حبك ذكرياتنا الذاتية في قصة حياة متماسكة.
يبدو الآن أننا نصل إلى شيء ما في مسألة سقراط / الخنازير. فالخنزير- مثلنا – واعٍ. وقد يكون -مثلنا أيضًا- ذو وعي ذاتي. قد يقال أن الخنزير يمتلك نفسًا متزامنة، ذاتًا في الهُنا والآن. لكن الإنسان (في سن المراهقة) لديه القدرة على تطوير شيء أكثر: ذاتًا مركبة، ذاتًا تمتد عبر الزمن. وقدرتنا البشرية على تكوين ذاكرة السيرة الذاتية الفريدة حاسمة للوجود بهذا المعنى الأكمل، عبر الزمن.
ولذلك قد يقول البعض أنه من الأفضل أن تكون إنسانًا عوضًا عن خنزير. وهذا هو السبب أيضًا في حقيقية أن البشر يقضون معظم حياتهم غير راضين. إن تشكيل الذات المركبة هو عمل. إنها مهمة تفرضها علينا قدرتنا على تكوين ذاكرة السيرة الذاتية. يوفر هذا الشكل البشري المميز للذاكرة المواد الخام لتصميم الذات. لكن الأمر متروك لكل منا للقيام بالتشكيل والنحت. يقول روجر سكروتون: “المحصلة النهائية لكل كائن عقلاني هي بناء الذات”، وهي وظيفة يشير إليها زملاؤه المعاصرون من الفلاسفة على أنها دستور ذاتي.
لكن من يقول أنه يجب علينا القيام بهذه المهمة؟ لماذا لا يمكننا أن نتنصل منها، ونعيش بسعادة وبلا هم، مثل الخنزير، في الهُنا والآن؟
في الحقيقة، يدعي بعض الناس التنصل منها- ويشمل ذلك حتى، كما سنرى، بعض الفلاسفة. ولكن يبدو أن معظم الناس يأخذون مهمة البنية الذاتية على محمل الجد. ويربطون ذلك حتى بتكلفة كبيرة لسعادتهم. كيف لنا أن نعرف هذا؟ استمع لما يقوله الناس عندما يتحدثون عما يعنيه العيش بشكل جيد. يقول الناس أنهم يريدون أن يكونوا سعداء. يريدون تلبية احتياجاتهم. يريدون أن يتحرروا من المعاناة؛ ويريدون أن تكون حياتهم ممتعة من لحظة إلى أخرى، وأن تمتلك “حس المتعة الإيجابية”. في هذا لا يختلفون عن الخنازير.
لكن يقول الناس أيضًا أنهم يريدون أن تكون حياتهم ذات معنى. وبالحكم من الطريقة التي يتحدثون بها عن المعنى، يبدو أن هذا يختلف عن السعادة. في الواقع، يمكن أن يكون المعنى والسعادة في صراع – كما تخبرنا الأدلة النفسية. في الاستطلاعات التي أجراها عالم النفس الاجتماعي Roy F. Baumeister، يربط الناس بين الأنشطة التي تملأ حياتهم بهذين الهدفين. وتبين أن الأنشطة التي تزيد من المعنى يمكن أن تقلل من السعادة – والعكس صحيح. إن المثال الأبرز هو نشاط تربية الأطفال، والذي يقلل بشكل واضح من السعادة المقاسة من وقت لآخر وبشكل عام. فلماذا يفعل الناس ذلك؟ أطلق على ذلك “مفارقة الأبوة”. وحلها بسيط: لدى الناس أطفال لأن ذلك يعطي معنى لحياتهم.

إذًا السعادة والمعنى هما سيدانا. هما رغبتان مميزتان، لأننا نربطهما بأنشطة مختلفة. ولا يهيمن أي منهما على الآخر: أحيانًا نضحّي بالسعادة من أجل المعنى، ونضحي أحيانًا بالمعنى من أجل السعادة. قد نضع هذا الاستنتاج في معادلة:
الرفاه = السعادة + المعنى
ما الذي يفكر فيه الناس بالضبط عندما يتحدثون عن المعنى؟ الفكرة المألوفة هي أن المعنى يتعلق بالشعور في الارتباط بـ “شيء أكبر”. لكن بحث Baumeister يشير إلى أن الأمر يتعلق بنفس القدر في “التعبير عن الذات والتفكير بشكل متكامل في الماضي والمستقبل”. يؤدي مجرد التفكير في الماضي والمستقبل إلى رفع إحساس الناس بالمعنى- مع تقليل سعادتهم.
وهو ما يعيدنا إلى الذاكرة والنفس. دعنا نقول أن ذاكرة السيرة الذاتية توفر المواد الخام للتكوين الذاتي. كيف نحول تلك المواد الخام إلى نفسٍ ذاتُ معنى؟ الجواب المألوف هذه الأيام، بين علماء النفس والفلاسفة، هو عبر السرد. أن تكون ذاتًا، يقول الاعتقاد، يعني أن تعيش حياة مهيكلة مثل قصة- قصةٌ أنت مؤلفها وبطل الرواية فيها.
فكرة أن “العيش الجيد” تعني “العيش السردي” هي فكرة موجودة لدى نيتشه، الذي كتب “نريد أن نكون شعراء حياتنا”. يمكن إرجاعها إلى الأزمنة الأولى عندما بدأ البشر في القلق لا بشأن الأكل والتكاثر فقط، ولكن بشأن عيش حياة فارقة- حياة مثل حياة أخيل، التي على الرغم من أنها ربما قصيرة ومليئة بالعواطف المدمرة، كانت جديرة بالأناشيد. من بين الرواد المعاصرين لفكرة الذات السردية عالم الأعصاب أوليفر ساكس (“يشكل ويعيش كل واحد منا “حكاية””)، عالم النفس جيروم برونر (“نصير في النهاية حكايات السيرة الذاتية التي نخبر عبرها عن حياتنا”) ، والفلاسفة دانييل دينيت (التي تعتبر الذات “مركز الجاذبية السردية”) وألسدير ماكنتاير (“وحدة الحياة البشرية هي وحدة السعي السردي”).
ومتى تبدأ عملية سرد القصص هذه؟ في نفس الوقت تقريبًا مع قدرتنا على تكوين ذاكرة السيرة الذاتية، في سنوات ما قبل المدرسة. وذلك عندما يبدأ آباؤنا ومقدمو الرعاية الآخرون في تشجيعنا على سرد وتقييم الأحداث في حياتنا. درس علماء النفس التنموي كيف يؤثر نمط ذكريات الأمهات على مهارات الذاكرة الذاتية للطفل. كلما كان أسلوب الأم أكثر تفصيلاً، كلما كانت روايات طفلها الشخصية أكثر تفصيلاً وتماسكًا. وصفت كاثرين نيلسون، إحدى رواد في هذا البحث، كيف تعزز مثل هذه الروايات السيرة الذاتية المبكرة في كل واحد منا “مستوى شخصي جديد من الوعي الواعي، مع إحساس بماض معين ووعي بمستقبل محتمل، وكذلك مع نظرة جديدة على وعي الآخرين”.
يصر بعض الفلاسفة -من بينهم ماكنتاير، وبول ريكور، وتشارلز تايلور- على أنه إذا كان للسرد أن يمنح حياة الإنسان المعنى، فيجب أن يأخذ شكل البحث عن الخير. ولكن ما الذي يجعل مثل هذا السعي قصة مثيرة للاهتمام؟ من الأفضل أن توجد بعض المشاكل، لأن ذلك ما يدفع الدراما. إذا لم تظهر المحنة بشكل بارز في ذكريات سيرتك الذاتية، فستكون رواية حياتك مملة بعض الشيء، وسيضعف إحساسك بالمغزى وفقًا لذلك.
يطلق علماء النفس على الادعاء بأن المشاكل الكبيرة هي مكونات أساسية لرواية جيدة، وبالتالي حياة جيدة: “فرضية الشدائد”. إذا كانت صحيحة، فإن هذه الفرضية “لها آثار عميقة على كيفية عيش حيواتنا”، يلاحظ عالم النفس جوناثان هايدت: “هذا يعني أننا يجب أن نأخذ المزيد من الفرص ونعاني المزيد من الهزائم”. ويضيف هايدت أن ذلك يعني أيضًا أننا يجب أن نعرض أطفالنا لنفس الأمر.
لكن يمكن للشدائد أن يبالغ فيها. لا نريد أن تأخذ حياتنا شكل المأساة (من السهل نسج ذكرياتنا الذاتية في رواية مروعة، خاصة عند الاستيقاظ في الثالثة صباحًا). المعنى، في النهاية، ليس كل شيء. السعادة مهمة أيضًا.
ولعل هذا هو السبب في كتابة السعي وراء السعادة في الحمض النووي الوطني للولايات المتحدة، حيث “خلاص الذات” هو رواية شعبية. هنا، لب القصة هو التحول من الانتكاسات إلى النصر: من الفقر للثروة، من العبودية للحرية، من المرض للصحة، من الخطيئة للخلاص. “يقدر الأميركيون بعمق قصص الخلاص الشخصي”. كتب عالم النفس دان بي ماك آدمز:
في بعض الأحيان تقترح هذه القصص معانٍ دينية، لكن في كثير من الأحيان تتبنى صورًا وأفكارًا من الحياة العلمانية. في الأدب الشعبي، أفلام هوليوود، البرامج التلفزيونية من تلفزيون الواقع إلى برنامج أوبرا وينفري، وفي العديد من الأماكن الأخرى، يواصل أبطال الولايات المتحدة تمييز أنفسهم كأفراد متينين ومرنين يسعدون بعدم توافقهم ويستمرون في النمو والتطور، خاصة كرد على الفشل والانتكاسات. في الواقع، كانت هذه الأنواع من الروايات الخلاصية تتمتع دائمًا بوضع متميز في المجتمع الأمريكي، حيث تعود إلى السير الذاتية الروحية التي كتبها البوريتانيون في نيو إنجلاند في القرن السابع عشر.
يجب مقارنة هذا الموقف الأمريكي، على سبيل المثال، مع إنجلترا، حيث يحظى سرد الفشل الوجودي باحترام تام (والشاعر فيليب لاركين مثال على ذلك).

وماذا عن حالتك الذاتية؟ دعنا نقل أنك قمت بعمل السرد الشاق، عمل الدستور الذاتي. لقد بذلت “الجهد الواعي” الذي يتطلبه “استخراج مسار واضح من ماضيك”، والذي “سيجعل حياتك ككل وحدة ذات معنى” (العبارات المقتبسة لجينان إسماعيل). ربما تأخذ روايتك الشكل الأمريكي الشعبي للخلاص، حيث يتم استثمار الأخطاء والنكسات والمعاناة التي تعرضت لها في معنى إيجابي في دراما الانتصار المرن. لقد سافرت في الطريق الصعب إلى الحياة الجيدة. وبشكل عام، أنت راضي عن الهوية التي زورتها بشكل تأملي. هل أنت الآن مثل سقراط سعيد؟ أو لا أكثر من أحمقٍ راضٍ؟
سيعتمد ذلك على مدى جودة قصتك الذاتية، أو على الأقل كما يخبرنا بذلك أنصار “السردية”. يعلن ألسدير ماكنتاير أن “المعايير الوحيدة للنجاح أو الفشل في حياة الإنسان ككل هي معايير النجاح أو الفشل في السرد أو السعي إلى أن يتم سرده”. ولكن ما الذي يشكل “النجاح” السردي؟ ما الذي يميز الذات المصقولة بالمعنى عن الذات السطحية أو المبتذلة؟
أولاً، من الأفضل ألا يكون السرد الذي جُمع من ذكريات سيرتك الذاتية مجنونًا. يجب أن يلبي ما يسمى “قيد الواقع”. إذا كنت انتقائيًا جدًا في الذكريات التي تعترف بها -أو إذا كنت تخيليًا- فلن تتناسب الذات التي تشكلها مع العالم الاجتماعي للأنفس الأخرى. ولن ينعكس ذلك أيضًا في نعيك.
ولكن وراء قيد الحد الأدنى هذا، يوجد انقسام جذري في الرأي. من ناحية، هناك أولئك الذين يعتقدون أن أهم شيء عن الذات التي تشكلها أن تكون أصيلة وجديدة- وليس شيئًا تم نسخه من قالب موجود مسبقًا، ولا تقليدًا لشخص آخر. دعونا نطلق على هؤلاء الناس نيتشويين. من ناحية أخرى هنالك الذين يصرون على أن “الخير” الذي تبحث عنه في قصتك الذاتية يجب أن يكون جيدًا حقًا- وليس مجرد شيء تحبه لأسباب ذاتية. دعونا نطلق على هؤلاء الأفلاطونيين.
أقوى النيتشويين هو نيتشه نفسه- الذي تعليمه، كما عبر عنه زراداشت، هو “إعادة خلق (كل ما كان) إلى (هذا ما أردت)” ولإرادة فردانية المرء، يصر النيتشوييون، يعني أن تصير شيئًا جديدًا. وللنجاح في هذه المهمة الوجودية، لا يكفي أن ننظر إلى الوراء في الذاكرة حول الحالات الطارئة في حياتك. يجب عليك أيضًا اختراع استعارات جديدة لتوحيد هذه الحالات الطارئة في رواية كلية، واحدة تستحق التوكيد. يجب أن تكون ما أسماه الراحل هارولد بلوم “شاعرًا قويًا” في حياتك الخاصة. وبخلاف ذلك، لن تصدر مؤسستك ذاتية التصميم في شيء جديد في العالم ولكن في نسخة أو صورة مكررة- وهو احتمال قد يتركك (للاستمرار مع مصطلحات بلوم) ممسوسًا بـ “قلق الأثر”. (قد يكون نيتشه نفسه قد عانى من قلق الأثر في شكواه المتكررة من سقراط، النموذج الفلسفي لنوع جذري جديد من البشر.)
وصفة نيتشه لتشكيل الذات من الحالات الطارئة للذاكرة (قد يشكو البعض) غامضة بشكل غير مفيد. كما أنها ثمينة بعض الشيء- شاهد مثلاً ميشيل فوكو، النيتشوي المتأخر الذي أحب الحديث عن خلق الذات “كعمل فني”. أو كما قد يبدو مبتذلاً قليلاً: “كن على طبيعتك!”
وهل الأصالة كافية؟ ماذا لو كان ما هو أصلي جرائم، ووحشية؟ ربما نظر هتلر، في لحظاته الأخيرة في المخبأ، إلى الوراء بإيجابية على قراره الشاب بالتخلي عن مهنة الرسم المتواضعة لصالح الدخول في عالم الرايخ. كانت روايته الذاتية أصيلة بما يكفي- يمكن القول أنها إبداع شاعر قوي. فهل أدى ذلك إذًا إلى نفس ذات معنى؟ بعض الفلاسفة على استعداد لاستيعاب هذه المشكلة. كتب الفيلسوف هاري جي فرانكفورت: “حقيقة أن حياته كانت غير أخلاقية بشكل مخيف ربما لم يكن لها أي تأثير ضار على الإطلاق على القيمة بالنسبة له في عيش تلك الحياة. ومن الممكن، آسف عن كشف ذلك، أن تكون الحياة اللاأخلاقية جيدة للعيش”. بالطبع، يمكن للمرء أن يجادل بأن القسوة تجعل السرد الذاتي مبتذلاً ومزدرًا، و”كفاحي” هو الدليل الأول على ذلك (على الرغم من أن Humbert Humbert سيكون مسألة أكثر صعوبة). أو قد يبحث المرء عن معيار أكثر صرامة لسرد يوحد الحياة من المعيار النيتشوي للأصالة المطلقة.
لذا خذ في الاعتبار البديل الأفلاطوني. هنا لا ينصب التركيز على الحداثة بل على الخير. لخلق الذات ذات المعنى، يجب أن تكون القصة التي ترويها عن حياتك منظمة حول قيمة موضوعية. بالنسبة لأفلاطون، يجب أن تكون بروزًا لرغبة في شكل أبدي من الخير، شكل نتذكره بضبابية من فترة ما قبل وجودنا. (هذه هي القصة، على سبيل المثال، التي يرويها وردزورث عن نفسه في Ode: Intimations of Immortality وفي The Prelude). بالنسبة لفيلسوف معاصر مثل سوزان وولف، يجب أن تكون قصة حياة ذات معنى قصة مشاركة عاطفية في مشاريع ذات قيمة موضوعية. تكتب وولف: “لا يكفي … أن ينشغل المرء بفعل الأشياء التي يحبها. يجب أن تكون الأشياء التي يحب المرء أن يفعلها جيدة بطريقة مستقلة”. إذا خدعت بشأن قيمة ما تهتم به- إذا كنت مخلصًا لإله زائف، أو مثالًا فنيًا رخيصًا، أو أيديولوجية شريرة، أو مخدوعًا بشريك عاطفي- عندها قد تبدو حياتك ذات معنى، لكنها لن تكون كذلك.
يريد الأفلاطونيون إجراء فحص خارجي للسرد الذي تُشكل حياتك من خلاله إلى ذات. لا يكفي تكون قصتك متماسكة داخليًا فقط؛ بل يجب أن ترتبط بحقيقة ذات قيمة تتجاوزك. ولكن تتجاوزك إلى أي مدى؟ هل يجب أن تضع إطارًا جيدًا لتحديد الذات وفقًا لقيم قبيلتك؟ قيم العقيدة التي ولدت فيها؟ القيم التي يبدو أن النخبة الأكثر استنارة من الإنسانية تتلاقى حوله؟ أو هل يمكن أن تكون كل هذه القيم وهمية واهية؟ لم يكن لدى أفلاطون أدنى شك في وجود خير متسامٍ وأبدي، يرسخ بشكل موضوعي معنى سردنا الشخصي. ولكن حتى الفلاسفة المعاصرين الذين يتبنون الخير الموضوعي يعترفون بأنهم لا يستطيعون إعطاء أي بيان مرضٍ لما هو أو كيف يمكننا التعرف عليه. وكما تعترف وولف، فإن ذلك يظل “مشكلة لم تحل في الفلسفة”.
لذلك عندما يتعلق الأمر بالإنشاء-الذاتي، يتركنا كل من الأفلاطونيين والنيتشويين مع مفاهيم مترنحة. لا يقدمان أي معيار عملي للنجاح في هذه المهمة- على الرغم من أن كليهما يؤكدان لنا أنها مهمة حاسمة للعيش بشكل جيد وكامل.

ولكن ماذا لو كانوا مخطئين في هذا الافتراض المشترك؟ في البداية، افترضنا أن ما يجعل سقراط مختلفًا عن الخنزير هو أن سقراط لديه ذكريات سيرة ذاتية، وأن هذه الذكريات توفر مواد أولية لبناء الذات التي تستمر مع الوقت، من الولادة إلى الموت. قيل لنا إن هذا البناء عمل شاق، والقلق بشأنه قد يُنقص من سعادة الفرد الحيوانية في الوقت الراهن. ولكنه ضروري.
ومع ذلك، هناك أصوات معارضة تصر على أنه يمكننا أن نعيش حياة جيدة وذات مغزى بدونها. يستمدون إلهامهم من شخصيات مثل بترارك ومونتين وبروست، وجميعهم يصورون بشكل واضح نوعًا أكثر تشظيًا من الوجود عبر الوقت، حيث تتكون الحياة إنسانية الواحدة من شيء من تعاقب الذوات. أكثر هذه الأصوات لفتًا اليوم هو الفيلسوف الإنجليزي جالين ستراوسون، الذي يعلن بفخر أنه “مرحلي-episodic”.
ما الذي يجعل “المرحليين” مختلفين؟ ليس أنهم يعانون نقصًا في الذاكرة، بل، أنهم لا يستخدمون ذاكرة السيرة الذاتية في “السفر عبر الزمن”. يتذكرون تجارب الماضي، ولكن ليس كتجاربهم. قد أتمكن من استدعاء ذكرى أول يوم لي في المدرسة والمشاعر التي سببها. ولكن إذا كنت مرحليًا، فأنا لا أحدد “ذاتي المتذكرة” الحاضرة عبر “ذاتي المجرِبة” الماضية؛ لا أرى هذا الصبي الصغير في الإطار أنا (على الرغم من أنني أعترف بأنه نفس الحيوان البشري). لا أشعر أنني بحاجة لـ “توحيد” الذاتين عبر الوقت من خلال بناء سرد.
ليس للمرحليين اهتمام خاص بالماضي، باستثناء أنه شكل شخصياتهم الحالية. وبناءً على ذلك، فإنهم لا يخشون فقدان الذاكرة طالما بقيت شخصيتهم الأخلاقية على حالها. وكما كتب إيرل شافتسبري المرحلي: “ما المهم في الذاكرة؟ ماذا أفعل بذاك الجزء؟ إذا كنت، كما أنا، كما يجب أن أكون، فم همي أكثر؟ … الآن؛ الآن. تذكر هذا: في هذا كل شيء”.
هل تستحق الحياة المرحلية العيش؟ يؤكد لنا ستراوسون، من منظور وجوده كسلسلة من الذوات المفككة، أنه: “ربما لا يزال البعض يعتقد أن الحياة المرحلية يجب أن تُحرم بطريقة ما. لكن العيش يومًا بيوم هو من بين أفضل الأمور، مشرق ومبارك وعميق”. وقد يكون السيد المرحلي أكثر انسجامًا مع ربة الذاكرة من صديقه السيد التركيبي. فالأول ليس لديه سبب لتمسيد، ومراجعة، وتكبير، وبث، وتشويه ذكرياته الذاتية من أجل دفعها لتشكيل قصة مثيرة للاهتمام، كما يفعل السيد التركيبي. قد يكون لديه ذات سريعة الزوال، لكن لديه فهم ذاتي متفوق.
هناك العديد من هذه المفارقات، والعديد من الخيارات مفتوحة أمامنا لاختيار نمط حياة بين سقراط والخنزير. وبغض النظر عما تختاره، ستدين لربة الذاكرة. لذلك دعوا السارد والمرحلي، النيتشوي والأفلاطوني، الفيلسوف والشاعر، يضعوا خلافاتهم جانباً ويرفعوا أصواتهم في انسجام ليقولوا: تحدثي أيتها الذاكرة.

كتبها: Jim Holt
صاحب كتاب “لماذا يوجد العالم؟: قصة تحقيق وجودية”
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في Lapham’s Quarterly وقد ترجمت هنا بترخيص منهم ومن الكاتب.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.