أبو الوليد محمد بن رشد القرطبي، ويعرف بابن رشد الحفيد، تمييزًا له من جده الفقيه. ولد في قطربة لأسرة جليلة نشأ فيها يدرس الفقه والأصول وعلم الكلام والطب، ثم توجه إلى الفلسفة وعُني خصيصًا بكلام أرسطو وعربه، وشرحه، وزاد عليه، واختصر منه. وعلق ابن رشد أيضًا على جمهورية أفلاطون، لكن إعجابه الهائل بأرسطو (“عقله هو التعبير الأسمى للعقل البشري”) لم يمتد بنفس الدرجة إلى أفلاطون. في الواقع، اعتبرها واحدة من مهامه كمعلق لتحرير أرسطو من التأثير الأفلاطوني الجديد، على الرغم من أنه في الواقع احتفظ بالعناصر الأفلاطونية أكثر مما أدرك.
والذي حبب إليه العناية بكتب أرسطو أن أبا يعقوب يوسف الموحدي كان محبًا للعلم والعلماء، وكان أبو بكر بن طفيل صاحب حظوة عظيمة عند، فقدم ابن رشد إليه ويروي: “لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني عليّ، وذكر بتي وسلفي، وضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء -يعني الفلاسفة- أقديم هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل؛ ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل، وجعل يتكلم عن المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب”.
لم يكن ابن رشد مفكرًا مجددًا مثل ابن سينا، وكان عمله الموسوعي يتمحور حول إثبات الوسائل التي تم من خلالها تفسير أرسطو للعصور الوسطى اللاتينية. رغبته في تحرير أرسطو من التراكمات اللاحقة جعلته يبتعد عن ابن سينا بعدة طرق. وهكذا، تخلى عن سلسلة المنطقيات التي أدت بابن سينا من العلة الأول إلى العقل الفاعل، ونفى أن العقل الفاعل أنتج الأشكال الطبيعية للعالم المرئي. ولكن بطريقة ما، ابتعد أكثر من ابن سينا في التفسير الأكثر معقولية لأرسطو. بعد بعض التردد، توصل إلى استنتاج مفاده أنه لا العقل الفاعل ولا العقل السلبي هما قدرة بشرية فردية؛ العقل السلبي، ما لا يقل عن الفاعل، هو مادة أبدية، غير مادية. تتدخل هذه المادة، بطريقة غامضة، في الحياة العقلية للأفراد. وفقط عبر الدور الذي تلعبه في تفكيرنا بواسطة الخيال الجسدي الفردي، يمكننا أن ندعي أن أي أفكار تخصنا.
لأن العنصر الفكري الحقيقي في الفكر هو غير شخصي، فلا يوجد خلود شخصي للإنسان الفرد. بعد الموت، تندمج النفوس مع بعضها البعض. يجادل ابن رشد في ذلك بطريقة تشبه حجة الرجل الثالث في بارمنديس لأفلاطون.
يوفق ابن رشد بين الدين والفلسفة من خلال نظرية هرمية للمجتمع. يعتقد أن النخبة المتعلمة هي فقط القادرة على التفكير فلسفيًا، ويجب على الجميع فيما عدا ذلك تقبل تعاليم القرآن حرفيًا. لا يعتقد ابن رشد أن القرآن يقدم وصفًا دقيقًا تمامًا للكون إذا تم قراءته بهذه الطريقة الحرفية، لكنه يقول إنه تقريب للحقيقة، وهذا هو أقصى ما يمكن لغير المتعلم فهمه. ومع ذلك، يعتقد ابن رشد أنه لدى المتعلمين واجب ديني لاستخدام التفكير الفلسفي؛ فكلما أظهر المنطق أن المعنى الحرفي للقرآن على خطأ، يجب “تفسير” النص؛ وهذا يعني أنه يجب تجاهل المعنى الواضح للكلمات وتصبح النظرية العلمية التي تقدمها فلسفة أرسطو مقبولة في مكانها. يمكن للشخص المتعلم أن يقدر الحجج “الجدلية” المحتملة لدعم الوحي. وهذا الكائن النادر، الفيلسوف الحقيقي، يحتاج ، ويمكن أن يجد، أدلة مقنعة على الحقيقة. لقد أسيء فهم هذه العقيدة كمبدأ للحقيقة المزدوجة: عقيدة أن شيئًا ما يمكن أن يكون صحيحًا في الفلسفة وهو غير صحيح في الدين، والعكس صحيح.
من هنا فإن ابن رشد على استعداد للتضحية ببعض المذاهب الإسلامية السائدة من أجل الحفاظ على توافق الفلسفة والدين. على سبيل المثال، يعتقد جل المسلمين تقريبًا أن الكون له بداية، لكن ابن رشد يتفق مع أرسطو أن الكون قديم؛ أي أنه كان موجودًا دائمًا وأبدًا، ويقول أنه لا يوجد شيء في القرآن يناقض هذا الرأي.
مسألة بعث الموتى، من ناحية أخرى، يصعب تضمينها في عالم أرسطو. يقول ابن رشد أنه يجب علينا أن نؤمن بالخلود الشخصي، وأيما شخص ينكر هذا هو زنديق يجب إعدامه. لكنه يتخذ موقفًا مختلفًا عن أسلافه بالقول أن أطروحة أرسطو “عن الروح” لا تذكر أن الإنسان لديه روح خالدة؛ بل وفقًا لتفسير ابن رشد، ما يقوله أرسطو هو أن الإنسانية خالدة فقط من خلال الفكر المشترك. يبدو ابن رشد كمن يقول أن هنالك حقائق يمكن اكتشافها من قبل البشر والتي تبقى حسنة إلى الأبد، ولكننا كأفراد سنهلك عندما تموت أجسادنا.
عندما تولى أبو يوسف يعقوب المنصور علت مكانة ابن رشد عنده، وظل يخالطه مخالطة الأخ والصديق حتى وقعت الجفوة بينهما لأسباب مجهولة. وأصدر المنصور أمرًا يحرم تدارس الفلسفة ولاحق المشتغلين بها، وأمر جماعة من الفقهاء بتقرير صحة عمل ابن رشد دينيًا، فخلصوا إلى الحكم عليه بالمروق، ثم اتهم علنًا بالزندقة، فجرد ابن رشد من منصبه ونٌفي.
بعد ذلك تواسط له جماعة من إشبيلية حتى رضي عنه أبي يعقوب واستقدمه إلى مراكش، لإاقام فيها حتى توفي عام 1198م.
إن دعوة ابن رشد للفلسفة الأرسطية (إذا كانت للنخبة فقط) قد تجنبها زملائه المسلمين ولم تجد فلسفته رواجًا ولا تقبلاً في الوسط الإسلامي. لكن أعماله، مترجمة إلى العبرية واللاتينية، كان لها تأثير هائل في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. أصبح العلماء الذين دعموا آراء أرسطو وابن رشد معروفين باسم Averroists، وكان من بينهم علماء يهود مثل موسى بن ميمون، وعلماء لاتينيون مثل Anicius Boethius و Siger of Brabant. ومنحه دانتي مكانًا مشرفًا في جحيمه كمؤلف التعليق العظيم. وقد أشار إليه دُراس أرسطو، على مر العصور، ببساطة باسم المعلق. قبلت “جماعة ابن رشد” اللاتينية فلسفة أرسطو كما فسرها ابن رشد على أنها الحقيقة وفقًا للعقل- على الرغم من تأكيدها أيضًا على مجموعة متضاربة على ما يبدو من “الحقائق” المسيحية. لقد وصفوا بأنهم يدافعون عن نظرية “الحقيقة المزدوجة”، لكن وجهة نظرهم هي بالأحرى أن الحقيقة مرتبطة بسياق التحقيق.