ولد أفلاطون لعائلة ثرية في الأيام الأخيرة من الإمبراطورية الأثينية. عندما انتهت الحرب البيلوبونيسية عام 405، كان في أوائل العشرينيات من عمره. وكان عماه، Critias و Charmides، اثنين من “الثلاثين طاغية”. نتج عن إعدام سقراط عام 399 في ظل الديمقراطية المستعادة عدم ثقة أفلاطون مدى الحياة بالديماغوجيين، وكرهًا لمهنة السياسية.
في الأربعين من عمره، ذهب أفلاطون إلى صقلية وشكل علاقة وثيقة مع ديون، صهر الملك الحاكم ديونيسيوس الأول. عند عودته إلى أثينا أسس مدرسة “الأكاديمية” في بستان خاص بجانب منزله، وصممت على مثال مُجمع فيثاغورث في إيطاليا. في الستين من عمره دعي أفلاطون للعودة إلى صقلية كمستشار لابن أخ ديون، الذي حكم العرش باسم ديونيسيوس الثاني. لم تكن مسيرته المهنية كمستشار ملكي ناجحة، سواء سياسيًا أو فلسفيًا، وعاد إلى منزله عام 360. توفي بسلام عام 347 قبل الميلاد وعمره ثمان وثمانون في حفل زفاف في أثينا، وهو نفسه غير متزوج.
عدا عن هذه الحقائق القليلة، فإننا لا نعرف الكثير عن حياة أفلاطون. ومع ذلك، على عكس سقراط، ترك أفلاطون وراءه العديد من الكتابات حول الفلسفة، وكلها باقية اليوم. تأتينا هذه الأعمال في شكل حوارات، ولا يظهر أفلاطون نفسه فيها كمتحدث. وبالتالي، فإنه من الصعب معرفة فيما إذا كانت المواقف الفلسفية المتنوعة، والمتقاربة غالبًا، التي تطرحها الشخصيات في الحوارات هي تلك التي آمن بها أفلاطون بنفسه. عندما نسعى لاكتشاف موقفه الفلسفي الخاص، يمكننا تحقيق القليل من اليقين. لكن المعلقين توصلوا إلى إجماع مبدئي حول الخطوط العامة لتطور فكره.
تنقسم حوارات أفلاطون إلى ثلاثة فصول. يُطلق على المجموعة الأولى، التي يُعتقد عادةً أنها كُتبت في وقت مبكر، حوارات “سقراط”، لظهور سقراط في كل منها في دوره التاريخي باعتباره السائل ومكتشف الحدود الزائفة للمعرفة. يوضح Euthyphro النمط المشترك لمعظم هذه الحوارات: شخص ما، عادة ما يكون المذكور في العنوان، يصرح بأن يكون على دراية بفن معين أو فضيلة، ثم يُظهر استجواب سقراط المعرفة المزعومة على أنها مجرد كبرياء خادع. بهذه الطريقة يتم التعامل مع موضوع الشجاعة في لاخيس، والاعتدال في كارامايدس، والصداقة في ليسيس، والجمال في هيبياس الكبرى، والقصائد الملحمية في إيون، والتقوى في يوثيفرو، ويعالج حوار هيبياس الصغرى الموضوع السقراطي عن الذنب المتعمد والغير متعمد.
في المجموعة المركزية من الحوارات، التي يعود تاريخها إلى نضوج أفلاطون، فإن سقراط هو الشخصية الرئيسية أيضًا؛ لكنه لم يعد مجرد محام يستجوب الأحكام المسبقة التي تشوه المعرفة. يظهر الآن كمدرس ومعلم يشرح الأفكار الفلسفية المتقنة. الحوارات أطول، ومحتواها أكثر صعوبة في إتقانها. وهي ، Phaedo. Gorgias ، و بروتاجوراس، و مينون، والمائدة (سيمبوزيوم)، و فيدون، والأكثر شهرة ، الجمهورية. وتنشغل معظم هذه الحوارات بنظرية الأفكار.
في المجموعة الحوارية الأخيرة، يتضاءل دور سقراط. في بعض الأحيان يكون ظهوره قصيرًا، وأحيانًا لا يظهر على الإطلاق. الجسر بين الوسط والحوارات اللاحقة يقدمه ثياتيتوس، الذي يسعى إلى تحديد المعرفة: لا يزال سقراط ينظر إليه في دوره المألوف كقابلة للفكر. في حوار باراميندس، ظهر سقراط كشاب في حالة رعب من باراميندس المسن بينما يُقدم الحجج الصعبة والمعقدة ضد نظرية الأفكار. في حوار فيليبوس، الذي يدور عن المتعة، لسقراط مرة أخرى الدور الرئيسي. في السفسطائي، عن الوجود والتكوين، وفي كريشياس حول أفضل أشكال الحكم، يحضر سقراط لكنه لا يشارك بشكل فعال في المناقشة. وفي آخر وأطول حوار من هذه المجموعة: النواميس (أو القوانين)، الذي يحدد دستورًا مفصلاً لدولة خيالية، لا يظهر سقراط على الإطلاق.
لا يتفق العلماء على كيفية تفسير النظرة النقدية التي تأخذها هذه الحوارات المتأخرة لنظرية الأفكار. هل كانت الحجج ضدها مقنعة، وهل تخلى أفلاطون عن النظرية في منتصف العمر؟ أو هل اعتقد أن الحجج كانت مجرد مغالطات، وتركها ببساطة كتمرين للقارئ ليكتشف كيف يمكن دحضها؟ يتفاقم عدم اليقين هنا من خلال وجود حوار طيماوس، الذي يوضح علم الكونيات عند أفلاطون، والذي كان حتى عصر النهضة، الأكثر شهرة من جميع حواراته. في طيماوس، تبدو نظرية الأفكار بلا منازع في كل مجدها الأصلي. والسؤال هو ما إذا كان الحوار ينتمي إلى منتصف حياة أفلاطون أو آخرها. من السهل فهم التطور الفلسفي لأفلاطون إذا وضعنا طيماوس مع حوارات مثل الجمهورية؛ ولكن إذا قارنا الحوار على أساس الأسلوب، يبدو أنه يشبه أكثر المجموعة التي تحتوي على السفسطائي. مسألة تاريخه لم تحل، وستستمر بلا شك في النقاش بين العلماء.
البحث عن المثالية
في الجمهورية، يصف أفلاطون سقراط وهو يطرح الأسئلة حول الفضائل، أو المفاهيم الأخلاقية، من أجل وضع تعريفات واضحة ودقيقة لها. قال سقراط القول المشهور “الفضيلة هي المعرفة”، ولكي تتصرف بشكل عادل، على سبيل المثال، يجب عليك أولاً أن تعرف ما هي العدالة. يقرر أفلاطون أنه قبل الإشارة إلى أي مفهوم أخلاقي في تفكيرنا أو منطقنا، يجب علينا أولاً استكشاف كل مما نعنيه بهذا المفهوم وما يجعله بالضبط نوع الشيء الذي هو عليه. ويطرح سؤالاً حول الكيفية التي سنتعرف بها على الشكل الصحيح، أو المثالي، لأي شيء – شكل صحيح لجميع المجتمعات وفي كل الأزمنة. من خلال القيام بذلك، يشير أفلاطون إلى أنه يعتقد أن هناك نوعًا من الشكل المثالي للأشياء في العالم الذي نعيش فيه – سواء كانت تلك الأشياء مفاهيم أخلاقية أو أشياء مادية – يجب أن توجد بالفعل، والتي ندركها بطريقة أو بأخرى.
يتحدث أفلاطون عن أشياء في العالم من حولنا، مثل الكراسي. عندما نرى كرسيًا، يقول، نعلم أنه كرسي ويمكننا التعرف على جميع الكراسي، على الرغم من أنها قد تختلف بطرق عدة. أما الكلاب فهي أكثر تنوعًا في أنواعها، ولكن جميع الكلاب تشترك في خاصية “الكلبية”، وهو أمر يمكننا التعرف عليه، ويسمح لنا بالقول أننا نعرف ما هو الكلب. يجادل أفلاطون بأن الأمر لا يقتصر فقط على وجود “الكلب” أو “الكرسي” المشترك، ولكن لدينا جميعًا في أذهاننا فكرة عن كرسي مثالي أو كلب، والذي نستخدمه للتعرف على حالات معينة.
بأخذ مثال رياضي لتعزيز حجته، يوضح أفلاطون أن المعرفة الحقيقية يتم الوصول إليها من خلال التفكير، وليس من خلال حواسنا. ويذكر أنه يمكننا التوصل عبر خطوات منطقية أن مربع الوتر لمثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الجانبين الآخرين، أو أن زوايا أي مثلث هي 180 درجة دائمًا. نحن نعرف حقيقة هذه التصريحات، على الرغم من عدم وجود المثلث المثالي في أي مكان في العالم الطبيعي. لكننا قادرون على إدراك المثلث المثالي -أو الخط المستقيم أو الدائرة المثالية- في أذهاننا، باستخدام عقلنا. لذلك، يسأل أفلاطون أين يمكن أن نجد هذه الأشكال المثالية حقًا.
عالم الأفكار
يوصل المنطق أفلاطون إلى استنتاج وحيد- وهو أنه يجب أن يكون هناك عالم من الأفكار أو الأشكال، المنفصلة تمامًا عن العالم المادي. هناك توجد فكرة “المثلث” المثالي، إلى جانب فكرة “الكرسي” المثالي و “الكلب”. ويخلص إلى أن الحواس البشرية لا يمكنها إدراك هذا المكان بشكل مباشر – ولكن فقط عبر العقل. ويواصل أفلاطون القول أن عالم الأفكار هذا هو “حقيقة”، وأن العالم من حولنا مصمم على غرار ذلك المثال الأعلى. ولتوضيح نظريته، يقدم أفلاطون ما أصبح يعرف باسم “كهف أفلاطون“.
يطلب منا أن نتخيل كهفًا يسجن فيه الناس منذ ولادتهم، مقيدين بمواجهة جدار خلفي في الظلام، ويمكنهم النظر أمامهم مباشرة فقط. خلف السجناء نار مشتعلة تلقي بظلالها على الجدار الذي يواجهون. هناك أيضًا حاجز بين النار والسجناء يمشي الناس على طوله ويحملون أشياء مختلفة من وقت لآخر، بحيث تُلقى ظلال هذه الأشياء على الحائط. هذه الظلال هي كل ما يعرفه السجناء عن العالم. ليس لديهم مفهوم الأشياء الفعلية نفسها. إذا تمكن أحد السجناء من فك نفسه واستدار، سيرى الأشياء ذاتها. ولكن بعد عمر من الحجر، من المحتمل أن يرتبك، وكذلك ينبهر بالنار، ومن المرجح أن يعود للجدار والواقع الوحيد الذي يعرفه.

يعتقد أفلاطون أن كل ما تدركه حواسنا في العالم المادي هو مثل الصور الموجودة على جدار الكهف، مجرد ظلال للواقع. هذا الاعتقاد هو أساس نظرية المُثل، وهو أنه لكل شيء أرضي ندركه بحواسنا، هناك “مثال” مقابل (أو “فكرة”) -حقيقة أبدية ومثالية لذلك الشيء- في عالم الأفكار. لأن ما نراه عبر حواسنا مبني على تجربة “ظلال” ناقصة أو غير مكتملة للواقع، لا يمكننا أن نمتلك معرفة حقيقية بهذه الأشياء. في أفضل الأحوال، قد تكون لدينا آراء، لكن المعرفة الحقيقية لا يمكن أن تأتي إلا من دراسة الأفكار، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال العقل، وليس من خلال حواسنا الخادعة.
هذا الفصل بين عالمين متميزين، أحدهما المظهر، والآخر لما يعتبره أفلاطون الحقيقة، يحل أيضًا مشكلة العثور على ثوابت في عالم متغير على ما يبدو. قد يكون العالم المادي عرضة للتغيير، لكن عالم أفكار أفلاطون أبدي وثابت. يطبق أفلاطون نظريته ليس فقط على الأشياء الملموسة، مثل الكراسي والكلاب، ولكن أيضًا على المفاهيم المجردة. في عالم الأفكار لدى أفلاطون، هناك فكرة العدالة، والتي هي العدالة الحقيقية، وجميع حالات العدالة في العالم المادي من حولنا هي نماذج، أو متغيرات أقل كمالاً منها. وينطبق الشيء نفسه على مفهوم الخير، الذي يعتبره أفلاطون هو الفكرة النهائية – وهدف كل تحقيق فلسفي.
المعرفة الفطرية
تبقى المشكلة في كيفية معرفة هذه الأفكار، حتى نتمكن من التعرف على الحالات غير الكاملة منها في العالم الذي نعيش فيه. يجادل أفلاطون بأن مفهومنا للأشكال المثالية يجب أن يكون فطريًا، حتى لو لم نكن على علم بذلك. يعتقد أن البشر ينقسمون إلى قسمين: الجسد والروح. تمتلك أجسادنا الحواس، التي من خلالها نستطيع إدراك العالم المادي، بينما تمتلك الروح السبب الذي يمكننا من خلاله إدراك عالم الأفكار. يستنتج أفلاطون أن أرواحنا، الخالدة والأبدية، يجب أن تكون قد سكنت عالم الأفكار قبل ولادتنا، ولا تزال تتوق إلى العودة إلى هذا العالم بعد موتنا. لذلك عندما نرى اختلافات في الأفكار في العالم مع حواسنا، فإننا ندركها كنوع من التذكر. إن تذكر الذكريات الفطرية لهذه الأفكار يتطلب العقل- صفة الروح. بالنسبة لأفلاطون، تتمثل مهمة الفيلسوف في استخدام العقل لاكتشاف النماذج أو الأفكار المثالية. في الجمهورية، يجادل أيضًا بأن الفلاسفة، أو بالأحرى أولئك الأمناء لهدف الفلسفة، يجب أن يكونوا الطبقة الحاكمة. وذلك لأن الفيلسوف الحقيقي هو الوحيد القادر على فهم الطبيعة الدقيقة للعالم وحقيقة القيم الأخلاقية. ومع ذلك، تمامًا مثل السجين المُحرر من الكهف ليرى الأشياء الحقيقية بدلاً من ظلها، سيعود الكثير منهم إلى العالم الوحيد الذي يشعرون فيه بالراحة.
***
كان أفلاطون نفسه تجسيدًا لفكرته عن الفيلسوف المثالي أو الحقيقي. جادل في مسائل الأخلاق التي أثارها سابقًا أتباع بروتاجوراس وسقراط، ولكن في هذه العملية، استكشف لأول مرة سبيل المعرفة نفسه.
كان له تأثير عميق على تلميذه أرسطو – حتى لو اختلفا بشكل جوهري حول نظرية المُثل. وجدت أفكار أفلاطون لاحقًا طريقها إلى فلسفة المفكرين الإسلاميين والمسيحيين في العصور الوسطى، بما في ذلك القديس أوغسطين، الذي جمع بين أفكار أفلاطون وأفكار الكنيسة. من خلال اقتراح أن استخدام العقل، بدلاً من الملاحظة، هو الطريقة الوحيدة لاكتساب المعرفة، وضع أفلاطون أيضًا أسس عقلانية القرن السابع عشر. ولا يزال من الممكن ملاحظة تأثير أفلاطون اليوم، حيث أدت المجموعة الواسعة من الموضوعات التي كتب عنها بعالم المنطق البريطاني في القرن العشرين ألفريد نورث وايتهيد إلى القول بأن الفلسفة الغربية هي “هوامش لأفلاطون”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.