ينتقد كثيرون الاقتباسات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هذا المبدأ يبدو خيارنا في نشر سلسلة من الاقتباسات على مواقع التواصل الاجتماعي أمرًا سيئًا أو غير مدروس. لهذا وجب توضيح بعض الأمور.
غالباً ما تكون الاقتباسات المنتقدة نصوصًا مجتزأة من كلامٍ أطول لأصحابها. هذا الأمر سيء في حد ذاته، لكن الأمر الأخطر المرتبط به أن النصوص تجتزأ لدعم توجهات وأيدولوجيات المُقتبسين دون اكتراث بالفكرة الأساسية التي يريد صاحب الكلام إيصالها. وهكذا تستخدم الاقتباسات لإثبات أن العالم الفلاني كان ملحد، والمفكر الآخر مؤمن ورع، وغيره من الاستقطاب الأيدلوجي؛ أي تصبح الاقتباسات في خدمة توجهات المُقتَبسين، لا نقل فكر وحكمة قائليها. أشهر مثال على ذلك اقتباس أينشتاين حول أن الرب لا يلعب النرد، حيث يُستشهد بالاقتباس لدى اللادينين، والدينين على اختلاف شرائعهم، على حد سواء. ثم يضيف كل طرف آراءه بناء على الاستشهاد كما يريد، لا كما أراد أينشتاين.
الانتقاد الثالث المرتبط بالمسألة الأخيرة هو كثر تكرار الاقتباسات نفسها، وذات الصور، حتى تحولت المسألة برمتها لكلشيه عظيمة مملة. عندما تضع هذه الاقتباسات بجانب بعضها، تجد أنها نفسها لنفس الأشخاص تقريبًا، درويش والحلاج في الشعر العربي، نيتشه وشوبنهاور في الفلسفة، دوستويفسكي في الأدب، أينشتاين وفريمان في العلوم، وهكذا تقريباً… اقتباسات منقولة عن اقتباسات، كأن الجميع يعتمدون على موقع موضوع في الاختيار من قائمة الاقتباسات المحدودة التي يوفرها على موقعه. وبطبيعة الحال، بما أن النقل عن ناقل فلم يعد بالإمكان الوثوق بكلام أحد أو مصدره.
النقطة الأخيرة هي النقد الأضعف، فطالما أن الكلام منطقي ومفيد فهذا هو المهم، لكن الأمر الخطير الذي يحدث هو الترويج لحكم ونصائح مضللة تحت هالة أسماء الحكماء المقتبس عنهم. وعندما تتعلق هذه النصائح بأمور معيشية مثل نصائح المخاطرة لتسلق قمة العظمة، أو عندما تتعلق بنصائح نفسية مثل الحاجة للتنفيس عن الغضب، تصبح النتائج كارثية.
الشذرات في الحقيقة مفيدًا جدًا
على الجانب الآخر، وعلى عكس ما يروج له المثقفون النخبويون، يمكن للشذرات الفلسفية أن تكون مفيدة جدًا إذا أخذنا عدة أمور في الاعتبار:
1.
الشذرات وسيلة سريعة ملائمة لنقل الحكمة، كانت خيارًا مفضلاً من ماركوس أوريليوس إلى نيتشه الذي كانت الشذرات الفلسفية بالنسبة له تحديًا للفلسفة الأكاديمية في نصوصها المقولبة والجامدة، وكتب عن ذلك قائلاً:
“أقصر طريق في الجبال هي من قمة لقمة، ولكن على المرء أن يكون طويل الساقين. يجب أن تكون الشذرات هي القمم- والمخاطبون طوالاً وعظام”.
وبأخذ الحياة المعاصرة في الاعتبار نجد أن الشذرات هي الخيار المفضل للفيلسوف الذي يود إيصال أفكاره للمواطن المنهمك في مواكبة سرعة الحياة. الجدالات الفلسفية المطولة لا غنى عنها ولا شك، والكثير من الأمور لا يمكن إيضاحها إلا بالشرح المنهجي المسهب، لكن في مواقف أخرى تكون جملة واحدة كافية لإيضاح الأفكار الجليلة؛ الصنفان يكملان بعضهما.
هنالك شذرة لصامويل بتلر لا تذهب عن ذهني. يقول: “سبب ازدهار الحمقى والمحتالين، بشكل أفضل من الحكماء والصادقين، أنهم أقرب إلى المزاج العام للبشرية، والذي ليس سوى مزيج من الغش والحماقة. من يفهمه لا يستطيع الرضوخ له وينشغل في نوع آخر من الحماقة متمثلًا في التفكير بما يجب أن يكون؛ أما من لا يفهمه فيتعامل معه بطبيعية ويتحصل على الأفضلية فيه”. لا أعتقد أني يومًا مشيت في السوق ورأيت التجار الناجحين، أو شاهد مقطع فديو على الانترنت يتحدث عن كيف كون زيد من الناس ثروته، دون أن أتذكر هذا الاقتباس. قدم لي، على قصره، تفسيرًا عن أحد جوانب الحياة من دونه لمى بقيت نطرتي للحياة على حالها، مهما قرأت من كتب ومهما شاهدت من برامج تحلل نفس النقطة.
أحد أجمل أنواع الشذرات هي تلك التي تلفت انتباهنا لشيء لطالما كان أمامنا، ولكن كنا بحافز لرؤيته، مثل تفاحة نيوتن (على الأقل حسب القصة). الجاذبية موجدة قبل نيوتن وقبل كل البشر، لكن بحاجة لدفعة لندركها. وهكذا مثلاً قول دكتور جونسون: “من يفكر في مدى قلة اهتمامه بحال الآخرين سوف يتعلم مدى ضآلة اهتمام الآخرين به”. قد تحضر دعمًا نفسيًا أو تدريبًا حياتيًا على مدى عدة أشهر للتخلص من الخجل أو رهبة الآخرين، لكنها قد لا تكون مفيدة بقدرة فائدة العبارة السابقة- أعلم أنها كانت ناجحة جدًا بالنسبة لي.
2.
الأمر الآخر المثير بخصوص الشذرات الفلسفية، أننا نقف اليوم أمام كم هائل من المعرفة، هنالك ملايين الكتب والمقالات، هل ستقرأها كلها، أو حتى عشره؟ غالبًا لن يتسنى لك الوقت. أنا من محبي صامويل بتلر، لكن لا أعتقد أنه حتى في مئة حياة كنت سأقرأ كتابه الذي ورد فيه الاقتباس السابق (Observations)، ولا أعتقد أني سأضع دكتور جونسون على قائمتي للقراءة، وقائمتي أساسًا تشعرني بتأنيب الضمر لأني لا أستطيع مواكبة طولها. من هنا، لولا أن أحدهم قرأ هذه الأعمال ونقل حكمهم لفاتني خيرٌ كثير.
وعدنا
بأخذ ما سبق في الاعتبار، فإن الشذرات التي نقدمها في ميتامورفوسيس هي مشروع ممنهج، وليس لملأ وسائل التواصل الاجتماعي، وما نحاول فعله عبرها هو:
- في حين نركز على المقالات الطويلة المدروسة، ندرك أنها قد لا تكون ملائمة للجميع في ظل سرعة الحياة العصرية وكثرة متطلباتها، لذلك أتت فكرة تقديم مشروع موازي للشذرات الفلسفية.
- الشذرات التي نقتبسها هي حكم كاملة قالها أصحابها، وعندما نُقلت، سواء من نص أشمل أو على حالها، فلم تُجتزأ من سياقها، بل كانت جملة أو جملاً وافية كما وردت عن المنقول عنهم.
- نختار الشذرات التي من الممكن أن تفيد القارئ، او تلفت انتباهه لقضية ما، لا الشذرات التي تدعم توجهاتنا المسبقة، ولا نعلق عليها كذلك حتى لا نوجهها لفائدتنا، بل نتركها ليتفاعل معها القارئ ويتأملها كما يريد- وهذا في حد ذاته فلسفة.
- عندما بدأنا هذا المشروع أردنا أن تكون الخيارات من شخص حكيم، فترجمنا الاقتباسات الواردة في كتاب ليو تولستوي: “تقويم الحكمة“، أنهينا جميع أيام الكتاب تقريبًا مع اقتباس واحد كل يوم، ثم توقفنا لأن الكثير من الاقتباسات المتبقية نقلها تولستوي حسبما تذكر، لا حرفيًا.
- الاقتباسات التي تلت ذلك هي من اختياراتنا وقراءتنا، لذلك صرنا في هذه المرحلة نذكر اسم الكتاب حيث ورد الاقتباس، وتاريخ نشره.
- بخصوص التصميم الذي نُسأل عنه كثيرًا؛ لم نرد أن نستخدم الكلاشيه المعتادة لصورة المؤلف مع الاقتباس. وإن كنت تقرأ شيئًا مفيدًا فلمى لا يكون من الجميل النظر إليه. أوكلنا هذه المهمة لرفاييل لايساندر الذي اختار استخدام رسومات الطيور، حيث تمتلك جمالياتها الخاصة وتنوعها الفريد دون تدخل البشر. يصعب تخيل هذا التنوع بدقة، ولكن يكفي أن نلفت انتباهكم إلى أننا نشرنا إلى اليوم 426 شذرة، ولم نستخدم صورة طير واحد مرتين. مع الوقت تحول هذا الخيار لعلامة مميزة لمجلتنا (لكن ذلك لم يمنع الكثيرين من سرقة أعمالنا).
هكذا، وبعيدًا عن تأنيب الضمير الذي يعززه الأكاديميون والمفكرون الجالسون على برج عاجي، إذا جعلتك شذرة واحدة تفكير مليًا أو أعطتك فائدة حياتية، أو أضافت شيئًا من الجمال على يومك، فقد نجحنا في تأدية مهمتنا.
تجدون تاليًا بعضًا من شذراتنا المفضلة عبر السنين: