الخيال بلا فكر مجرد خيال، لكن الفكر بدون خيال أمرٌ لا طائل منه.
هذا جزئيًا سبب استخدام العلماء والفلاسفة على حد سواء لسيناريوهات خيالية تساعدهم على صقل أفكارهم ودفعها إلى أقصى حدودها. الغرض من هذه “التجارب الفكرية” هو تجريد الأشياء التي تعقد الأمور في الحياة الواقعية من أجل التركيز بوضوح على جوهر المشكلة.
المعضلة الأخلاقية الواقعية ستكون دائمًا معقدة بسبب عوامل عرضية خاصة بالسياق. خذ على سبيل المثال القضية العامة حول ما إذا كانت التضحية بشخص ما لإنقاذ آخرين جائزة أخلاقيًا، يتعقد الموضوع عندما يكون المضحى به شخص يقربنا أو يعز علينا، أو إذا كان الأشخاص المراد إنقاذهم هم الذين وضعوا أنفسهم في هذا الموقف بسبب سوء تقديرهم، ويختلف الأمر عندما ننظر إلى تضحية جندي بنفسه أو شخص نقتله للتبرع بأعضائه لنفس العدد من الأشخاص، تتطلب الحقوق والأخلاق فكّ كل هذه العوامل المتعددة، وموازنة الاعتبارات المختلفة وفقًا لذلك.
تساعد التجارب الفكرية لأنها، مثل التجارب العلمية، تهدف إلى عزل المتغيرات الرئيسية والعوامل الثانوية لمعرفة الفرق الذي تحدثه في فهمنا للعالم ومسائله.
ولا تتمتع تجارب الفكر فقط بميزة كونها منظمة أكثر من الحياة الواقعية، بل يمكنها في الواقع مساعدتنا في التفكير في الأشياء التي يمكننا أو لا يمكننا أن نختبرها في الحياة الواقعية. في بعض الأحيان تدفعنا لتخيل ما هو غير عملي أو حتى مستحيل، سواء بالنسبة للآن أو في أي زمنٍ كان أو سيكون، وبالنسبة لأي شخص. على الرغم من أن ما تدفعنا هذه التجارب للنظر فيه قد يبدو غريبًا، إلا أن الغرض هو نفسه لأي تجربة فكرية: الحفاظ على تركيزنا على مفهوم أو مشكلة أساسية واحدة. إذا ساعدنا سيناريو مستحيل على القيام بذلك، فلا داعي لأن تقلقنا استحالة ذلك. التجربة الفكرية مجرد أداة لمساعدتنا على التفكير والتأمل، ولا تَدعي عكس الحياة الواقعية.
بعض التاريخ
كان لنهج “التجارب الفكرية” -مهما كانت تسميتها- دور مهم ليس فقط في الفلسفة النظرية، ولكن أيضًا في العلوم العملية على مر القرون.
أحب الإغريق بشكل خاص الاستكشاف باستخدام هذه التقنية. لا يعني ذلك أنه لم يكن لديهم أي مفهوم عن التجريب الأكثر تقليدية أيضًا. إمبيدوكليس (495-435 قبل الميلاد)، الذي قسّم العالم بحكمة بين قوتين: “الحب” و “الشقاق”، أسس أيضًا واحدة من أولى كليات الطب. وهيراقليطس (حوالي 500 قبل الميلاد)، كان يحب الكتابة عن تجارب فكرية مثل تلك الشهيرة التي تتحدث عن استحالة دخول نفس النهر مرتين، وذلك نظرًا لأن “كل شيء متدفق”؛ توصل لذلك في النهاية بقوة العقل التي يمكن أن تتأمل ما لا تدركه الحواس، بحيث يمكن العثور على الأشياء المهمة حقًا.
كما يقدم بطليموس (87-150 م) في كتابه Almagest حججًا مختلفة تقع في مكان ما بين “التجارب الفكرية” والتجارب الحقيقية. يجادل على وجه الخصوص بأنه نظرًا لأن جميع الأجسام تسقط نحو مركز الكون، يجب أن تكون الأرض ثابتة في ذلك المركز، وإلا فلن تُرى الأجسام تسقط باتجاه مركز الأرض. لم يكن بإمكان مستمعيه في ذلك الزمن إجراء تجاربهم “الحقيقية” الخاصة بهم، لكن الافتراض الأول الكبير فقط كافٍ ليقف بينهم وبين تأكيد خطأ بطليموس، وهو بالتأكيد تذكير بمخاطر تقنية التجربة الفكرية، وأيضًا تذكير بمخاطر أسلوب التجربة “الطائش”. لم يكن نقص الاختبار هو ما يمثل مشكلة في نظرية بطليموس، بل الافتراضات التي قامت عليها.
صميم بطليموس تجارب أخرى لإظهار أن الأرض لا يجب أن تكون في مركز الكون فحسب، بل يجب أن تكون ثابتة تمامًا- مثل الصخرة. للقيام بذلك، يطلب منا بطليموس أن نفكر في حقيقة أنه إذا تحركت الأرض فلا بد أن تظهر نتائج غريبة معينة. على وجه الخصوص، إذا كانت الأرض تدور مرة واحدة كل 24 ساعة، فمن البديهي أن الجسم الملقى عموديًا لأعلى لن يعود إلى نفس المكان، ولكنه سيتراجع قليلاً إلى أحد الجوانب؟
بالنسبة لأفلاطون، كما هو الحال بالنسبة لهرقليطس، يجب على أولئك الذين يرغبون في فهم الظواهر في العالم الطبيعي أن يدركوا أن تجربة الأحداث بالحواس هو وسيلة ضعيفة. حوارات أفلاطون مليئة بالتجارب الفكرية: هنالك گيگس مع خاتمه السحري الذي يستكشف طبيعة الأخلاق، و”الصديق المجنون” الذي يبحث عن سكينه، وهناك الاستعارة المشهورة لسجناء الكهف، والتي تدور حول طبيعة المعرفة. وعملية تطوير المجتمع بأكملها الموضحة في الجمهورية هي في الواقع تجربة فكرية تم إعدادها بعناية.
وأرسطو، الذي مثل نوعًا معينًا من العلماء عادة ما يبجل تفوق الملاحظة، دلل باستخدام تجربة فكرية واحدة أو تجربتين. في كتابه الميتافيزيقيا (الكتاب السابع) على سبيل المثال، يقدم تجربة عن شخصين، أفلاطون وسقراط، بعد أن جُردت خصائصهما “غير الأساسية” تاركين فقط “جوهرهما”. يسأل كم عدد الجواهر الناتجة؟ واحد لكلا الشخصين أم جوهرين مختلفين؟
لكن أهمية أرسطو في تاريخ “التجارب الفكرية” لا تكمن في استخدامه لها بقدر ما تكمن في توفيره لثروة من المعتقدات الخاطئة والضعيفة الحكم حول العالم المادي. كما أشار برتراند راسل، فإن أرسطو مليء بالسخافات، على الرغم من صيته. يصر أرسطو، مثلاً، على أن دم الإناث أكثر سوادًا من دم الذكور، أن الخنزير هو الحيوان الوحيد المعرض للإصابة بالحصبة، وأن للنساء أسنان أقل من الرجال، وكانت هناك أيضًا آراء أكثر ثقلًا حول الجاذبية والزمان والمكان والتي كان على الفلاسفة والعلماء اللاحقين بذل جهد كبير لإثبات الخطأ فيها. وغالبًا ما كانت الحجج الأكثر إقناعًا غير تجريبية، بل مفاهيمية، تستخدم تقنية التجربة الفكرية.
في العصور الوسطى نجد قصة ابن طفيل عن حي بن يقظان كتجربة فكرية مفصلة عن نشوء المعرفة، والمعرفة القبلية والبعدية، وتأثير البيئة. وأعطت الجاذبية القصصية للتجربة محفزًا لانتشار المحاجات المنطقية عوضًا عن الأسلوب الكلامي الرياضي والمعقد.
لكن عصر النهضة هو الذي أنتج أغنى محصول من التجارب الفكرية، بما في ذلك تجارب جاليليو وديكارت ونيوتن و لايبنيز. هؤلاء كانوا مفكرين تكمن اهتماماتهم في “الفلسفة الطبيعية” والذين اعتبروا أن أفضل التجارب تعمل من خلال جعل أي قوانين طبيعية مفترضة واعية وواضحة. استخدم ديكارت هذه التقنية بحماسة خاصة، حيث قدم في التأملات (1641) سيناريو الدماغ في الوعاء”، جنبًا إلى جنب مع عالم محتمل يسكنه بشر الآليون، وآخر يديره “شيطان خبيث”، وأخيرًا التأمل الثاني، حيث يجد أنه لا يستطيع التأكد من أي شيء سوا أنه يفكر، وبالتالي يصل لاستنتاج مفاده أن الشيء المؤكد الوحيد هو التفكير في حد ذاته.
واعتبر هيوم، مثل ديكارت، أن “التصور” يماثل الاحتمال وأن الأشياء التي لا يمكن تخيلها لا يمكن أن تكون ممكنة:

في بعض الأحيان يُرجع التنظيم الفلسفي للتجارب الفكرية للعالم الدنماركي هانز كريستيان أورستد (1777-1851) الذي لم يرها أداة للتنبؤات أو استبدال القياس، ولكن كأداة للتوصل إلى فهم أفضل للطبيعة. بالنسبة له، تكمن قيمة التقنية أولاً وقبل كل شيء في افتراض نوع من “قانون طبيعي” ثم مطالبة المجرب بتطبيق القانون في بيئة جديدة – محيرة. قيل أن أورستد نفسه (ربما مثل كانط أيضًا) كان يبحث عن “طريق وسط” بين العلم المختبري الأعمى والتكهنات الميتافيزيقية غير الناجحة.
في تاريخ العلم، يجب الاعتراف بالتجربة الفكرية كطريقة علمية في حد ذاتها، فجاليليو لم يسقط الكرات من برج بيزا المائل فعليًا- لقد كان ذلك تجربة فكرية. وبالمثل، فإن إجراء ليبنيز لدحض قانون ديكارت للتصادم لا يتطلب دحرجة كرات البلياردو بأحجام مختلفة؛ يُنظر إلى التجربة الفكرية وحدها على أنها حل للمسألة.
والكثير من الفيزياء الحديثة لم تُبنى على القياس بل على التجارب الفكرية. لم يقم آينشتاين بإجراء قياسات في مصعد سريع، ولم يضع شرودنجر قطة في صندوق به جسم مشع؛ لقد كانت التجارب كافية فكريًا. إنها تمارين عملية ممكنة تمامًا، لكن الهدف من التجربة الفكرية هو أن تطبيقها لن يساعد كثيرًا: كل المعلومات الضرورية موجودة بالفعل. وفي الواقع، استخدمها كل من جاليليو ونيوتن وداروين وآينشتاين بشكل كبير لحل المشكلات المعقدة والمناقشات العلمية، وليس فقط استكشافها. لقد ابتكروا سيناريوهات، وأجبروا الآخرين على اتباع منطق الحكاية وقبول نتائجهم في النهاية. كانت هذه تجارب جوهرية حدثت بالفعل في “مختبر العقل“.
في الفلسفة الحديثة نجد أن التجارب الفكرية في كل مكان وبشكل كثيف؛ من مسرحية سارتر عن فلسفة “الجحيم هو الآخر”، لسيزيف كامو، ومعضلة البطة والأرنب عند فتجنشتاين. وكذلك، “الشبح في الآلة” للفيلسوف البريطاني جيلبرت رايل التي تصف ثنائية العقل والجسد لدى رينيه ديكارت. كما أن برتراند راسل (1872-1970) استخدم هذه التقنية بشكل كثيف ومتقن، كما في مفارقة الحلاق المتعلقة بالمجموعات الرياضية، وسيناريو إبريق الشاي الذي صاغه لتوضيح أن عبء الإثبات الفلسفي يقع على عاتق الشخص الذي يقدم ادعاءات غير قابلة للدحض، بدلاً من تحويل عبء الدحض إلى الآخرين، ونجد أن كتابه ألف باء النسبية مليء بالتجارب الفكرية التي تحاول إيصال نظرية النسبية المعقدة للقارئ.
هذه السلسلة
السيناريوهات الواردة في هذه السلسلة مستوحاة في الغالب، ولكن ليس دائمًا، من حجج الفلاسفة وكتبهم. في بعض الأحيان تأخذ السيناريوهات افتراضات نادراً ما نشكك فيها وتقلبها رأسًا على عقب لإعادة النظر في المسلمات، أو تقترح طرقًا لحل ما يبدو أنه مشاكل مستعصية، وأحيانًا تجعلنا نرى المشكلات التي لا تبدو كمشكلات على الإطلاق حتى نرى آثارها.
هذه السلسلة ليست مرجعية ولكن بالأحرى استفزاز.. حافز لمزيد من التفكير. في بعض الأحيان قد يتوفر تعليقات تتبع السيناريوهات كاقتراح للخروج من الصعوبة، أو زيادة صعوبتها عبر إظهار الخيارات الممكنة.
يمكن أن تبدأ العديد من خطوط التفكير ووجهات النظر المختلفة من هذه السلسلة، لكن لا شيء ينتهي بها.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.